وبهذا الدستور استطاع المؤتمرون أن يوفقوا بين المتمسكين بحق الولاية في الحرية والراغبين في الاتحاد، ولما صار هذا الاتحاد حقيقة قائمة أصبح هم كل رئيس المحافظة عليه وتدعيمه ومقاومة كل ما من شأنه إضعافه أو فصم عروته؛ وذلك لأنه لم تتم له حقيقته إلا بعد عواصف هوج كادت تأتي عليه؛ ففي بعض المدن ألفت مظاهرات وحدثت اضطرابات بسبب العداء لدستور الاتحاد، ورفضت بعض الولايات الاعتراف به، وتمهلت بعض الولايات حتى ترى مدى نجاحه، وظل هذا الحال حتى تغلبت الحكمة، وانتصر القائلون بالاتحاد، وكان لشخصية وشنطون بطل الاستقلال أثر بعيد في إدراك النجاح.
فتى الغابة
شمر توماس لنكولن عن ساعديه، وأهوى بفأسه على الأشجار يقطعها ويشقها ويسوي فروعها، حتى تم له إعداد ما يلزم من الأخشاب لإقامة كوخ تأوي إليه الأسرة، ثم دعا إليه بعض جيرانه ليساعدوه على رفع تلك الأخشاب وقد شدت بعضها إلى بعض، وكان رفع الأخشاب «عملية» يدعى إليها الجيران فيلبون في سرور وإخلاص؛ إذ قلما كانت تتاح لهم الفرصة لمثل هذا الاجتماع؛ ولذلك كان يجري في أمثاله من فنون اللهو والمزاح ومن ضروب اللعب والتندر بقدر ما يكون فيه من نصب ومشقة.
وكانت الحياة هنا في إنديانا أسهل منها في كنطكي؛ إذ كانت الحيوانات موفورة في الغابة لمن يطلب الصيد، ولكن مثل هذه المعيشة كانت مع ذلك بعيدة كل البعد عن أسباب الراحة إذا قيست إلى معيشة المدن، وحسبك أن الملابس كانت ما تزال تتخذ من جلود الحيوانات إلا في بعض الأحيان؛ حيث كان يغزل الصوف وينسج في الأكواخ، وحسبك أن المساكن كانت هاتيك الأكواخ الحقيرة، وأن تلك الأصقاع كانت تفتقر إلى سبل المواصلات وإلى مظاهر العمران من متاجر أو دور تعليم أو دور استشفاء، إلا ما كان منها في أبسط حالاته.
على أن الصبي كان مغتبطا ببيته الجديد في إنديانا؛ فقد كان أوسع من ذلك الذي درج فيه بكنطكي، وكان له ولأخته سرير من الخشب في ركن منه، عليه حشية من الجلد ملئت بالريش وورق الشجر، وكانت به بعض المناضد وبعض المقاعد.
وكان الصبي يأنس بكثرة الجيران هنا، ويرى الحياة أكثر نشاطا وأوسع مجالا، ولقد جاء بعض ذوي قرباه، فأقاموا معهم حيث كانوا يقيمون، وكان معهم شاب تبنوه في نحو الثامنة عشرة.
وكان كل امرئ يؤدي نصيبه من العمل لم يتخلف عن ذلك حتى الصغار؛ فهذا «أيب»، وكان على نحافته غلاما قوي الساعدين، يبذر الحب في الربيع، ويشترك في الحصاد وقت الصيف، ويطعم الخنازير ويحلب الأبقار أكثر الأيام، ويتعهد سور المزرعة بالإصلاح إذا أمالت جوانبه الحيوانات، ثم إنه إلى جانب ذلك قد بدأ يعاون أباه في أعمال النجارة. وهذه أخته سارا تعاون أمها فيما لا يحسنه أيب من شئون البيت.
وظل هذا حال تلك العشيرة مدة عامين، ولكن الزمن القاسي يأبى إلا أن تنتابهم حمى مروعة ناءت بالناس والدواب، وحار في أمرها الكبار والصغار، وهم لن يجدوا طبيبا إلا أن يقطعوا نيفا وثلاثين ميلا على الأقل، وهل كانوا يستطيعون أن ينتقلوا بضع خطوات؟ لقد هدهم المرض؛ فرقدت الأم، ورقد كثير من الجيران وبعض ذوي القربى، ومات جده لأبيه وجدته لأمه، ثم حم القضاء فماتت الأم! ورزئ أيب بأقوى صدمة من صدمات الأيام، وأي صدمه! لقد ضاقت في وجهه الدنيا، وأحس الغلام معنى اليتم إحساسا قويا، وقد زاد وقعه في نفسه ما فطر عليه من عمق الخيال واشتداد العاطفة، لقد طالما وقف إلى جوار سرير أمه المحتضرة ينظر إلى الدموع تتساتل على وجه أبيه المصفار، وقد أنهكته كثرة أعماله في تلك الأيام، فضلا عن حزنه؛ إذ كان يقضي كل يوم معظم نهاره في تسوية توابيت من الخشب لمن تطوي أعمارهم الحمى، ولما أخذ يعد تابوتا لزوجته، وقف ابنه يساعده شارد اللب، في محياه وفي نظراته اليتم والبؤس. ولقد ظل الصبي هناك أمام تلك البقعة من الأرض التي دفنت تحتها أمه حتى تناوحت من حوله رياح المساء، ومشت في الأفق ظلال الطفل، وسكتت العصافير على الشجيرات القريبة، فذرفت عيناه سخين الدمع، وعاد وحده إلى الكوخ كسير القلب موجوع النفس، يحس أنه غريب في هذا الوجود الواسع وهو يومئذ في العاشرة من عمره.
أصبحت سارا الصغيرة ربة الأسرة بعد موت أمها، وكانت سارا في الثانية عشرة من عمرها، فأخذت تخدم أباها وأخاها فيما يلزم لهما من شئون البيت، والرجل وابنه يحسان الوحشة كلما أويا إلى الكوخ من عملهما في الغابة أو في المزرعة؛ فلا الرجل ملاق نظرة الحنان والعطف ولا ابتسامة الشكر التي كانت بالأمس تضيء جوانب نفسه، وتهون عليه متاعب عمله، ولا الصبي واجد من يفتح له ذراعيه ويضمه إلى صدره، كما كانت تفعل أمه حين كانت تستقبله وتقبل جبينه وتنعته بالرجل الصغير وتشير مغتبطة إلى مستقبله.
ولم يطق الرجل صبرا على هذه المعيشة وقد مضى على وفاة زوجه عام، فرحل عن المقاطعة قائلا إنه قد يغيب أياما، ولكنه على أي حال لن يطيل إلا مضطرا.
Unknown page