وأظهرت هذه المساجلات السياسية جانبا من جوانب موهبته الخطابية، جانب الشجاعة الأدبية التي تنطقه بما يريد أن يقول في غير تهيب ولا التواء في لهجة حماسته، وفي بلاغة عبارة وحسن أداء.
عير أحد الديمقراطيين حزبه بقلة عددهم وبضياع أملهم، فالتفت إليه أبراهام قائلا: «وجه هذا الجدل إلى الجبناء والعبيد، أما أن توجهه إلى الأحرار البواسل فليس يجديك ذلك فتيلا، لقد فقدت دول حرة كثيرة ما كان لها من حرية، وربما فقدت دولتنا كذلك حريتها، وإذا قدر لها ذلك وكان ما يتفاخر به غيري أنه كان آخر من ترك نصرتها، فليكن أعظم ما أفاخر به أني لم أترك تلك النصرة أبدا.»
وقال في موقف آخر، وقد اشتم تهديدا موجها إلى خصوم فان بيرن على لسان أنصاره من الديمقراطيين، كما علم بأنباء اضطهادهم بغير حق: «أما أن أنحني لمثل هذا، فذلك ما لن أفعله أبدا ... وإني هنا أمام الله وفي وجه العالم كله أقسم يمين الولاء لقضية الحق، قضية البلاد التي فيها حياتي وفيها حريتي ولها محبتي، وإن هذه القضية التي اعتنقناها بعقولنا وقلوبنا لن تجد منا الهوينا في الدفاع عنها؛ في المحنة أو في الأغلال أو بين براثن الموت.»
وفي سنة 1840 بدأت المعركة الانتخابية للرياسة بين الديمقراطيين والهوج، وكان مرشح الديمقراطيين فان بيرن إذ أرادوا تجديد انتخابه، أما الهوج فكان المفهوم من أمرهم أنهم يرشحون هنري كليي؛ جريا على سياستهم القائلة بأنه يستحسن أن ينتخب للرياسة سياسي مارس السياسة في المجالس التشريعية، وعلى الأخص الكونجرس، وأن يكون أمر الانتخاب والقيام عليه بأيدي رجال السياسة، ولكنهم عدلوا عن هذا، وقد علموا ما كان من أثر جاكسون وديمقراطية جاكسون في البلاد؛ إذ جعلت كلمة الشعب هي العليا، وبحث الهوج عن رجل من صميم الشعب، له ماض في الحرب يكون شبيها بجاكسون؛ ليكسبوا بترشيحه الرأي العام؛ فوقع اختيارهم على هارسون، وكان من الطلائع الذين سكنوا الأصقاع البرية، وكانت لهم في محاربة الهنود بطولة، وكان لا يزال يعيش في بيت أقيم من الكتل الخشبية على نمط الأكواخ الساذجة الأولى، وكان يشرب عصير التفاح الشراب الوطني المحبوب لساكني الأكواخ ... وهو بهذا شبيه بجاكسون، وقد سميت معركته الانتخابية معركة الكوخ وعصير التفاح.
واستعرت المنافسة بين الحزبين، وشمر لنكولن، وقد سنحت مثل هذه الفرصة ليتمرن على مثل هذه المعارك الانتخابية الكبرى، فضلا عما يتسع أمامه من مجال للمجادلة والخطابة.
وأبرزت هذه المعركة كثيرا من جوانب موهبته كخطيب، وفي مقدمتها تهكمه الذي يزلزل به أقدام خصومه، ومقدرته على إثارة إعجاب سامعيه وامتلاك قلوبهم بما يسوق من أمثال ويسرد من قصص يصور بها ما يريد من المعاني أو يسخر بها من آراء معارضيه وأفعالهم، هذا إلى عذوبة روحه وحلاوة فكاهته ورونق عبارته وسحر أدائه.
نشط الهوج في هذه المعركة نشاطا عظيما، وكانت جموعهم تطوف في البلاد تحمل الأعلام وعليها اسم هارسون، ومنهم من كانوا يحملون مثالا مصغرا للكوخ وأمثلة لأواني عصير التفاح، فإذا ازدحم الناس للتفرج قام خطباؤهم يدعون لحزب الهوج ويحملون على الديمقراطيين، وانبرى خطباء الديمقراطيين لهم في جموع مثل جموعهم وخطباء كخطبائهم.
وشهد أبراهام كثيرا من هذه الاجتماعات، فوقف ذات مرة يخطب رادا على مزاعم الديمقراطيين فيما اتهموا به الهوج من أرستقراطية وثروة، تلك النغمة التي طالما سمعها من قبل أثناء انتخابات مجلس الوصاية، قال لنكولن: «لقد كنت غلاما فقيرا، استؤجرت للعمل في قارب بنحو ثمانية دولارات في الشهر، ولقد كنت ألبس الملابس من الجلد، وإذا علمتم ما يطرأ على الملابس الجلدية إذا جففتها الشمس وجدتم أنها تنكمش وتتداخل بعضها في بعض، ولقد قصر سروالي بسبب هذا حتى ترك جزءا من ساقي عاريا، وكنت كلما ازددت في الطول ازداد سروالي قصرا وضيقا، وقد بلغ من ضيقه أنه ترك أثرا حول ساقي لا يزال يرى حتى اليوم، فإذا كنتم ترون في هذا أرستقراطية فإني أعترف أن التهمة لاصقة بي.»
وشهدت سبرنجفيلد من هذه المظاهرات مظاهرة كبيرة حمل فيها المتظاهرون أكواخا صغيرة من الخشب، واستعاض أهل شيكاغو عن الأكواخ بمثال لمركب حملوها على عربة، وقد وصف أحد الذين شاهدوا لنكولن يخطب الناس ذلك اليوم فقال: «وقف لنكولن في عربة فخطب جمهور الناس الذين أحاطوا بها، وكان للاجتماع يومها أهمية تفوق ما لغيره من الاجتماعات؛ ومرد هذا إلى من كان يلقي الخطاب الرئيسي؛ كان يومئذ قد بلغ غاية قوته البدنية، كان طويلا يبدو أنحف مما صار إليه في أيامه بعد ذلك، وكان بنحافته أكثر ألفة في أعين الناس منه حين اكتسب فيما بعد شيئا من السمن، وكان في الحادية والثلاثين من عمره، ومع هذا فقد كان يعد من أقوى خطباء الهوج في هذه المعركة، وكان له يومئذ ذلك السر الذي يلفت انتباه الناس إليه ويجذبهم نحوه، ورأى نفسه حتى في ذلك الوقت موضع اهتمام عام؛ بسبب ما اتصف به من لمس المسائل السياسية وشرحها وتصويرها في يسر ... وكان يتناول مسائل تلك الأيام تناولا منطقيا أحيانا، ولكنه كان يجعل كثيرا من وقته لقصصه التي يشرح بها بعض ما يتناول من المسائل، ولو أن كثيرا من هاتيك القصص كان يراد به وضع خصومه في وضع مضحك.»
وكان يعنى أبراهام عناية شديدة بخطبه؛ فيدير المعاني في رأسه قبل أن ينهض للخطابة، ويختار من اللفظ ما يؤدي المعني المراد بيانه في غير نقص أو تزيد، فإذا تكلم كان بارع السياق مطمئن النفس فصيح العبارة، فإذا جد أثناء الكلام أمر لم يحتشد له واتته قريحته الطيعة ووافاه بيانه المشرق، فأتى بأحسن مما أعد وما اصطنع.
Unknown page