...
بيان المعاني
Publisher
مطبعة الترقي
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٣٨٢ هـ - ١٩٦٥ م
Publisher Location
دمشق
Genres
[الجزء الأول]
الجزء الأول من القسم المكي من تفسير القرآن العظيم المسمى بيان المعاني على مسب ترتيب النزول تأليف السيد عبد القادر ملّا حويش آل غازي العاني ١٣٨٢ هـ- ١٩٦٢ م مطبعة الترقي
1 / 1
[خطبة الكتاب]
بسم الله الرّحمن الرّحيم «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي» أحمدك يا رب العالمين على ما أوليتني من النعم، وأشكرك يا أكرم الأكرمين على ما وفقتني لسلوك طريقك الأقوم، وأسألك يا مجيب السائلين إفاضة برّك وإحسانك، واستجديك إسبال سترك وعظيم امتنانك، وأرجو منك المعونة على ما قدمت عليه من التفسير، واللطف والعناية والتسهيل والتيسير، وأصلي وأسلم على مفتاح غيبك المكنون، وباب فتحك لأهل معرفتك المأمون، وعلى آله الذين آلوا بخير الأعمال، وأصحابه القائمين بما كان عليه من أفعال وأقوال، وأتباعه الذين صانوا دينه وشرعه المتين، فدام الاقتداء بهم وسيدوم إن شاء الله إلى يوم الدين.
أما بعد فإن القرآن العظيم جمع ورتبت سوره وآياته في المصاحف التي بأيدينا طبق مراد الله تعالى بأمر من رسوله الأعظم، ودلالة من الأمين جبريل المكرم، وحينما تشاور الأصحاب ﵃ على نسخه على الوجه المذكور أراد الإمام علي كرم الله وجهه ترتيب آيه وسوره بحسب النزول، لا لأنه لم ير صحة ما أجمعوا عليه، ولا لأنه حاشاه لم يعلم أن ذلك توقيفي لا محل للاجتهاد فيه، بل أراد أن تعلم العامة تاريخ نزوله ومكانه وزمانه، وكيفية إنزاله، وأسباب تنزيله، ووقائعه وحوادثه، ومقدمه ومؤخره، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، وما يسمى بناسخه ومنسوخه، بادىء الرأي، دون تكلف لمراجعة أو سؤال، ولمقاصد أخرى ستظهر
1 / 3
للقارىء بعد إن شاء الله. وكان مصحفه الذي نسخه على ترتيب النزول كما قاله الإمام جلال الدين السيوطي ﵀ في إتقانه في بحث جمع القرآن ج ١ نقلا عن الامام ابن حجر وتخريج ابن أبي داود، ونقل مثل هذا عن محمد بن سيرين، ولهذا البحث صلة وسط المطلب العاشر الآتي. واعلم أن الخليفة عثمان ﵁ ومن معه من الأصحاب انما لم يأخذ برأيه لأن السور والآيات كانت مرتبة ومجموعة على ما هو في المصاحف الآن، وهو أمر توقيفي لا مجال للرأي فيه، وليعلم أن تفسيره على رأي الإمام علي كرم الله وجهه لا يشك أخذ بأنه كثير الفائدة عام النفع، لأن ترتيب النزول غير التلاوة، ولأن العلماء ﵏ لما فسروه على نمط المصاحف اضطروا لأن يشيروا لتلك الأسباب بعبارات مكررة، إذ بين ترتيبه في المصاحف وترتيبه بحسب النزول بعد يرمي للزوم التكرار بما أدى لضخامة تفاسيرهم، ومن هذا نشأ الاختلاف بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والأخذ والرد فيما يتعلق فيهما، وقد علمت بالاستقراء أن أحدا لم يقدم تفسيره بمقتضى ما أشار إليه الإمام ﵇، ويكفي القارئ مؤنة تلك الاختلافات وتدوينها، ويعرفه كيفية نزوله ويوقفه على أسباب تنزيله، ويذيقه لذة معانيه وطعم اختصار مبانيه، بصورة سهلة يسرة موجزة خالية عن الرد والبدل، سالمة من الطعن والعلل، مصونة من الخطأ والزلل، فعن لي القيام بذلك، إذ لا مانع شرعي يحول دون ما هنالك، وأراني بهذا متبعا، لا مبتدعا، مؤملّا أن يكون عملي هذا سنة حسنة، فعزمت متوكلّا على الله تعالى الذي لا يخيب من رجاه، مستمدا من روحانية صفيه ومجتباه، على تفسيره على ذلك المنوال، لما رأيت فيه من الفوائد الجليلة التي ستقر بها عين القارئ إن شاء الله، مبينا أول ما نزل إلى الفترة والفترة، وسببها ومدتها وأول ما نزل بعدها، وسبب وتاريخ كل منه، ومكانه، وزمانه، وقصصه، وأخباره، وأمثاله، وأحكامه، والآيات المكررة وسبب التكرار، ونظائرها مما يناسبها باللفظ والمعنى والكلمات التي لم تكرر فيه (عدا ما كان بين صورة (ق) إلى (الحديد) وجزأي تبارك
1 / 4
وعمّ، لأن كثيرا من كلماتها لم تكرر لما هي عليه من السجع العجيب واللفظ الغريب)، وما هو موافق لشرع من قبلنا منه والمخالف له، والمعمول به منه، والآيات المقيدة للمطلقة والمخصصة للعامة، وأنواع الأوامر والنواهي الواجبة والمندوبة والمخير فيها، ومعنى النسخ وحقيقته وماهيته والمراد منه، وخلاصة القصص المعقولة، والغزوات المرموقة. وتتميما للفائدة، أوردت فيه ما يناسب الآيات من الأحاديث والأخبار والأمثال بما يكفي الواعظ عن كتب كثيرة وجعلته في ثلاثة أجزاء، اثنين لما نزل في مكة المكرمة، وواحد لما نزل في المدينة المنورة، وبدأته بمقدمة تحتوي على اثني عشر مطلبا تشير إلى ما أودعته فيه من المآخذ والأصول والرموز، وختمته بخاتمة ترمي إلى ما كان فيه من الوقائع والحوادث. وحقا إن أهل هذا العصر بحاجة ماسّة إلى تفسير كذا جامع مانع جار على أسلوب حسن بسيط مختصر غزير كاف، يطلعهم على حقائق كتاب الله بصورة قد يستوي فيها الخاص والعام، وهذا غاية ما أقصده من المجيب السميع، ومنه المعونة والتوفيق إلى سواء الطريق، وسميته (بيان المعاني) وأنا الفقير إليه عبد القادر ملا حويش آل غازي العاني.
والله أسأل وبأنبيائه أتوسل أن ينفع به عباده، ويديم به الإفادة، ويوفقني لإكماله على الوجه الذي يرضيه راجيا ممن وقف على زلة أو عثرة أن يصلحها بكرمه، إذ ما منا إلا من ردّ وردّ عليه عدا من عصمه الله (على أنه إذا كان له رأي يخالف ما فيه أن يبينه على الهامش)، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم ويثيبني عليه رضاءه ورؤيته في دار النعيم، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال الإمام أبو السعادات ابن الأثير ﵀ في مقدمة نهايته المشهورة:
(كل مبتدىء شيئا لم يسبق إليه، ومبتدع أمرا لم يقدّم فيه عليه فإنه يكون قليلا ثم يكثر، وصغيرا ثم يكبر. وعسى أن يصدق قوله في كتابي هذا. والله الموفق.
وقد شرعت فيه صباح يوم الأربعاء أول شهر رجب الحرام سنة ألف وثلاثمائة وخمس وخمسين من هجرة سيد الأولين والآخرين، (والموافق ١٧ أيلول سنة ١٩٣٦) وصلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم ومن تبعهم إلى يوم الدين.
1 / 5
[المقدمة]
المطلب الاوّل في بيان مبادئ في التفسير
اعلم وفقك الله، لما كان من الواجب صناعة على كل شارع في فن أن يبين مبادئه العشرة ليكون القارئ على بصيرة منه وهي المذكورة في قول الناظم ﵀:
إن مبادي كل فن عشرة ... الحد والموضوع ثم الثمرة
وغاية ونسبة والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا
١- فحد علم التفسير هو علم بأصول يعرف بها معاني كلام الله تعالى بحسب الطاقة البشرية.
٢- وموضوعه آيات القرآن من حيث فهم معانيها والوقوف على ما تشير إليه.
٣- وثمرته معرفة ما في كتاب الله على الوجه الأكمل.
٤- وغايته الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى سعادة الدارين.
٥- ونسبته لبقية العلوم يكون هو أفضلها لأن شرف العلم يشرف موضوعه وناهيك بعلم موضوعه كلام الله إذ هو أصل العلوم ومعدنها.
٦- وواضعه الراسخون في العلم من عهد المنزل عليه إلى يومنا هذا فما بعد.
٧- واسمه علم التفسير أي الكشف عن غطاء معانيه والوقوف على ما ترمي إليه مبانيه.
٨- واستمداده من آي الكتاب الجليل، لأنه يفسر بعضه بعضا ومن السنة السنية لأنها شرح له ومن كلام الفصحاء ما يكون بيانا له.
٩- وحكمه الوجوب الكفائي على كل أهل بلدة.
١٠- ومسائله قضاياه من حيث الأمر والنهي والمواعظ والأخبار، وجاء في بعض النسخ بدل وغايته وفضله، وعلى ذلك فإن علم التفسير أفضل العلوم على الإطلاق لكونه متعلقا بكلام الله الذي لا أفضل منه البتة كيف لا وهو رب العالمين أجمعين.
1 / 6
المطلب الثاني فيما يحتاج إليه المفسر
اعلم رعاك الله إن المفسر يحتاج إلى معرفة اثنى عشر علما على الأقل ليتسنى له القيام على أحسن وجه فيما يفسره من كتاب الله تعالى: (١) علم اللغة لمعرفة معلومات الألفاظ بحسب الوضع ومعرفة الألفاظ المشتركة كالعين وشبهها، فإن لم يكن له إلمام بها فلا يجوز له الشروع فيه. روي عن أحمد أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر، فقال: ما يعجبني إلا أن يكون واقفا عليه. وقال مجاهد: لا يحل التفسير لمن لم يكن عالما بلغات العرب. وقال مالك ينكّل أي من أقدم على تفسيره دون إلمام له بذلك. (٢ و٣) علم النحو والتصريف لمعرفة أحكام الكلمات العربية من حيث الاشتقاق والإفراد والتركيب والإعراب والبناء، أخرج أبو عبيدة عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال: حسن فتعلمّها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها. وفي قصة أبي الأسود الدؤلي والأعرابي الآتي ذكره في أول سورة التوبة الآتية في ج ٣ بالقسم المدني ما يغني عن البيان (٤) علم المنطق لما فيه من معرفة وجه الجدل والقضايا الموجبة والسالبة وغيرهما. قال الغزالي ﵀:
من لا معرفة له بالمنطق لا ثقة بعلمه. (٥) علم المعاني بفرعية البيان والبديع لمعرفة خواص تركيب الكلام من جهة إفادة المعنى ومعرفة خواصها ومن حيث اختلافاتها ومعرفة وجوه تحسين الكلام وهو الركن الأقوم لهذا الفن. (٦) علم الحديث لمعرفة المبهم وتبيين المجمل وسبب النزول والتقييد للمطلق والتخصيص للعام المعبر عنه غالبا بالنسخ. (٧) علم أصول الفقه لمعرفة الإجمال والنبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأوامر والنواهي وما يشبهها ويتفرع عنها. (٨) علم الكلام لمعرفة ما يجوز على الله وما يستحيل وما يجب، والنظر في النبوات لئلا يقع المفسر في أخطاء وورطات قد يهلك فيها. (٩) علم القراءات لمعرفة كيفية النطق بالقرآن وترجيح بعض الوجوه المحتملة للمعاني الأكثر رجحانا بالنسبة للقارئين بها على البعض الأقل والأضعف. (١٠) علم الفقه لمعرفة الأحكام الشرعية العملية فيه وبيانها في
1 / 7
محالها، وآراء المجتهدين فيها والأخذ بما هو الأقوى دليلا والأحوط عقيدة وتقى.
(١١) علم الموهبة وهو علم يورثه الله تعالى لمن يشاء من عباده العالمين العاملين المتقين فيلهمهم المعرفة بأسرار كتابه، قال ﵊: (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم) وهذا كالأساس لهذا العلم ليطلع على معانيه بما يفيضه الله على قلبه وركن هذا العلم العكوف على التقوى، وملاكه العمل مع الورع قال تعالى:
«وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» الآية ٢٨٣ من البقرة في ج ٣. (١٢) علم الاعتماد على الرأي فيما لا يهتدى إليه من كتاب أو سنة أو قول معتمد عليه، وهنا يجب السكوت لئلا يهلك لأن الأمر عظيم ليس للرأي فيه مدخل بل لا بد من الاعتماد على شيء معتبر.
أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي ذر قال: قال ﵌ من قال بالقرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار [أي من قال في مشكل القرآن ومتشابهه بما لا يعلم، أو من قال قولا يعلم أن الحق غيره فقد تعرض لسخط الله الذي عاقبته النار والعياذ بالله] .
وفي رواية من تكلم بالقرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ أي أخطأ طريق الحق إذ عليه أن يرجع إلى اللغة عند عدم الاهتداء إلى تفسير اللفظ، وإلى الأخبار عند عدم اهتدائه إلى الناسخ والمنسوخ بالمعنى المراد فيهما، وإلى صاحب الشرع عند عدم اهتدائه لبيان المعنى المراد منه، فإن لم يحصل له الاهتداء على ما غمض عليه في هذه الطرق فلا بأس بمراجعة فكرته وقدح رويّته ليستدل بما ورد على ما لم يرد، قال تعالى:
«أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» الآية ٢٤ في سورة محمد ﵇ ومثلها الآية ٨٢ التي يليها قوله جل قوله «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» الآية في سورة النساء في ج ٣، وقال عز قوله «لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ» الآية ٢٩ في سورة ص الآتية. لأن التفسير على صنفين نقلي ومستنده الآيات والأحاديث والآثار وسماعي، ومستنده اللغة والإعراب والبلاغة، هذا وقد أخرج أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس: القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه.
وروي عن علي ﵇ أنه سئل هل خصكم رسول الله بشيء؟ قال: ما عندي غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه، راجع تفسير الآية الثانية في سورة الحشر في ج ٣ تجد حديث معاذ ﵁ وما به كفاية في هذا البحث.
1 / 8
المطلب الثالث في الحاجة الى التفسير
اعلم هداك الله. أن القرآن العظيم، نزل بلسان عربي مبين، على قوم هم أفصح الناس، الا انه لشدة فصاحته وغور معانيه، وبعد مراميه، لم يدركوا مراد الله في بعض مغازيه، فأحتاج الأصحاب وهم خلاصة ذلك العصر، الى أن يسألوا حضرة الرسول ﷺ عن معاني بعض آياته في زمنه، واحتاجوا لأن يسأل بعضهم بعضا عن بيان بيناته بعد وفاته، فمن باب أولى يلزم من بعدهم فهم تلك المعاني الغامضة منه، والوقوف على أحكامه، ومعرفة المراد منها، لأنه مدار السعادة الأبدية، والتمسك بالعروة الوثقى، والوصول الى الصراط المستقيم، وباب رضى رب العالمين، لأن الغرض فيه أمر عسير، لا يهتدى إليه الا بتوفيقات ربانية، وهبات رحمانية من اللطيف الخبير، وإذا كان الأصحاب رضوان الله عليهم على علو رتبتهم في مقامات الكمال، وارتفاع درجاتهم في الفصاحة واستنارة قلوبهم بإشراق مشكاة النبوة فيها، لم تعرج أفهامهم الثاقبة الى إشاراته، ولربما فهم بعضهم غير مراد الله، كما وقع لعدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود، راجع تفسير الآية (١٨٧) في البقرة في ج ٣، إذ صرفهما لمعناهما المسمى فربط برجليه خيطين ليستبينهما في السحور، فما بالك يا أخي بغيرهم، وخاصة أهل هذا العصر الذي انصرف أهله بكليتهم الى علوم لا مساس لأكثرها بالدين، ولهذا مست الحاجة الى تفسير كتاب الله وانكب عليه السلف الصالح، وعكف عليه التابعون، واقتفى أثرهم العلماء، ولم ينفكوا عن الولوج في لجج معانيه والدخول في صحاري مبانيه الى ان يشاء الله، والى أن يرث الأرض ومن عليها، ولا يعلم تأويله كما أراد غيره. أخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) الآية (٢٦٩) من البقرة أيضا، قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، واخرج ابو عبيده عن الحسن قال: ما أنزل الله آية الا وهو يحب أن
1 / 9
يعلم فيم أنزلت، وما أراد بها، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال:
ما مررت بآية لا أعرفها الا أحزنتني، لأني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» الآية (٤٣) من سورة العنكبوت ج ٢، وغير هذا في هذا كثير. وقد أوجبت على نفسي الاختصار الغير مخل، كما أوجبت ترك التوسع الممل في هذا التفسير المبارك، ولهذا اكتفيت بما ذكرته، والله الملهم لمن أراد بيانه.
المطلب الرابع في أحوال المفسرين به ومأخذ هذا التفسير
اعلم وفقك الله ان أحوال المفسرين في التفسير مختلفة على ثلاثة أصناف:
فمنهم من يقتصر في تفسيره على المنقول في الآية من أقوال من تقدمه من المفسرين وأسباب النزول وأوجه الإعراب ومعاني الحروف. ومنهم من يأخذ في وجوه الاستنباط منها، ويستعمل فكره بما آتاه الله من الفهم، ولا يشتغل في أقوال السابقين لوجودها في بطون الأوراق، ومنهم من يرى الجمع بين الأمرين والتحلي بالوصفين. وبما ان هذا أحسن الأصناف جريت عليه، واقتفيت أثر من مشى عليه الا اني قد اجتنبت التوسع الممل والاختصار المحل، إذ ان في الإطناب افراطا، وفي الإيجاز تفريطا، وكلاهما منتقد. على اني ان شاء الله سآخذ مما عليه الجمهور الموافق للنظم، والمطابق للسياق والمضاهي للسباق. واتبعت في تحرير مكية ومدنية ما هو المعتمد عليه من أقوال كثيرة مقتبسا من كتاب ابي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي وكتاب تحقيق البيان للشيخ محمد المتولي شيخ القراء بمصر، وكتاب ناظمة الزهر للامام الشاطبي، وشرحها لأبي عيد رضوان المخللاتي، وكتاب ارشاد القراء والكاتبين له أيضا، وكتب القراءات والتفسير على خلاف في بعضها. وسلكت في عد آيه طريقة الكوفيين وهي الوسطى، وخير الأمور أوساطها وهي المروية عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي عن علي كرم الله وجهه، حسبما جاء في الكتب المذكورة، وهي ست آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، أما
1 / 10
عند الحجازيين فست آلاف وستمائة وست عشرة، وعند البصريين أقل من الأول، والفرق باختلاف الوقف ليس الا لأن وقفات الحجازيين أكثر من وقفات البصريين وأقل من الكوفيين، وأعلم أن عدد كلماته سبع وسبعون الفا واربعمائة وخمسون كلمة، وعدد حروفه مليون وخمسة وعشرون الف حرف بالاتفاق على القول الصحيح.
واعلم ان نصف القرآن على حسب ترتيب المصاحف من حيث الأجزاء جزء ألم أقل من سورة الكهف، وبحسب السور التي هي مائة واربع عشرة سورة من حيث العدد سورة الحديد، وما قيل إن مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة لأنه لا يرى المعوذتين من القرآن، فهو قول عار عن الصحة، وحاشى لابن مسعود أن ينسب إليه ذلك وقد أخطأ من ذكر هذا ونسبه إليه، هذا ونصفه بحسب الآيات آية (فَأَلْقى عَصاهُ) من سورة الشعراء وبحسب الحروف النون من قوله تعالى (نُكْرًا) من سورة الكهف.
أما الكتب التي اعتمدت الأخذ منها ما قرأته من تفسير الخازن والنسفي والبغوي ابن محمود النخجواني وابن عباس وابي السعود الرازي وروح البيان وروح المعاني والبيضاوي والكشاف والخطيب الشربيني وفريد وجدى والجلالين وحاشيتهما للجمل والصاوي وابن كثير والجزي المسميين بالإتقان، والتسهيل والإتقان في علوم القرآن للسيوطي، والفتوحات الربانية للشيخ نعمة الله، وتفسير محي الدين العربي، وما لم أقرأه كالطبري والحسيني والخطيب وتفسير الأستاد رشيد رضا المنسوب للإمام محمد عبده وغيرها كثير من الكتب والرسائل التي مست الحاجة إلى مطالعتها والأخذ منها كالتشريع الإسلامي والوحي المحمدي وهدي الرسول ورسالة التوحيد لمحمد عبده ورسالة معجزات القرآن وغيرها. ومن الكتب الفقهية كالمبسوط للسرخسي والدر المختار وحاشيته لابن عابدين والطحطاوي والدرر والجوهرة والخطيب الشربيني والباجوري علي ابن قاسم وغيرها، ومن كتب الصوفية عوارف المعارف للسهروردي والبهجة السنية للشيخ الخاني ونور الهداية والعرفان للصاحب، والإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلاني واحياء العلوم للغزالي ورسالة أبي القاسم القشيري وغيرها، وكثير
1 / 11
من الكتب الكلامية والمنطقية والأصولية واللغوية والمجلات المصرية وغيرها، حيث انتخبت منها ما لا بد منه من جواهرها وأثبت في هذا التفسير ما هو الأصح منها من الأقوال والمعاني إلى الأقوال الأخرى التي لا بد من الإشارة إليها فيه وأغفلت ما لا لزوم له. واعتمدت في الأحاديث للاستدلال على بعض الآيات كالشاهد والمثل، الكتب الصحاح الستة وموطأ مالك لأنه أعلم بأقوال صاحب المدينة من غيره غالبا، وبعض الأحاديث الشائعة المتداولة التي لم يطعن بها، وذكرت خلاصة القصص والحوادث والغزوات، وبينت ما يؤخذ به منها وما لا يؤخذ، واعتمدت في القراءات قراءة عاصم، وفي الروايات رواية حفص لأنهما المثبتتان في المصاحف، وهما أفصح وأصح وأكثر تداولا من غيرهما وأشرت إلى بعض القراءات الأخرى.
مطلب الأصول المتبعة في التفسير
واعلم حفظك الله أني إذا أردفت كلمة بغير أي التفسيرية أو الواو كالعطوف البيانية فهي معنى الكلمة التي قبلها، وقد أقدم بعض الكلمات المفسرة على المفسرة، واترك ما لا يحتاج للتفسير، مما هو معلوم بداهة مثل قوله تعالى (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) الآية ١٨ في سورة طه الآتية، إذ قال بعض المفسرين: اعتمد عليها إذا مشيت، واستند إليها إذا عيبت، واضرب بها إذا أوذيت، وكذا وكذا ومثل قوله تعالى (قالا رَبَّنا) إذ من المعلوم أنهما هارون وموسى وما شابه هذا مما لا طائل تحته واجتنبت كثيرا من أمثال هذا الحشو الذي لا حاجة اليه غير تكثير الكلام، وإذا أشرت إلى آية أو بحث فإن كان في الجزء الذي أنا فيه اكتفيت بقولي في الآية كذا في السورة المارة أو الآتية، وإلا ذكرت الجزء التي هي فيه مع عدد الآية وبيان السورة، وإذا طال الفصل بين العاطف والمعطوف عليه أو الشرط والجزاء وضعت خطا هكذا- دلالة على ذلك وقد أضع الكلمة أو الكلمات التفسيرية، أو الجمل الاعتراضية، والاستطرادية بين قوسين، لئلا تتصل بالمفسر، وكل جملة ختمتها بالأصح أو الصحيح أو المعتمد أو الأولى فهي في مقابلة أقوال لم تثبت لديّ صحتها وأرجحيتها،
1 / 12
وما قرنته بقيل أو قالوا أو ذكروا أو رأوا، فهو دليل على ضعفها وعدم الاعتماد عليها، وما بدأته بلا بأس فهو كناية عن خلاف الأولى وما تركه أحسن من فعله، وما بدر مني في لفظ أقول أو نقول أو شبهه في كل ما يدل على التعظيم، فهو لتعظيم العالم المنقول عنه أو لتعظيم العلم نفسه لا لنفسي، وقد يكون من قبيل التحدث بالنعمة والامتنان، قال ﵊: (ليس منا من لم يتعظم بالعلم)، وما ذكرت من أرى هذا، أو هو الأصوب أو الأحوط أن يؤخذ به فهو عبارة عن قول استحسنته من أقوال كثيرة.
واعلم أن ما أقدمه من الأقوال هو المعتمد، إلا إذا صرحت بعده بأنه هو الأصح أو الصحيح أو الأحسن أو عليه الفتوى، وما ذكرته في قال بعضهم فالمراد به غالبا من الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة، وقد أصرح بعضا بالفرقة الضالة أو برئيسها، وما وضعته في العدد الأول للسور، فعلى حسب النزول والذي يليه بمقتضى ترتيب القرآن في المصاحف ووضعت الأرقام للآيات، وبينت سورها ومحلها، ليرجع لتفسيرها حذرا من التكرار، ولسهولة المراجعة عند الاستدلال ببعضها على بعض، ولتمييز المدني منها عن المكي، وهذا مانفث في روعي من الداعي الإلهي للاشتغال في هذا التفسير وإني مع ضعفي وعجزي واشتغالي بالحكم وقلة بضاعتي في هذا الميدان ووجودي في زمن فسد أهله وقل خيره وكثر شره، وصار الخوض في الهوى أرغب من تناول طرق الهدى لأنهم أعرضوا عن أمر الدين، وأنفوا من مرافقة الصالحين ومصاحبة الصادقين، فوصفوا السلف الصالح بالرعونة والخلف بالجحود، وهم لعمري لا يفرقون بين لام كي والجحود، فإذا تكلموا خبطوا خبط عشواء، وإذا أجابوا فعلى غير السؤال كان العطاء، يستشهدون بالأحاديث ولا يعرفون رجالها، بل ولا مبانيها، فيما يلائم أهواءهم، وبالآيات ولا يعلمون مراميها ولا معانيها مما لاتعيه أذهانهم، ويؤولون على جهل في السبب والمغزى، ومع هذا يقولون
1 / 13
ما وعى الأوائل إلا قليلا من كثير، ولنا أن نأخذ من القرآن والحديث دون تأويل أو تفسير، إذ نحن رجال وهم رجال، وقد آن لنا أن نترك التقليد.
وينسبون إليهم الإفراط إذا أطالوا الباع في حلبة التفسير للآيات، والتفريط إذا اقتصروا على الغايات، والجهل إذا أغفلوا شيئا ظاهر التأويل، والعناد إذا جالوا في فلسفة أسباب التنزيل، ان أتيتهم بآية قالوا مؤله، وهم يأخذون بظاهر الآيات، أو بحديث قالوا لم يثبت عند الثقات، وأين هم من معرفة التأويل والسند، وهيهات ان يميزوا بين الغث والسمين وهيهات، ويحهم جهال ويزعمون أنهم علماء، وضلال ويظنون انهم أتقياء، ومجانين ويحسبون انهم عقلاء، يناقضون أقوالهم بأفعالهم، وهي أفعى لهم، وأفعالهم بأقوالهم، وليست بأقوى لهم، أرشدنا الله وإياهم إلى الحق وهدانا إلى الرشد، ووفقنا إلى الصدق. عكفت عليه، ولولا السائق الإلهي لما وفقت اليه، إذ قد يكل مثلي عن تفسير سورة من قصار المفصّل، بل عن تأويل آية منها وأقل، ولكن ألطاف رحمانيته رغبتني، وهبات لدنية غمرتني، ونظرات محمدية أعانتني على هذا السفر العجيب، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب، وهو حسبي ونعم الوكيل وهو الحسيب.
المطلب الخامس في التفسير والتأويل والنهي عن القول في الرأي
اعلم رعاك الله، ان التفسير هو كشف ما غطي لأنه مأخوذ من الفسر، وهو الكشف وبيان المعاني المعقولة من الألفاظ، فكما أن الطبيب ينظر في تفسيرته أي دليله ليكشف عن علة المريض بعد فحصه ومعرفة الداء ليصف له الدواء، كذلك المفسر ينظر في معاني الألفاظ بعد تمحيصها، ليكشف عن غوامضها ويعلم معناها وشأنها وقصتها، وهو يتوقف على النقل المسموع في معاني الألفاظ، ويلحق به الحديث الشريف، أما في غيرهما فلا يتوقف على ذلك، بل له أن يقدح فكرته لاستخراج معاني الكتب الأخرى.
1 / 14
أما التأويل فهو الرجوع إلى الأصل وردّ الشيء إلى الغاية فيه والمراد منه، وهذا يتوقف على الفهم الصحيح، لأن المراد منه غايته القصوى وبيان المعاني والوجوه المستنبطة الموافقة للفظ الآية، ويحتاج للوقوف على العلوم العربية ولا يتقيد بالمسموع، لهذا منع القول بالرأي في القرآن لأنه منزل من الله تعالى الذي حدّد شأن البشر فيه بقوله جل قوله (ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) الآية ٧ من آل عمران ج ٣، لهذا لا يجوز لأي كان تأويله ما لم يكن متضلعا بالعلوم العربية، والأحاديث النبوية كالسلف الصالح من التابعين، لأن العارفين والربانيين أيضا لا يعلمون جميع حقائقه، تأمل في قوله تعالى بعد ذلك (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) وسيأتي في تفسير هذه الآية ما به كفاية، لتعذر وقوفهم على المعنى المراد فيه، راجع ما بيناه آنفا من الأحاديث في المطلب الثاني هذا.
وقد روي عن عمر ﵁ حينما سئل عن القرآن، قال أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إن أنا قلت في القرآن (أي برأي) وقد رخص لأهل العلم بالتفسير والتأويل بما لا يخالف السنة والكتاب، لأن الصحابة رضوان الله عليهم، فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من حضرة الرسول، بل اجتهدوا فيه على قدر فهمهم، وقد دعا ﷺ لابن عباس فقال اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين، فكان أكثر ما نقل عنه في التفسير.
هذا وان المرء مهما سمت رتبته في المعارف، وعلت درجته في الذكاء، لا يبلغ مبلغ ابن عباس، أو عمر ﵄، إذا فلا يجوز أن يجرؤ أحد على الحوض في آيات الله إلا عن سماع وتوقيف متواترين، أما بعض أهل هذا الزمن المتزعمون فإنهم يهرفون بما لا يعرفون ويقولون ما لا يفعلون.
هذا وإن من المفسرين من إذا اطلعت على تفسيره شمت منه القصد بإظهار فضله واقتداره حيث أدخل فيه من الكلام ما يحتاج إلى تفسير على أن الأفاضل ليسوا بحاجة إلى إظهار فضلهم وإذا كان الغير لا يستفيد من تفسيرهم فيكونوا قد فسروا لأنفسهم عفا الله عنهم ووقانا شر أنفسنا.
1 / 15
المطلب السادس في فضل القرآن وحفظه وتهديد من ينساه والسفر به
اعلم حرسك الله ان القرآن الكريم أفضل الكتب السماوية وان التمسك به وصول إلى منزله، والمحافظة عليه طريق النجاة، فهو العروة الوثقى والحبل المتين.
فقد روى مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام يوما فينا رسول الله خطيبا (بماء يدعى خما) بين مكة والمدينة، فحمد الله واثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه، وإني تارك فيكم ثقلين كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، وفي رواية: من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضل وفي أخرى: كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة. وفي رواية الترمذي: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما. وهذا من الأهمية بمكان، لأن حضرة الرسول في قوله هذا ينتظر نتيجة أعمال أمته في العمل بأحكام القرآن وفي مراعاتهم لأهل بيته، وانهم المسئولون عن ذلك في يوم هم أشد حاجة لشفاعته يوم لا ينفع مال ولا جاه ولا بنون.
هذا واعلم أن كلام السادة الصوفية في القرآن لا يعدّ تفسيرا لغيرهم لأنه عبارة عن إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لهم في خوارق أحوالهم وهي حجاب لغيرهم، بل يحرم عليهم القول بها لعدم معرفتهم المراد منها لأن لهم كلمات استعملوها لا يعرفها إلا من هو منهم أو واقف على تفسيرها، كالمبين في عوارف المعارف للسهروردي وما يماثله من كتبهم، كما أن تفسير بعض المفسرين الذين همهم البلاغة ووجوه الإعراب بما يحتاج إلى تفسير دقيق حجاب لغيرهم أيضا لعدم وقوفهم على مرادهم منه.
فقد روى ابن أبي شيبة في سنده ومحمد بن نصر وابن الأنباري في كتاب المصاحف
1 / 16
والحاكم في المستدرك- وصححه- والبيهقي في حديث ابن مسعود في الوعاء أن النبي ﷺ قال: إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يلوج فيقوم ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الردّ، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف. قال الحاكم هذا صحيح الاسناد ولم يخرجه البخاري ومسلم بسبب ما قيل في صالح بن عمر الذي هو في سنده وليس كذلك فإن صالحا قد خرج له مسلم وانما تركاه بسبب شيخه إبراهيم بن مسلم الحجري الذي ضعفه الجمهور، وما ضعفوه بطعن في صدقه أو حفظه وانما وجدوا له رفع عدة أحاديث إلى النبي ﷺ هي موقوفة على عبد الله بن مسعود وعلي وعمر ﵃ ولكن خرّج سفيان بن عتيبة بأنه جار ابراهيم هذا فأعطاه كتبه فصحح له المرفوع والموقوف بقوله هذا عن النبي ﷺ، وهذا عن عبد الله بن مسعود، وهذا عن عمر، وهذا عن علي، والظاهر أن هذا الحديث مما رفعه سفيان، ولذلك خرجه ابن أبي شيبة، ومن ذكرنا مرفوعا، وروي نحوه من حديث علي كرم الله وجهه، واعتمده القاضي الباقلاني في كتابة اعجاز القرآن.
مطلب في حفظ القرآن والشهادات به هذا وقد حفظ القرآن عن ظهر غيب في زمن الرسول ﷺ عبد الله بن مسعود، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد من الأنصار، وأبو الدرداء من المهاجرين، وآخرون كثيرون لم أقف على أسمائهم، فهذه شهادات الرسول في حق القرآن وفضله وشهادة الله تعالى مذكورة فيه، وقد طفحت الكتب من يوم نزوله إلى الآن بفضله، وسيستمر إن شاء الله إلى آخر الدوران، أما شهادة الأجانب بفضله فقد صرفنا النظر عنها، اكتفاء بما ذكره السيد محمد فريد وجدي في مقدمة تفسيره، والطنطاوي في تفسيره، ت (٢)
1 / 17
وعبد الحليم بدير في رسالته، والإمام محمد عبده في كتبه، ورشيد رضا في مقالاته، وما جاء في المجلات المصرية وغيرها، وما بعد شهادة الله شهادة، وتفضيل رسوله تفضيل، قال الأبو صيري:
أيمدح من اثنى الإله بنفسه ... عليه فكيف المدح من بعد ينشأ
واعلم ان الأجانب لم يطلعوا على مزايا القرآن، وخصال من أنزل عليه إلا بعد اختلاطهم في الإسلام في الحروب الصليبية وإعجابهم بمعاملة الإسلام لهم، وتيقنهم بأن ما كان يشوهه لهم بعض رؤسائهم ناشىء عن غلوهم، ولهذا قال ما قاله بعض أكابرهم وعلمائهم في القرآن، انه الحق وان الرسول جاء به بالصدق، وانه صالح لكل زمان، وإني أتمسك به نجاة من الحيرة التي كان فيها البشر، من أمر الدين الذي هو ضالة الأرواح، وأنشودة العواطف، ويلسم جراح الحياة، ونسيم الراحة والطمأنينة، ومهب نفحات الحق، الذي هو في الأصل واحد، لا تعدد ولا تخالف فيه، إذ جاءت به الرسل من الإله الواحد الذي لا شريك له ولا وزير، وإنما طرأ الخلاف على الأمم فيه بما احتوشهم من روح النزاع وغريزة حب الرئاسة، ومنبع الطمع في المال، قال تعالى: (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) الآية ١٩ من سورة يونس من ج ٢، وهذا القرآن هو الذي قرب أساطين العدل بين البشرية، لهذا أمرهم الرسول بالتمسك فيه، واتباع أو امره، واجتناب نواهيه، وحذرهم من نسيانه لما فيه من المفاسد المترتبة على عدم العمل به، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري، قال: قال ﷺ. تعاهدوا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تقصيا من الإبل في عقلها. ورويا عن ابن عمر: إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، ان تعاهدها أمسكها، وان أطلقها ذهبت، ورويا عن عبد الله بن مسعود: بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت بل هو نسيّ، استذكروا القرآن فإنه أشد تقصيا من صدور الرجال من النعم في عقلها. إذا يجب على المرء أن يحافظ على ما حفظه من كتاب الله تعالى ويتداوله ليل نهار لئلا يدخل في هذا الوعيد. وقال العلماء إنّما يدخل في هذا الوعيد من ينساه قراءة لأنه يحرم منه،
1 / 18
أما من ينساه عن ظهر الغيب ويقرأه في المصحف فلا يشمله وعليه أن يحتفظ بالقرآن في بيته تبركا، وإن كان وعاه عن ظهر الغيب، وان يقرأه فيه لأن النظر اليه عباده على حدة دون عبادة القراءة، وله أن يسافر به مع المحافظة عليه، على أن لا يضع شيئا عليه إلا لأجل حفظه، وأن لا يمسه إلا طاهرا اتباعا للأمر فيه، ويجب أن لا يسافر به الى محل يخاف عليه التلف أو الإهانة، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: لا تسافروا بالقرآن الى أرض العدو مخافة أن ينال بسوء، ومن ذلك السفر به إلى من يلمسه بغير وضوء أو يتهاون به، قال تعالى (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) الآية ٧٩ من سورة الواقعة الآتية. ولهذا بحث سنثبته في محله إن شاء الله.
المطلب السابع في التشريع في نهج القرآن ومفاصده ومميزات مكيه ومدنيه
اعلم رعاك الله، ان الله ﷿، راعى في تشريعه على عباده أمورا ثلاثة رحمة بهم وعطفا عليهم.
الأول: عدم الحرج أي الضيق، قال تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)، الآية ١٥٦ من الأعراف الآتية، وقال جل شأنه (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ الآية) ١٨٥ من البقرة في ج ٣، وقال فيها أيضا (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا) الآية الاخيرة منها، وقال أيضا في صدر هذه الآية (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها) وقال (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية ٧٨ من سورة الحج في ج ٣، وقال (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) الآية ٢٧ من سورة النساء، وقال (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) الآية ٧ من المائدة في ج ٣، أيضا وقال ﷺ بعثت بالحنيفية السمحة، وكان ﷺ ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، ولذلك شرعت الرخص كالفطر للمسافر وإباحة بعض المحرمات عند الضرورة، والتيمم والمسح في الوضوء والصلاة، وشرب الخمر عند التهديد بالقتل.
1 / 19
الثاني: تقليل التكاليف، وهي نتيجة عدم الحرج، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)، الآية ١٠٤ من المائدة في ج ٣، لأن الله تعالى سكت عن تحريم بعض الأشياء رحمة بنا لا نسيانا، ليكون العبد مختارا بفعلها أو تركها، وفي هذا قوله ﷺ حين سئل عن الحج، أفي كل عام يا رسول الله، فقال لو قلت لوجبت، ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، ويدل عليه قوله ﷺ أعظم المسلمين في المسلمين جرما، من سئل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته، وقوله ﵊، إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها.
وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم في غير نسيان، فلا تبحثوا عنها.
الثالث: التدرج في التشريع، وذلك انه ﷺ بعث والعرب على عادات مستحكمة فيهم، منها ما هو صالح للبقاء لا ضرر فيه على تكوينها، ومنها ما هو ضار يجب ابعادهم عنها، فاقتضت حكمته أن يتدرج في نهيهم عنها شيئا فشيئا، كالخمر والميسر، حين سئل عنهما في المدينة، أنزل الله فيهما (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) الآية ٢١٩ من البقرة ج ٣، ففهم فقية النفس طيبها، أن ما كثر إثمه حرم فعله، فانتهى لنفسه، وأكب عليها من لم ينتبه لذلك، وهذه الآية بعد أن عرض عن الخمر في معرض النعم التي عددها على عباده في قوله عز قوله (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) الآية ٦٧ من سورة النحل في ج ٢، لأن العطف يعمّ على أنها ستحرم بعد، لأنها لم توصف بالحسن، إذ وصف المباح من ثمراتها بالحسن، كالثمر والعنب والمريس والزبيب والدبس والخل وسائر الأشربة المتخذة من عصيرها، كما سيأتي تفصيله في تفسيرها، دون السكر فإنه لم يصفه بذلك، وهذه الآية مبدأ التعريض بتحريمها لأنها أول ما نزل منها في مكة شرفها الله، أما آية البقرة فما بعدها، فقد نزلت بالمدينة المنورة، الآية الثالثة قوله
1 / 20
﵎ (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) عدد ٤٣ من سورة النساء في ج ٣ فقد نهاهم فيها عن السكر في الصلاة، وهو نهي مؤكد للأول، فانتهى عنها فيها فقط من لم تكن نفسه زكية عارفة مغزى هذا النهي، واجتنبها ذوو العقول الكبيرة، والفطن الحاذفة، والفراسة الماهرة، والنفوس الطاهرة فيها وفي غيرها، لأنه عرف رجس الخمرة في النهي عن تعاطيها في الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، وان تركها في غيرها مما يرضي ربه الذي نهاه عنها فيها. ثم أنزل رابعا: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) الآيتين ٩٣ و٩٤ من سورة المائدة في ج ٣ أيضا فعرف الكل تحريمها في كل حال. وفي هذا التدريج وجد أصل رابع وهو الإجمال بعد التفصيل، ويتضح من المقارنة بين التشريع المكي والتشريع المدني، أن المكي مجمل قلما يتعرض للتفصيل، والمدني مجمل يتعرض للتفصيل في كثير من الأحكام، وأن معظم الأحكام مستنبطة من المدني، ومعظم ما يحمي العقيدة من المكي، وهذا أول مميزات المكي عن المدني الأربعة؟
مطلب مميزات المكي عن المدني الثاني: أن آيات المكي على الجملة قصار، وآيات المدني طوال، مثلا سورة الشعراء المكية، آياتها ٢٢٧ وسورة الأنفال المدنية، آياتها ٧٥ مع أن كلا منهما نصف جزء وأن جزء (قَدْ سَمِعَ) مدني وآياته ١٣٧، وجزء تبارك مكي وآياته ٤٣١، وأن سورة الحج مدنية، وسورة المؤمن مكية، عدا بعض آيات فيهما وهما متقاربتان من حيث عدد الآيات، وقد توجد بعض الآيات على العكس لا بعض السور وعليه تكون القاعدة أغلبية، ولهذا قلنا في الجملة، وما قيل ان سورة (التغابن) من جزء قد سمع مكية، وسورة تبارك من جزء تبارك مدنية ضعيف. واعلم أن نسبة المكي للمدني ١٩ من ٣٠ وآياته ٤٧٨٠ ونسبة المدني المكي ١١ من ٣٠ وآياته ١٤٥٦.
1 / 21