وعمل خصوم لنكولن على إسقاطه ما وسعهم العمل، لا يدعون فرية إلا ألصقوها به مهما افتضح أمرهم؛ فهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، بل إنهم ليزدادون عدوانا وإثما كأن بينهم وبينه ترة.
ومن أكبر ما كدره يومئذ موقف رجال الدين في سبرنجفيلد؛ فقد حمل إليه أنصاره ذات يوم قائمة بأسماء مريديه في المدينة، فنظر في أسماء رجال الدين فلم يجد إلا ثلاثة منهم وهم ثلاثة وعشرون، فبدت أمارات الأسف والألم على محياه، على الرغم من أنه يرى في القائمة ما يشبه الإجماع على محبته، ولعل هذا الإجماع هو الذي أبرز موقف رجال الدين حياله، فقال معقبا على ذلك الموقف: «يعلم هؤلاء الناس حق العلم أني أنصر الحرية وأن خصومي ينصرون الرق، ومع هذا فإنهم وهذا الكتاب في أيديهم (وهو الإنجيل قد أخرجه من جيبه) هذا الكتاب التي لا تعيش الأغلال الإنسانية في ضوئه لحظة، أقول إنهم مع هذا يريدون أن يمنحوا أصواتهم خصمي، إني لست أفهم ذلك أبدا، إني أعلم أن الله حق، وأنه يكره الظلم والاستعباد، وإني أرى العاصفة مقبلة وأرى يد الله فيها، فإذا كان قدر لي موضعا فيها وعملا - وذلك ما أظنه واقعا - فإني أعتقد أني على أهبة. إني لست شيئا مذكورا ولكن الحق هو كل شيء، وإني لأعلم أني على الحق؛ لأني أعلم أن الحرية هي من الحق وأن المسيح يدعو إليها. ولقد أخبرتهم أن البيت المنقسم بعضه على بعض لا يمكنه أن يتماسك، وإن المسيح وإن العقل ليقولان مثلما أقول، ولسوف يعلمون ذلك. وما يبالي دوجلاس نصر الرق أم خذل، ولكن الله يبالي ذلك والإنسانية، وإني لأباليه ولن أخذل ما دام الله في عوني، وقد لا يقدر لي أن أرى الخاتمة ولكنها آتية، ولسوف تكون مبررة لما أقول، ويومئذ سيرى هؤلاء الناس أنهم لم يقرئوا الإنجيل كما ينبغي أن يقرأ.» وسكت أبراهام لحظة ثم أضاف إلى ذلك في لهجة شديدة قوله: «إني أفكر في هذه المسألة؛ أعني مسألة الرق، أكثر مما أفكر في أية مسألة أخرى، ولقد فعلت ذلك منذ سنين.»
ولم يكن منافسوا لنكولن ضعاف الجانب كما قد يخيل إلى المرء بالنظر إلى قوة الحزب الجمهوري، وحسب المرء أن فيهم دوجلاس، ولقد خرج دوجلاس على العرف وخاض المعركة بنفسه يخطب الناس أينما حل، ويحمل في صرامة على الجمهوريين وأنصارهم من دعاة القضاء على الرق لا يفرق بينهم، ويرميهم جميعا بأنهم قاضون بسياستهم الطائشة على بناء الاتحاد، وكان في تلك الخطب الملتهبة يرمي آخر ما في جعبته من سهام، ولكنها إن دلت على حماسته ونشاطه، فإن خروجه على العرف إنما يدل على أنه يفعل فعل اليائس الذي يخاف أن تفلته وسيلة، وكان كلامه يدور حول فكرة مؤداها أنه أسلم من في الميدان جانبا؛ لأنه لا يسلك مسلك لنكولن في محاربة الرق ولا مسلك بركنردج في التمسك به، ولكن الأمة كانت في الحق قد سئمت هذه السياسة، وأصبح الإحساس العام هو الوصول إلى حل لتلك المشكلة؛ فإما بقاء الرق وإما فناؤه.
وكان أهل الجنوب يسخطون على دوجلاس منذ أن أوقعه أبراهام في الشرك إذ سأله في صراعهما الطويل: إذا أردت أن تقضي على الرق فهل تفعل ذلك في غير حرج؟ ورد دوجلاس على ذلك بقوله نعم تفعل ذلك في غير حرج، فأغضب الجنوبيين، ورضي بالعاجلة وهي الظفر بمقعد في مجلس الشيوخ، حتى جاءت الآجلة وهي الرياسة، فتبين له سوء ما فعل، ولقد فطن لنكولن إلى ما سوف يكون لقوله من أثر منذ قال، وتنبأ بهذا الأثر وأظهر أصحابه عليه كما بينا ذلك في موضعه.
وزاد موقف دوجلاس ضعفا على ضعف انقسام الديمقراطيين كما أسلفنا؛ فإن كثيرين منهم يظاهرون بركنردج، وعلى الأخص في الجنوب، بينما أجمع الجمهوريون أمرهم على رجل وحد هو لنكولن.
وكان في الميدان منافس آخر هو بل، التف حوله أنصار حزب جديد عرف باسم حزب الاتحاد الدستوري، وهو حزب ينكر إثارة مشكلة الرق ويدعو إلى الحرص على كيان الاتحاد وفق مبادئ الدستور.
وشملت المعركة أمريكا كلها، فما مر بالبلاد في تاريخها الحر معركة كان لها من الخطر مثل ما لهذه المعركة الدائرة، ورددت الألسن اسم أبراهام لنكولن في الشمال والجنوب والشرق والغرب على نحو لم يسلف بمثله الزمن لاسم آخر، وكان لنكولن عند أنصاره الرجل الذي جاء على قدر من الله ليمسك البناء أن ينهار، فهو المتمم لما فعل وشنطون، وكان عزاؤهم في المحنة التي تتهدد البلاد أن الأقدار قد هيأت لها هذا الرجل، وكان عند خصومه هو المحنة التي يخافون، فلئن أصبح الرئيس فلسوف يكون للجنوب رئيس غيره، ومن هنا يستطيع أن يتصور المرء مبلغ ما كان لهذه المعركة من عظيم الخطر، ومبلغ ما شغل الأذهان من أنبائها وضوضائها، وما ملأ البلاد من مظاهر نشاطها وجلبتها.
وجاء يوم الفصل وهو اليوم السادس من شهر نوفمبر، وترقب الناس النبأ العظيم، فإذا هو فوز فالق الأخشاب! وأصبح لنكولن الخليفة الخامس عشر للرئيس وشنطون العظيم بطل الاستقلال، وكأنما أرادت الأقدار أن تقرن اسمه باسم وشنطون في تاريخ بلاده، فلئن كان هذا قد أقام الصرح فعلى أبراهام اليوم أن يمسك بنيانه أن يخر من القواعد.
وكان نجاح أبراهام محققا قبل يوم الفصل؛ بما كان لحزبه من جاه ونفوذ في أهل الشمال، وهم أحكم سياسة من أهل الجنوب، وذلك فضلا عن اتحاد كلمة هذا الحزب بينما كان يتنازع الديمقراطيون كما رأينا كأن بينهم عداوة.
حصل لنكولن على قرابة مليوني صوت من عدد أصوات الناخبين جميعا، وكانوا نحو أربعة ملايين ونصف مليون رجل، وقد زاد على دوجلاس أقوى منافسيه بنحو أربعمائة صوت، وحصل المنافسان الآخران مجتمعين على نحو مليون من الأصوات.
Unknown page