كفاح ونجاح
في شهر مايو سنة 1846 سنحت الفرصة بعد تلك الأعوام الأربعة التي قضاها أبراهام ينتظر أن يرشح للكونجرس، ولكنها أوشكت أن تفلت منه هذه المرة كذلك، لولا مهارة زوجه ولباقتها في التأثير على رجال الحزب حتى ظفر آخر الأمر بالترشيح، ولما تم له ذلك راح يخوض المعركة الانتخابية وأمله في الفوز عظيم.
وعجب الناس أن رأوا لنكولن يومئذ يعمل على كسب التأييد بوسائل منظمة، وهو الذي اعتاد من قبل أن يعمل حسبما تملي عليه المواقف في غير تدبير أو ترتيب. عجب الناس أن رأوه يرسم الخطط ويسدد السهام فلا تخطئ مرماها، وكأنه كان في تلك المعركة الانتخابية قائدا في معركة حربية، يدبر الهجوم ويعد وسائل الدفاع وهو بصير بالموقف عليم بما يدور حوله، يميز باللمحة الخاطفة ما يأخذ مما يدع، ويتبين مهما اشتد من حوله ضجيج الموقف الطريق المؤدية إلى النصر.
كتب إلى أصدقائه في نواحي المقاطعة يطلب إليهم العون ويسألهم أن يدلوه على مؤيديه ليكتب إليهم شاكرا، وعلى مخالفيه ليبتغي إلى إقناعهم الوسيلة، وأخذ يتحدث في الأندية ويخطب في الجماعات لا يدع فرصة ولا يتخلف عن موعد، وله من نباهة الذكر وطيب السمعة ومن محبة الناس لشخصه ما ينزله على الرحب أينما حل، وهل كان الناس يعرفون في خلقه غميزة، أو يجهلون من خلاله ما يحببه إلى قلوبهم؟!
ولكن للسياسة حكمها ولها غرائبها، وكم تأتي رياحها الهوج على ما بين الناس من مودة! وكم تترك ألاعيبها وأضاليلها الناس في عماية وغواية! وكم تصدهم الشهوات في معتركها عن الحق وهم يعلمون! أجل كم يظهر في السياسة الباطل على الحق! وكم يدلس الرأي بالهوى! وكم يضيع ما تواضع الناس عليه من أصول الفضائل فيما تزين لهم من أوهام وأحلام، وما توحي إليهم من غرور العيش ومن مطامع الحياة!
هذا لنكولن راح يطعنه منافسه في عقيدته، وكان واعظا دينيا، فيلجأ إلى الدين يتخذ منه سلاحا فيكيد به لخصمه كيدا أليما، ولا يرعوي عن غيه بوازع من خلق أو بدافع من حياء، كان من رجال الحزب الديمقراطي واسمه كارتريت، وكان متدفق النشاط متوثب الحيوية ذرب اللسان، ونشط يستعدي على أبراهام مواهبه ويسلط عليه لسانه في غير إعياء أو سأم، يتهمه بالزيغ والإلحاد، مشيرا إلى ما أذاعه لنكولن من قبل عما يجب من تسامح نحو شاربي الخمر، عائبا على بعض رجال الدين أن ينقموا على الناس فجورهم وينكروا عليهم فواحشهم، ولا ينهضوا لنصحهم أو يعملوا على خلاصهم مما هم فيه.
وآلم لنكولن أكبر الألم أن يعمد منافسه إلى هذا السلاح وإن لم يخش على نفسه منه. ذهب مرة إلى حيث انضم إلى جماعة يستمعون إلى منافسه وهو يتلو عليهم حديثا دينيا، وبعد هنيهة قال كارتريت: «ليقف كل من يريد أن يحيا حياة جديدة وأن يسلم إلى الله قلبه وأن يذهب إلى الجنة»، ثم أردف قائلا: «ليقف من لا يريد أن يذهب إلى الجحيم»، ووقف الناس جميعا إلا أبراهام، فاتجه الرجل إليه وقال: «هل لي أن أسألك يا مستر لنكولن إلى أين أنت ذاهب؟» ونهض لنكولن فأجاب قائلا: «إني جئت هنا لكي أستمع في احترام ولم أكن أعلم أن الأخ كارتريت سيعمل على إفرادي على هذا النحو، وإني أومن أنه يجب أن تطرق المسائل الدينية بما هي جديرة به من التوقير، يسألني الأخ كارتريت في غير التواء إلى أين أنا ذاهب، وأنا أجيبه في غير التواء كذلك: إني ذاهب إلى الكونجرس! ...» وجلس لنكولن وضحكات الإعجاب تنبعث من جوانب المكان، وقد كسب عددا من المؤيدين له المحبين لشخصه.
وعلم أبراهام أن خصومه يرمونه، فيما يرمونه به من الأباطيل، بأنه أرستقراطي لا يحفل رجاء العامة ولا يستجيب لهم دعاء، ودليلهم على ذلك زواجه من ماري، فدفع تلك التهمة عن نفسه بإشارته إلى حياته الأولى يوم كان «غريبا لم يلق حظا من التعليم، معدما يعمل في قارب نظير أجر لا يتجاوز بضع دولارات كل شهر».
وفي تلك السنة كانت الحرب بين الولايات المتحدة والمكسيك دائرة الرحى؛ بسبب مشكلة تكساس، وكان بولك الديمقراطي الذي غلب هنري كليي سنة 1844 على الرياسة يشرف على شئون القتال، وقد وعد قومه نصرا عاجلا وخيرا كثيرا.
وقد تأثرت سمعة الهوج كثيرا بما كان من أمر زعميهم كليي تلقاء مسألة تكساس وضمها إلى الاتحاد، وما كان من معارضته في إعلان الحرب على المكسيك وتنديده بمسلك الديمقراطي بولك؛ ولهذا كان يلقى أبراهام عنتا شديدا من الديمقراطيين؛ إذ يذكرونه بمسلك حزبه وزعيم حزبه ومسلكه هو حين نشط لتأييد هنري كليي قبل ذلك بعامين، وعارض أشد المعارضة في ضم تكساس إلى الاتحاد، بينما يرونه اليوم يحث مواطنيه على التطوع في صفوف المقاتلين، وكانوا يعيرونه بهذا التناقض بين يومه وأمسه، ولو كان غيره في مكانه لأخذته حيرة من أمره، ولكنه أعلن في شجاعة وفصاحة أنه إذا تهدد الخطر البلاد فلا عبرة بأسباب الحرب ولا بما ترمي إليه، وإنما يجب أن يكون هم كل أمريكي أن يجنب بلاده ما يحدق بها من خطر، وأن يعمل على النصر بكل ما في وسعه، ثم إن العقلاء من الناس رأوا أن أبراهام بدعوته الناس إلى الحرب يقيم الدليل على أنه لا يتعصب لرأي له سلف لمجرد أنه اعتنقه يوما ما، وأنه ببصيرته يرى أوجه الرأي جميعا في كل ما يعرض له.
Unknown page