وعقد المؤتمر التمهيدي في مدينة ديكاتور، وهناك اشتدت حماسة المؤتمرين لأبراهام، فما تهتف الألسن إلا به، وما تحنو الجوانح إلا عليه، والخطباء يتسابقون على المنصة متنافسين في الثناء عليه والدعوة له.
ولم يكد يلمح المؤتمرون، أبراهام يدخل الباب ويطلع عليهم بقامته الطويلة، حتى وثبوا واقفين مصفقين وما منهم إلا من ينافس جاره في الهتاف، وما سكنت ريحهم حتى عاودوا الهتاف والتصفيق وهم أكثر حماسة وأروع مظهرا مما كانوا، وظلوا على تلك الحال لا يسكتون إلا ليعودوا إلى هتافهم وتصفيقهم، حتى ليظن من يراهم أنهم لن يسكتوا أبدا.
مرشح الحزب الجمهوري سنة 1860.
وبينما هم في جلبتهم وضوضائهم إذ سمعوا خارج المكان ما زاد على ضوضائهم جلبة وضوضاء، فأطلوا يستطلعون، فإذا بموكب كبير يذهب فيه البصر من ها هنا ومن ها هنا إلى آخر ما يمتد، تختلط فيه أصوات الهاتفين بألحان الموسيقى، ونظروا فإذا في مقدمة هذا الموكب علم منشور على قطعتين شوهاوين من الخشب، شد إليهما بأشرطة ما بين حمراء وزرقاء وبيضاء، وكان يحمل العلم جون هانكس ابن عم أبراهام وهو يهتف من أعماق نفسه لأبراهام فالق الأشجار وشاق الأخشاب، ووقف يخطب الناس، فقال إن هاتين القطعتين شقهما أبراهام بنفسه بين ثلاثة آلاف غيرها، قطعتها فأسه في الغابة أيام كان صبيا يعين أباه، وكان أبوه أحد الطلائع الذين افتتحوا الغرب وتعرضوا للمهالك من أجل وطنهم، وطلب إلى الجمع أن يهتف باسم أبراهام شاق الأخشاب، وسرعان ما ذهبت هذه الكلمة في الناس، فصار لا يذكر أبراهام بألقابه السالفة وأصبح عند الجموع شاق الأخشاب.
ووقف أبراهام مأخوذا بما يرى من حماسة الناس لهذا الاسم الجديد، وفي وجهه دلائل الشكر والرضاء عن ابن عمه، ولكن فيه كذلك ما يشبه الإنكار. وتجمع الناس حوله فأطل عليهم قائلا: «أظن أنه يجب علي أن أقول شيئا حول هاتين الخشبتين؛ لقد كان ذلك منذ زمن بعيد، ومن الممكن أن أكون أنا الذي شققتهما بيدي بيد أني لا أستطيع أن أتعرفهما ... وكل ما أستطيع قوله هو أني شققت من الأخشاب كثيرا غيرها أحسن منها مظهرا.»
واشتد تصفيق الجموع لهذه الكلمة، فما تخذل الأمانة أبراهام في موقف مهما هان، فها هو ذا لا يشايع ابن عمه؛ لأنه لا يستطيع أن يقطع بصحة دعواه، كما أنه لا يحب أن يخزيه؛ ولذلك يجعل الأمر في حكم الممكن فحسب ويؤكده بأنه شق عددا عظيما من هاتيك الأخشاب، ويعجب الناس بمثل جديد لصدقه وأمانته واستقامة طبعه، وهو عندهم منذ عرفوه أيب الأمين، ولكن لقبه الجديد أشهى إلى نفوسهم وأجمل وقعا في قلوبهم، فما هو إلا أن سمعه الناس حتى ألفوه كأنهم عرفوه من قديم، وما كاد ينقضي أسبوع على النطق به حتى ذاع في البلاد أمره، فما يذكر الناس أبراهام إلا بقولهم شاق الأخشاب.
وأثر هذا الاسم أثرا بعيدا في نفوس الناس، وازداد وضوحا في نفوسهم ما كان يحمله اسم أبراهام من معنى إلى تلك النفوس؛ فهو من الشعب بل ومن أعماق طبقاته، وبذلك فهو رمز لإرادة الأمة، وفي اختياره للرياسة تأكيد لرغبة محببة إلى النفوس؛ ألا وهي أن الناس جميعا سواسية، فلا يصح أن يتفاضلوا إلا بالمكارم.
وما كان يدور بخلد أبراهام وهو يشق تلك الخشبات في الغابة منذ نحو ثلاثين سنة ليشتري بثمن الآلاف منها سروالا؛ أنها سوف تجدي عليه مثل هذه الجدوى، وما كان يدري أن ابن عمه يملك له هذا الصنيع الذي يصغر حياله كل صنيع.
كان الجمهوريون يتخذون الأهبة لمؤتمرهم العام في مدينة شيكاغو، فلندعهم حتى ننظر ماذا كان من أمر الديمقراطيين في هذه السنة المشهودة.
كان الحزب الديمقراطي قد هان على الناس أمره؛ وذلك بانقسامه وتنازع رجاله؛ ففريق من أهل الجنوب يكرهون اليوم دوجلاس لما كان منه أيام مجادلته لنكولن، أولم يصرح بأن لكل ولاية الحق كل الحق أن تقضي على الرق فيها متى شاءت ذلك، فوقع بتصريحه هذا في حبائل خصمه؟ ثم إن فريقا من الديمقراطيين في الشمال قد كرهوا منه معارضته الرئيس بوكانون في دستور كنساس، حتى لقد فكر بعض الجمهوريين في ضمه إلى حزبهم، وإنه ليجني اليوم ثمار غرسه، وهل كان له أن يجني من الشوك العنب؟! لذلك فشل الديمقراطيون إذ حاولوا أن يجمعوا أمرهم على رجل، وانفض مؤتمرهم الذي عقد في شهر أبريل في مدينة تشارلستون والخلاف بين الشماليين من رجال الحزب على أشده؛ إذ كان يريد أهل الشمال من الديمقراطيين أن ينعقد الإجماع على دوجلاس، وتعددت بعد ذلك مؤترات الديمقراطيين، ولكن ظلت قلوبهم شتى، وانتهى الأمر أخيرا بأن انقسموا فريقين؛ اتفق أحدهما على دوجلاس، واتفق الآخر على بركنردج، وكان هذا الانقسام في صفوف الديمقراطيين من أكبر أسباب ضعفهم وفشلهم.
Unknown page