وكان إعجاب لنكولن بهنري قد ذهب فجأة حين زار أبراهام مدينة لكسنجتن عام 1846؛ ليستمع إلى خطاب أعلنت الصحف أن هنري سيلقيه هناك، فلما رآه أبراهام وسمعه - وكان قد سافر هذا السفر الطويل ليسمعه - لم يعجبه كخطيب، لا في سمته ولا في صوته، كما أنه رآه متكبرا يتعصب لآرائه ويظن أن الناس دونه في الفهم والسياسة، وقد لمس لنكولن فيه هذه الخصال عن قرب؛ إذ دعاه هنري فنزل ضيفا عليه أياما، كان هنري يتسامى فيها على كل شخص معجب به، كأنما يشعر أن من حقه أن يكون موضع الإعجاب وأن يشمخ بأنفه كما يشاء.
وكان أبراهام عائدا من إحدى جولاته الانتخابية، التي أخذ يدعو فيها لتيلور ضد كاس مرشح الديمقراطيين وهو ممتلئ حماسة وأملا ونشاطا، شأنه في كل دعوة يدعو إليها، فوجد كتاب صاحبه هرندن فقرأه ورد عليه قائلا:
إن الأمل والثقة عظيمان في الميدان الانتخابي كله، وكنت أتوقع أن تصلح إلينوى موقفها وتنشط في هذا المضمار، ولك أن تحكم كيف كان ممزقا للقلب أن أجيء إلى حجرتي فأجد كتابك المثبط وأقرأه.» على أن اليأس لم يتطرق إلى قلبه الكبير؛ فقد استرسل في كتابه يقول: «والآن فيما يتصل بالشباب ينبغي ألا تنتظروا حتى يدفعكم إلى الأمام من هم أكبر منكم، وهل تظن مثلا أني كنت أحظى بالاعتبار لو أني لبثت حتى تصيدني ودفعني إلى الأمام الشيوخ، اجتمعوا أيها الشباب وألفوا ناديا حيثما اتفق ورتبوا اجتماعات لكم وخطبا، اقبلوا في صفوفكم كل من تستطيعون قبوله، اجمعوا الفتيان المتوثبين ذوي الجرأة أينما سرتم سواء من بلغ سن الرشيد منهم ومن كان دونها قليلا، واجعلوا كلا منهم يلعب الدور الذي يحسن لعبه أكثر من سواه؛ فبعضهم يخطب وبعضهم يغني وكلهم يهتفون، واجعلوا اجتماعاتكم في الأماسي، فسيذهب الكبار من الرجال والنساء ليستمعوا إلى ما تقولون، وبذلك لا تكون الفائدة من هذه الاجتماعات مجرد الدعوة لانتخاب «زاك العجوز» فحسب، بل إنها تكون مع ذلك قضاء ممتعا للوقت وسبيلا إلى إصلاح مواهب من يشهدونها.
ولكن هرندن كان متشائما يحس ضعف حزب الهوج ويتوقع قرب فنائه، وقد نشرت بعض الصحف المحلية آراءه هذه فقص منها قصاصات، وأرسلها إلى لنكولن فجاءه منه هذا الكتاب الذي تجد فيه أمثلة واضحة لأخلاق لنكولن وسجاياه قال:
وصلني كتابك المصحوب بقصاصات الصحف ليلة أمس، وإن موضوع هذا الكتاب ليؤلمني أشد الألم، ولا يسعني إلا أن أفكر أن هناك خطأ فيما تذهب إليه من الدوافع التي تحرك الشيوخ، وإني أزعم أني الآن أحد الشيوخ، وإني أعلن معتمدا على صدقي الذي أثق من حسن رأيك فيه، أنه ما من شيء يرضيني أكثر من أن أعلم أنك ومن معك من أصدقائي الشباب تأخذون قسطكم في الصراع القائم، وتعملون ما يحببكم إلى الناس، ويرفعكم إلى منزلة أسمى مما استطعت أن أناله من إعجابكم، ولن أستطيع أن أتصور أن غيري يرى ما لا أرى، وإن لم أكن قادرا على أن أبرهن على هذا الزعم الأخير، بيد أني كنت حدثا مرة وإني لواثق من أنه لم يلق بي أحد إلى الوراء إلقاء غير كريم. إن سبيل الشاب إلى الرفعة هو أن يصلح حاله بكل ما استطاع من وسيلة دون أن يظن الظنون بأحد أنه يريد أن يعوق سبيله. ودعني أؤكد لك أن سوء الظن والحقد لم يعينا امرءا قط على أمره في أي موقف من المواقف. أجل، ربما وجدت محاولات غير كريمة لتحول بين شاب وبين طموحه ولتبقيه حيث هو، وإن هذه المحاولات لتنتج إذا سمح لعقله أن يتنكب مجراه الحقيقي ليأسى مفكرا فيما يراد به من ضرر. انظر، ألم يؤذ مثل هذا الشعور كل شخص وقع فيه ممن عرفت؟ وبعد، فأنا على يقين من أنك لن تظن شيئا في هذا الذي ذكرت إلا الصداقة الأكيدة ... إني أريد أن أنقذك من خطأ قاتل، لقد نشأت شابا عاملا دائبا، وإنك تعلم عن معظم المسائل أكثر مما كنت أعلم وأنا في سنك، ولا يمكن أن تفشل في أمر تضطلع به إلا إذا وجهت عقلك وجهة غير صحيحة، وإني أفضلك بعض الفضل في تجارب الحياة؛ لأني أكبر منك فحسب، وإن هذا هو الذي يميل بي إلى أن أنصح لك.
ولعل في هذا الكتاب ما يثير شبهة حول علاقة هرندن بصاحبه، الذي عرفنا قبلا أنه كان من أكبر المتحمسين له المعجبين به، ولعل هرندن قد ذكر شيئا في كتابه عن الشيوخ والشباب واختلاف نزعاتهم وميولهم ورغبة الشيوخ في السيطرة والاستبداد بالأمور، ولكن الأمر فيما يظهر لم يعد أنه خلاف في الرأي، وعجيب أن يزعم لنكولن أنه شيخ وهو لم يتجاوز التاسعة والثلاثين إلا قليلا.
ولم يقتصر الأمر على الخلاف بين أبراهام وصاحبه في شئون السياسة، ولا بينه وبين أصدقائه من الهوج بسبب حملته على الرئيس في حرب رحب بها الشعب كله؛ بل لقد شاع عنه أنه يضن بوساطته وشفاعته على ناخبيه، والواقع أنه لم يكن يقبل أن يتوسط أو يتشفع إلا بالحق، وقد فشا في الناس ما أشيع عنه بسبب حادثة، تتلخص في أنه رفض أن يكتب خطابا طلب منه أحد ناخبيه أن يزكيه به، فأطلق الرجل لسانه فيه بما لا يليق، فكتب إليه لنكولن يقول:
لقد شعرت بأعظم العطف عليك منذ أن تعارفنا، وافترضت أنك تبادلني عطفا بعطف، وفي الصيف الماضي تحت تأثير ظروف ذكرتها لك تألمت إذ لم أستطع أن أجيبك إلى تزكية أردتها، وعلمت بعد ذلك بقليل، علما يحملني على التصديق، أنك أسرفت في الجهر بالطعن علي، ولقد جرح شعوري بالضرورة بسبب ذلك، وعندما تسلمت كتابك الأخير خطر لي هذا السؤال: أتراك تطلب عوني في الوقت الذي تؤذيني فيه، أم أنه قد أسيء تصوير ما حدث منك؟! فإن كانت الأولى فما كان لي أن أرد عليك، وإن كانت الثانية وجب علي ذلك، ولهذا بقيت زمنا معلقا بين الوضعين، وإني الآن أرسل طي هذا الكتاب الذي يمكنك أن تستخدمه إذا رأيته مناسبا.
وكان هرندن يتألم مما يشاع عن صاحبه في سبرنجفيلد، ويدافع عنه ما وسعه الدفاع، وإن كان يتمنى لو لم يلق أبراهام ذلك الخطاب، الذي يحار كيف يدافع معه عن صاحبه وإنه ليخالفه مع المخالفين فيما ذهب إليه.
على أن لنكولن لم يكن بالرجل الذي يتقيد بأهواء غيره فيما يأخذ أو يدع، وإنما كان رائده الحق والعدل، لا يهمه أغضب الناس أم أرضاهم. ولقد كان له في هذا الدور الأول لانعقاد الكونجرس خطبتان غير تلك الخطبة، أعلن فيهما لنكولن آراءه مجردة من كل اعتبار إلا العدالة كما يفهمها ويؤمن بها؛ تكلم في الخطبة الأولى بمجلس النواب عما يتصل بتركيز السلطة، وما نجم عنه من عدم المساواة بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات في بعض المسائل، فضرب لهم المثل بالأسطول فقال: «إن الأسطول مثلا هو أعم هذه الأشياء فائدة، ومع ذلك فإن له مزية خاصة لكل من شارلستون وبالتيمور وفيلادلفيا ونيويورك وبوستن أكثر مما له بالنسبة إلى داخلية إلينوى، وعلى ذلك فثمة فوائد محلية في مسائل عامة، وعكس ذلك صحيح أيضا؛ فلن يكون شيء في محليته بحيث لا ينطوي على بعض الفائدة العامة، والذي يستخرج من هذا كله أنه إذا رفضت الأمة أن تنهض بإصلاحات تتوفر فيها الناحية العامة لأنها تنطوي على بعض الفائدة المحلية، فكذلك تستطيع الولاية للسبب نفسه أن ترفض بعض الإصلاحات المحلية لأنها ربما تؤدي إلى فائدة عامة. تستطيع الولاية أن تقول للأمة: إذا لم تعملي شيئا من أجلي فلن أعمل من أجلك شيئا، وهكذا يتضح أنه إذا كان هذا الجدل الدائر حول عدم المساواة كافيا لوجهة نظر في جانب، فإنه كذلك كاف في كل جانب وفيه القضاء على الإصلاحات نهائيا، ولكن لنفرض مع كل هذا أن هناك قدرا من عدم المساواة، حقا إن عدم المساواة لا يمكن أن يقبل في ذاته، ولكن هل يرفض كل أمر صالح لأنه يتصل صلة لا انفصام لها به؟ إذا كان ذلك فيجب أن نلغي الحكومة كلها، إن هذا البناء - أعني مقر الحكم - قد أقيم بنفقة عامة من أجل الصالح العام، ولكن هل يشك أحد أن هناك فائدة محلية تعود من وجوده على أصحاب الأملاك ورجال الأعمال من ساكني وشنطون؟ فهل نزيله من أجل هذا السبب؟
Unknown page