وكان يعنيه أن يقرأ كلامه منشورا في الصحف ليرى إن كان ثمة خلل أو ضعف، فيعمل على أن يبرأ كلامه منه بعد ذلك، ولم تكن ترتاح نفسه لشيء ارتياحها إلى حسن موقع كلامه في نفوس سامعيه أو قارئيه.
ولم تقتصر نصرته للهوج على مقدرته كخطيب، وإنما أفاد أصحابه كثيرا مما اشتهر به من بأس وقوة، وقلما خلت المعارك الانتخابية من عنف في بلد من أقطار الأرض.
وقف أحد أصدقائه يخطب الناس في حجرة متسعة كانت تقع تحت الحجرات التي يشغل إحداها مكتب لنكولن المحامي وزميله، وكان في سقف تلك الحجرة السفلى باب يستطيع فتحه من كان في حجرة لنكولن، فرفعه أبراهام قليلا ذات مرة، وقد اشتد ضجيج المجتمعين، فشاهد صديقه الخطيب وقد أحاط به جماعة من الديمقراطيين يتوعدونه ويطلبون إنزاله بالقوة من فوق المنصة؛ لما صدر منه من غليظ القول، وبينما كان السامعون في هرجهم إذ راعهم قدمان كبيرتان تتدليان بنعليهما من السقف، عرفتا لأول وهلة أنهما قدما لنكولن، ثم رأوا الساقين فالجسم كله، وإذا بهم يبصرون أبراهام وقد انقض من السقف فوقف إلى جانب صاحبه، ثم رفع ابن الغابة يده يريد الكلام، فما من أحد في الحجرة إلا وكأن على رأسه الطير، وانفرجت شفتاه بعد لحظة فقال: «أيها السادة لا تسيئوا إلى وطنكم وإلى العصر الذي تعيشون فيه ... إن هذه هي الأرض التي أخيطت فيها حرية القول بما يحفظها من ضمان، وإن لصاحبي الحق أن يتكلم، وإن له الحق أن يسمح له بالكلام، وإني الآن بجانبه لأحميه، وما من رجل هنا يستطيع أن ينتزعه من مكانه ما دمت قادرا على أن أذود عنه.»
وأنصت السامعون إلى الخطيب وقد عاد يخطب في حماية لنكولن، فما استطاع الديمقراطيون أن يقاطعوه، وما استطاعوا له دفعا.
وانتهت المعركة الانتخابية بفوز الهوج، وفرح أبراهام وأنصار الهوج بذلك النصر فرحا شديدا. وفي نفس تلك السنة، سنة 1840، انتخب أبراهام عضوا في مجلس إلينوى للمرة الرابعة.
قطيعة وصلة
لم تلهه السياسة وشواغلها نوازع قلبه وخلجات نفسه، ولا أنسته المحاماة وقضاياها وقد صار له فيها مكان مرموق، ولا الجلسات في حانوت سبيد وما كانت تثيره في نفسه من لذة، وأنى له أن ينسى وقد كانت ماري أوين - تلك الفتاة التي ارتبط بها بما يشبه العهد - تلقاه أحيانا بعد أن تزور بعض ذوي قرباها في سبرنجفيلد، كما كان هو يذهب إلى نيو سالم فيغشى بيت أختها! إن أمره في ذلك عجب! لا يستطيع أن ينصرف عنها ولا يستطيع أن يؤمن أن يحبها، تلك حال من حالات الشباب، أو حال من حالات لنكولن، وما أعجب بعض حالاته!
كانت علاقتهما علاقة فتور تجلى لها في أكثر من موقف، ولكنهما أقاما على هذه الحال زمنا؛ تحسب الفتاة أنه لم يبق إلا أن يتقدم صاحبها بالاقتراح المعروف، ويحسب الفتى أنه لم يبق إلا أن تنأى عنه فتريحه! لقد كان منقبض النفس لهذه الحيرة، يجعل للمسألة من الأهمية أكثر مما لها، تلمس ذلك في مثل قوله: «لم أجدني طيلة حياتي في قيد أرغب في التحرر منه كما أجدني في هذا القيد، حقيقيا كان قيدي أو خياليا.»
وجمع أمره فكتب إليها كتابا رقيقا محكما يشير فيه إلى دخيلة نفسه ويتلمس معرفة طويتها، دون أن تفلت منه لفظة قاسية؛ تكلم عن إحساسه بالوحشة في سبرنجفيلد، ثم أشار إلى فاقته وعسره وما عسى أن تجد عنده من متاع الدنيا من تكون زوجا له، إلى أن قال: «ربما كان ما قلته لي من قبيل المزاح، وإلا فأظنني لم أفطن إلى مرماه، إن كان الأمر كذلك فدعيه إلى النسيان، وإن لم يكن كذلك فإني أحب أن تفكري تفكيرا جديا قبل أن تقطعي فيه برأي، وستجدينني عند قولي إذا كان ذلك ما تشائين، وإني أرى ألا تشائي ذلك؛ فإنك لم تتعودي البأساء، وربما كان الأمر أقسى مما تخالين.»
وأرسل إليها بعد ذلك كتابا أكثر من هذا صراحة جاء فيه: «إن في وسعك أن تدعى هذا الأمر، وأن تطردي أي تفكير يتجه إلي، إن كان ثمة لديك شيء من هذا، ولن يترتب على ذلك أي لوم عليك مني، وقد أذهب إلى أبعد من هذا؛ فأقول إذا كان ذلك يؤدي إلى راحتك وهدوء بالك، فإني أرغب مخلصا أن تفعليه، لا تفهمي من ذلك أني أريد لك قطيعة، إني لا أريد شيئا من هذا القبيل، إنما أريد أن تكون علاقتنا في المستقبل قائمة على إرادتك، وإذا كانت هذه العلاقة بحيث لن تضيف شيئا إلى هناءتك، فإني على يقين أنها لن تضيف كذلك شيئا إلي، ولئن كنت تشعرين أنك مقيدة نحوي بأي قيد، فإني أميل الآن إلى أن أطلقك منه إذا كانت هذه بغيتك، بينما أراني من ناحية أخرى أميل إلى أن أمسكك على إذا اقتنعت أن ذلك يزيد من سعادتك بقدر خليق بالاعتبار، هذه في الحق هي المسألة بالنسبة إلي، ولن يشقيني شيء أكثر من اعتقادي شقوتك، كما أنه لن يسعدني شيء أكثر من علمي بسعادتك. وإذا حسبت أن عدم ردك على هذا خير لك فوداعا، وإني أرجو لك حياة طويلة سعيدة، أما إذا شئت أن تردي فاكتبي إلي في وضوح كما أكتب.»
Unknown page