تزداد صفاء وإدراكا لذهاب ما كان يعتريهم من الكدورات الدنيوية. وكيف يسلبون ما هو عندهم من أوفر النعم وأوفر القسم وهم في دار فيها ما تشتهيه النفس وتلذ به الأعين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فكأن هذا القائل لم يقرأ القرآن الكريم وما اشتمل عليه من تحاور أهل الجنة وأهل النار وتخاصمهم بتلك الحجج التي لا تصدر إلا عن أكمل الناس عقلا وأوفر الخلائق فهما وما يذكرونه من حالهم الذي كانوا عليه في أهليهم بل ما يودونه من إبلاغ الأحياء عنهم ما صاروا فيه من النعيم قال: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ ١وورد مثل هذا المعنى في القرآن الذي رفع لفظه من المصحف كما ثبت في الصحاح من كتب الحديث عن أولئك الشهداء بلفظ: بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا وكذلك ما ذكر من اجتماع أهل الجنة ومذاكرتهم بما كانوا فيه في الدنيا وما صاروا إليه في الجنة كما في الآيات المشتملة على ما في الجنة مما أعده الله لهم حيث يقول: وفيها وفيها وفيها في آيات كثيرة. وذكر أن أهلها على سرر متقابلين وأنه يطوف عليهم ولدان مخلدون. وثبت أنهم يدخلون الجنة على تلك الصفات من الجمال والشباب وكمال الخلق وحسن الهيئة مردا جردا أبناء ثلاث وثلاثين سنة. وأنهم يتخيرون في الجنة ما يشتهون. وكم يعد العاد من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة. ولا يتم هذا النعيم ولا بعضه إلا وهم ذوو عقول صحيحة بالضرورة العقلية كما ثبت بالضرورة الدينية. ومعلوم أنهم إذا كانوا ذوي عقول فمهما وجدت معهم فهي بالإمكان العام والخاص قادرة على كسب ما تجدد لها من العلوم ذاكرة لما حصل لها منها من قبل هذا مالا يحتاج إلى بيان ولا يفتقر إلى برهان ولو فقدوها لفقدوا الإنسانية الكاملة وصاروا مشابهين للدواب وأي نعمة لمن لا عقل له كما هو مشاهد من المصابين بالجنون في الدنيا وأي فائدة للمبالغة في نعيم من كان ذاهب العقل بما ثبت في الكتاب والسنة من أنهم على صفات فوق صفاتهم في الدنيا بمسافات لا يقدر قدرها ولا يحاط بكنهها وكذلك لا يتم نعيمهم إلا بوجود الحواس الظاهرة والباطنة ولو فقدوها لما تنعموا كما ينبغي. وكذا لو فقدوا بعضها لم يكن لهم شعور بالتنعيم الذي وصفه الله سبحانه وبالغ فيه. وأي فائدة لفاقد العقل وأي شعور له بكونه على صفة كمالية في جماله ولباسه الحرير والديباج وتحليته بالذهب والجواهر وأكله من أطيب المأكل وشربه من أنفس المشروب. وكذا لا نعمة تامة فضلا عن أن تكون فاضلة لمن كان أعمى أو أصم أو لا يفهم شيئا أو لا يذكر ما مضى له ولا يفكر فيما هو فيه
وإذا تقرر لك هذا علمت أن أهل الجنة لهم العقول الفائقة بنسبة الدنيا شبابا وجمالا وقوة وفهما وذكرا وحفظا وسلامة من كل نقص ولو لم يكن الأمر هكذا لم تكن لهم فائدة بما بولغ به في شأنهم من الصفات بل يعود ذلك بالنقص لما أثبت لهم منها في الجنة هذا معلوم بالعقل والشرع لا يتمارى فيه قط. وأقل الحال أن يكون النعيم المحكوم لهم به في الجنة كتابا وسنة ناقصا.
والمفروض أنه بالغ في الكمال إلى غاية فوق كل غاية وهذا خلف يدافع نصوص الكتاب والسنة مدافعة يفهمها كل من له عقل وإدراك. فيا عجبا كل العجب من التجري على أهل هذه الدار التي هي دار النعيم المقيم على الحقيقة بما ينغص نعيمهم ويشوش حالهم ويكدر صفوهم ويمحق ما أعد الله لهم ومن التجري على الله سبحانه وعلى رسوله ﷺ بما يستلزم عدم ثبوت ما أثبته الكتاب والسنة لهم
_________
١ سورة يس، الآية: ٢٧.
1 / 26