ووقف الخطيب وفي هندامه ووجهه وشعره الأشعث طيف الغابة، والأنظار متجهة إلى قامته الطويلة ووجهه الذي تلوح عليه علامات التحمس لموضوعه، والارتياح إلى ما أتيح له من فرصة.
وتكلم أول الأمر لم يجهر بصوته ولم يخافت به، ثم علا صوته حتى كان له رنين قوي في جوانب القاعة، وأخذ الخطيب يومئ برأسه يؤكد بعض المعاني ويشير بقبضته أو بكفيه مبسوطتين، وكانت تتشكل أسارير وجهه بما يلقي من قول؛ فيعبس ويشرق وتفعل كلماته وإشاراته فعل السحر في نفوس سامعيه.
بدأ فوصف وطنه وثروته الطبيعية أحسن وصف، ثم أشار إلى ما أتيح لهذا الوطن من نظم سياسية لا يطمع فيما هو خير منها، وامتدح من أتاحوا له هذه النظم الغالية من الزعماء. ثم ساق الكلام بعد هذا الاستهلال الرائع إلى ما عساه أن يتهدد هذا النظام من خطر، فتساءل قائلا: «من أي ناحية تنتظر أن يدهمنا الخطر؟ وما وسائلنا في دفعه إن هو حل بنا؟ أنتوقع الخطر على يد مارد عتي من مردة الحرب وراء المحيط يعبر هذا الخضم المترامي فيمحقنا بضربة منه؟ كلا!» ثم يتحمس الخطيب ويرفع صوته بقوله: «إن جيوش أوروبا وآسيا وأفريقيا مجتمعة، وفي أيديها خزائن الأرض، وعلى رأسها مثل بونابرت؛ لا تستطيع أن تنال جرعة من الأهايو ولو جاهدت ألف سنة ... فمن أي جهة يمكن أن يتهددنا الخطر؟ إني أجيب على ذلك بأنه إن كان ثمة خطر، فإنه ينجم هنا بين أيدينا، إذا كان الهلاك نصيبنا فنحن منشئوه، ونحن إن أردنا مانعوه، إننا يجب أن نعيش أبدا أمة حرة أو نقتل أنفسنا منتحرين ... وإني لألمس اليوم نذير سوء بين ظهرانينا؛ ذلك هو ما يتزايد من مظاهر عدم مبالاتنا بالقانون في هذا البلد ... إن مثل هذه الظاهرة مخيفة كل الخوف في أي مجتمع، ولئن كان يؤذي شعورنا أن نسلم بوجودها في مجتمعنا هذا، فإن إنكار وجودها زلزلة للحق واتهام لذكائنا ...
إني لأعلم أن الأمريكيين شديدو التعلق بحكومتهم، وأعلم أنهم يرضون أن يعانوا الكثير من أجلها، كما أني على علم بأنهم يتحملون المساوئ، ويصبرون عليها طويلا قبل أن يفكروا في استبدال حكومة أخرى بها، ولكن على الرغم من ذلك، فنحن إذا دأبنا على احتقار القوانين وعلى عدم اتباعها، وإذا رأى الناس أن حقوقهم في ضمان أنفسهم وأملاكهم ليس ما يمسكها إلا أهواء الغوغاء؛ فإن نفورهم من الحكومة هو النتيجة الحتمية عاجلا تم ذلك أو آجلا ...
هنا إذن موطن من مواطن الخطر، وإني لأعود فأسأل: كيف نتوقى هذا الخطر؟ والإجابة على ذلك يسيرة: ليقسم كل أمريكي، كل عاشق للحرية، كل ذي نية طيبة نحو أعقابنا، ليقسم كل بما جرى في الثورة من دماء ألا يتعدى قوانين البلاد في أية جزئية منها، وألا يسمح للغير بتعديها، وليفعل اليوم كل أمريكي في حرصه على القانون والدستور ما فعله رجال سنة 1776 في تعضيدهم حملة الاستقلال، وليضح كل في سبيل ذلك بحياته وشرفه الذي يقدس وجميع ما ملكت يداه، وليذكر كل فرد أنه إن اعتدى على القانون فإنما يطأ بقدميه دماء آبائه، ويمزق عهد حريته وحرية أبنائه، لتتحدث كل أم في أمريكا إلى ابنها الذي يلثغ لاعبا في حجرها حديث احترام القوانين، وليعلم ذلك في المدارس والمعابد والكليات، وليكتب ذلك في كتب الهجاء وفي كتب الابتداء وفي صفحات التقويمات، وليوعظ به من منصات الوعظ، وليعلن في ساحات المجالس التشريعية، وليحمل بالقوة على احترامه في دور العدالة، وفي الجملة يجب أن يكون ذلك للدولة دينها السياسي.»
وعاد الخطيب يذكر زعماء الحرية الأولين، ويمجد ذكراهم، ويشير إلى بطولتهم إلى أن قال: «لقد كانت العواطف قبل عونا لنا، ولكنا لن نركن إليها اليوم، ولسوف تكون في المستقبل عدوا لنا، ألا لتكن الحكمة الباردة الحاسبة التي لا تعرف العواطف هي التي تمدنا بما يلزم لنا في مستقبلنا من أسباب القوة والدفاع. إن في النابهين الطيبين من الناس ممن تتوفر فيهم الكفاية لأن يحسنوا أي عمل يوكل إليهم؛ كثيرين لا تمتد أطماعهم إلى ما هو أبعد من مقعد في المؤتمر، أو منصب في الحكومة، أو بلوغ كرسي الرياسة، ولكن هؤلاء لا ينتمون إلى أسرة الضراغم ولا إلى جماعة النسور. واها! أتظنون أن مثل هذه المناصب تملأ عين إسكندر آخر أو قيصر ثان أو نابليون جديد؟! كلا! إن العبقرية الشامخة لتحتقر الطريق التي وطئتها الأقدام من قبل ... إنها تبحث عن مواطن لم تكشف بعد، إنها تظمأ وتتحرق إلى ما يميزها عن غيرها، وإذا أمكنها أن تصل إلى ذلك فعلت ما يميزها؛ إما بتحرير العبيد من الناس، أو باستعباد الأحرار. أليس من المعقول إذن أن نتوقع ظهور رجال من هذا الطراز بين ظهرانينا؟ رجال توافى لهم من العبقرية في أكمل صورها بقدر ما توافى لهم من الطموح الذي يدفعون به هذه العبقرية لتمد مدها؟ وإذا قدر لرجل من هؤلاء أن يظهر فسوف يحتاج الأمر إلى ترابط الناس بعضهم ببعض، وتعلقهم بالحكومة وبالقوانين، وأن يكونوا على قسط من الذكاء ليحولوا بينه وبين أطماعه الشخصية إذا اتجه هذا المتجه ...»
أني لابن الغابة ربيب الفقر والعسر هذا كله؟ ألا إنها العبقرية تستعلن في الخطابة، وإن خفيت في الحديث الهادئ أو القصة الوادعة، وماذا يريد لنكولن بإشارته إلى العبقرية الشامخة وما تتطلع إليه؟ هل كان يرسم لنفسه ما يحب أن يفعله في غده؟ أكان يبحث عما يميزه؟ أكان يدرك أو يحس يومئذ أن له من عمله في غد ما هو حري أن يملأ عين إسكندر آخر أو قيصر ثان أو نابليون جديد؟
وذاعت في المدينة هذه الخطبة فأضافت إلى شهرته شهرة، وها هو ذا ينتخب للمرة الثالثة عضوا في المجلس التشريعي وهو في التاسعة والعشرين، وإنه ليطول باعه في المحاماة، وترسخ قدمه في السياسة، ويعلو كعبه في الخطابة.
وفي مدة عضويته الثالثة كان الخلاف في المجلس صدى للخلاف في الولايات جميعا بين الديمقراطيين والهوج، وكان زعيم الديمقراطيين في مجلس إلينوى ذلك القزم الماكر دوجلاس، وكان ينهض للدفاع عن سياسة فان بيرن الرئيس الديمقراطي الذي خلف جاكسون فيبدي نشاطا ومهارة ولباقة، وكان الديمقراطيون هم الحزب الغالب في المجلس، وكان لنكولن زعيم أنصار هنري كليي من الهوج، ولكن أصحابه كانوا في المجلس أقلية.
ودأب دوجلاس على مناوأة لنكولن في كل أمر، وكانت له مواقف يظهر فيها عليه بسرعة خاطره ومهارة انتقاله من فكرة إلى فكرة ومن قضية إلى قضية، ولكن أبراهام كان المتفوق الظافر إذا كان الأمر أمر إخلاص أو أمانة أو بعد نظر أو دقة تحليل.
Unknown page