وانتهت المعركة بفوزه فوزا لم يتح مثله لأحد قبله من الهوج في إلينوى، وكان يومئذ في السابعة والثلاثين من عمره، وكان الحزب قد أعطاه مائتي دولار لينفق منها فيما تتطلب المعركة الانتخابية من أوجه الإنفاق، ولكنه بعد الفوز يرد المبلغ ولم ينقص منه إلا ثلاثة أرباع دولار، قائلا إنه لم تكن به حاجة إلى النقود؛ حيث كان ينتقل من جهة إلى جهة على ظهر حصانه، وأنه كان ينزل ضيفا على أصحابه حيث تعد له الاجتماعات.
وفرحت ماري بالنصر فرحا شديدا، وحق لها أن تفرح، وإنها لتحس أنها تخطو خطوة نحو هدفها، وهل كان ذلك الهدف إلا كرسي الرياسة يتربع عليه زوجها؟ وإنها ما تفتأ تستحثه وتشد أزره وتحذره أن ينصرف عن وجهته.
وكان هذا النجاح كفيلا أن يبث في قلب أبراهام من الغبطة والابتهاج بقدر ما بثه فيه طول الانتظار من الضجر والملل، ولكنه كتب إلى صديقه سبيد ينبئه أنه لم يهتز كثيرا للنجاح كما خيل إليه من قبل أنه فاعل إذا ظفر، وتلك حال من حالاته العجيبة، بل هي حال من حالات النفس تدعو إلى العجب! فكثيرا ما يتمنى المرء ما ليس في يده حتى لتكون سعادته كلها مجتمعة في أن ينال ذلك الذي يتمناه، فإذا اقترب من بغيته أو شبه له أنه مقترب منها راح يطفر من الفرح، ورأى في كل شيء حوله معاني الحبور والغبطة! أما إذا بعد عن ضالته أو خيل إليه أنه مبتعد عنها، ضاقت في وجهه الدنيا، وبات من همه كأنه في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج، حتى إذا قدر له آخر الأمر أن يرسو على الشاطئ وأن ينال مبتغاه، وقف حياله وقفة من لم يجد شيئا، وفتح عينيه على الحقيقة كمن يفيق من حلم ذابت ألوانه وتلاشت أطيافه وتبددت رؤاه، ذلك هو غرور الحياة أو تلك هي أحلامها، ولكن ما قيمة الحياة في جملتها إن هي خلت من هاتيك الأحلام؟!
عضو في الكونجرس
سافر أبراهام وزوجته سفرا طويلا إلى وشنطون في شهر نوفمبر سنة 1847، وكانت ماري راضية عن زوجها متفاخرة به مطمئنة إلى مستقبله، وفي هذه العاصمة شهدت ماري البيت الأبيض، وأطقلت العنان لخيالها وأمانيها، ورأت زوجة الرئيس بولك تقدم إليها السيدات احترامهن إذ تلقاهن في مثل وقار الملكة المتوجة وعظمتها، وإن لم يعل التاج رأسها. وتطلعت ماري إلى المستقبل وهي تطيل النظر إلى مسز بولك في إعجاب وإجلال.
وفي شهر ديسمبر اتخذ أبراهام مقعدة في الكونجرس عضوا في مجلس النواب عن إلينوى، وهو اليوم غيره حين دخل سبرنجفيلد قبل ذلك بعشرة أعوام على جواده الهزيل؛ هو اليوم مهندم الملابس؛ إذ تعنى زوجه بهذا عناية شديدة، وقد ذهبت عن محياه نظرات السذاجة التي جعلت ذلك الإنجليزي بالأمس يصفه بأنه أشبه بفلاح يشهد البهلوان لأول مرة، وهو اليوم ملم بالسياسة ومسائلها وبمشكلة العبيد وتاريخها، وهو لا يخشى تهيبا ولا وجلا إذا تحدث أو تهيأ للخطابة، وكانت زوجه تراه في مقعده من شرفة الزائرين، وفي وجهها ابتسامة الرضى عنه والزهو بجلوسه حيث يجلس، وإن كانت لتغضب أحيانا حين تسمع من يتساءل عن ذلك الشخص النحيف الطويل، فيكون الجواب أنه محام من الغرب ، وتسأل نفسها متى يذكرونه باسمه، أو متى يعرف كما يعرف غيره من رجال السياسة فلا يتساءل أحد عنه، وإنها لترى دوجلاس وهو في الكونجرس عضو في مجلس الشيوخ أعلى درجة من بعلها، وتجده معروفا لا يتساءل الناس عنه فتتألم وتعبس، ولكن هاجسا يهمس في نفسها بمستقبل أبراهام فيسري عنها غضبها.
وسرعان ما أنس الناس بأبراهام، فهم إذا جلسوا إليه يشعرون أن روحا قوية تسري إليهم منه، وكذلك تطل عليهم نفسه في فيض من قصصه ونوادره، فكثيرا ما يخرج من صمته مبتدئا في بشر بهذه العبارة «يذكرني ذلك بحكاية ...»، ثم يتلو حكايته أو يحكي نادرته في عذوبة روح وسراوة طبع وجمال أداء، حتى ما يدع أحدا إلا وهو شديد الإعجاب به عظيم الانجذاب إليه، سواء من كان مثله من الأصقاع الغربية أو من كان من أصقاع الشرق.
وكانت مسألة الحرب المكسيكية تشغل الأذهان يومئذ، وقد أرسل الرئيس بولك رسائل إلى الكونجرس يبرر فيها أسباب إعلان هذه الحرب ويبرر طولها، ويعبر عن أمله في أن تنتهي قريبا بالنصر.
ونظر رجال الكونجرس، فإذا بذلك المحامي النحيف الطويل القادم من الغرب يخطو خطوة جريئة تلفت إليه جميع الأعضاء كما تلفت إليه الصحافة، ذلك أنه قدم أسئلة إلى الرئيس عن هذه الحرب، ثم أعلن رأيه في خطبة قوية احتفل لها، وفيها وجه اللوم في صراحة وجرأة إلى رئيس الاتحاد أن خرج بهذه الحرب على الدستور كما فرط بها في أصول الخلق والعدالة.
تساءل أبراهام: هل كانت الحرب حرب عدوان أم حرب دفاع؟ وهل كانت الولايات المتحدة هي البادئة بها أم المكسيك؟ ثم قال: «ليجب الرئيس بوقائع لا بجدل، وليذكر الرئيس أنه يجلس حيث جلس وشنطون، وإذا ذكر ذلك فليجب كما كان يجيب وشنطون، وكما أنه لا يليق بأمة أن تهرب من الحق والله لا يسمح أن يهرب منه، كذلك فليتجنب الرئيس الهرب والمراوغة، فإذا استطاع أن يقيم الدليل على أن الأرض التي سالت عليها الدماء أول ما سالت هي أرضنا، فإني أوافقه على ما يسوق من مبررات، ولكنه إذا عجز عن ذلك أو أحجم عن البرهان كنت خليقا أن آخذ على اليقين ما يهجس في نفس مما هو أكبر من الظن، فأرى أنه يشعر بخطيئته، وأن الدم الذي سال في تلك الحرب هو كدم هابيل يستصرخ عليه السماء، فقد ورط الدولتين في حرب ووثق من تجنبه الاستجواب بأن حسر الأبصار في سنا العظمة الحربية، قوس الغمام الجذاب الذي يعلو في رذاذ من الدم أو عين الثعبان التي تسحر لتهلك، ثم أثخن في الأرض وسيق مرحلة بعد مرحلة، حتى إذا فاته التوفيق فيما قدر لإخضاع المكسيك من سهولة، وجد نفسه بحيث لا يعلم أين يكون مما هو بسبيله ...»
Unknown page