আধুনিক যুগের সংস্কার বিষয়ক নেতারা
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
জনগুলি
فلما أتم دراسته انغمس في الحياة العملية، وتنوعت أعماله، وتباينت اتجاهاته، فمن محرر لجريدة رسمية، إلى رئيس كتاب المحكمة الشرعية، على قاض شرعي في بلدة من البلاد السورية، إلى رئيس البلدية. ثم هو بين الحين والحين يعتزل الوظائف الحكومية فينشئ لنفسه جريدة في «حلب» اسمها الشهباء، أو يشتغل بالأعمال التجارية، أو يقوم بمشروعات عمرانية، ومن كل ذلك يستفيد خبرة وتجربة بالحياة. وفي كل الأعمال الحكومية والحرة يصطدم بنظام الدولة، وباستبداد الحكام، وفساد رجال الإدارة، فينازلهم وينازلونه، ويحاربهم ويحاربونه، وينتصر عليهم حينا، وينتصرون عليه حينا، وسلاحه دائما النزاهة والعدل والاستقامة، وسلاحهم دائما الدسائس واتهامه بخروجه على النظام، ودعوته للشغب، وما شاكل ذلك مما هو عادة الظالمين، وكانت البلاد التي يعيش فيها موبوءة بحكم «عبد الحميد» لا يستطيع أن يعيش فيها حر صريح، ولا ينجح فيها تاجر نزيه، ولا موظف جريء مستقيم، وهذا النوع من الحكم عدو كل كفاية، وقاتل كل نبوغ!
ارتفع شأنه في بلده، فكان يقصده أصحاب الحاجات لقضائها، والمشاكل لحلها، ورجال الحكومة أنفسهم يستشيرونه فيما غمض عليهم، وهو في كل ذلك جريء فيما يقول، لا يقر ظالما على ظلمه، ولا يسالم جائرا لمنصبه أو جاهه. من أجل هذا غاضب «عارف باشا» والي «حلب» وأخذ يعدد سيئاته وينقم عليه تصرفاته، ويحرض الناس على رفع صوتهم معه بالشكوى منه لرؤسائه في الآستانة، فانتقم «عارف باشا» لنفسه، فزور على «الكواكبي» أوراقا واتهمه بأنه يسعى لتسليم «حلب» لدولة أجنبية، وحبسه وطلب محاكمته، فبذل الكواكبي ورجاله جهدا كبيرا ليحاكم في ولاية غير ولاية «حلب»، وحوكم في بيروت، فحكم ببراءته، وظهرت خيانة الوالي ومكايده فعزل.
وكان من أعداء «الكواكبي» أيضا «أبو الهدى الصيادي» الذي سبق وصفه في ترجمة «عبد الله نديم» لأن «الكواكبي» أبى الاعتراف بصحة نسبه. ولاعتداء «أبي الهدى» على بيتهم بأخذ نقابة الأشراف لنفسه منهم، فكان «أبو الهدى» أيضا يدس له، ويغري ولاة الأمر به.
فكان من نتيجة محاكمته على التهمة التي اتهمه بها «عارف باشا»، ومن معاكسة «أبي الهدى» وأعوانه له حتى في تجاربه، إن خسر ألوف الجنيهات من ماله، فاحتمل ذلك بنفس قوية لا تجزع ولا تتحول.
وأنصع صفحة في تاريخ حياته قوة شعوره بفساد حال المسلمين، وتخصيص جزء كبير من حياته في تعرف أحوالهم في جميع أقطار الأرض، وتشخيص أمراضهم وتلمس العلاج لهم؛ فعكف على مطالعة تاريخهم في ماضيهم وحاضرهم، وما كتبه الكتاب المحدثون في ذلك في الكتب والمجلات والجرائد، ودرس أحوال المسلمين في المملكة العثمانية. ثم رحلته إلى كثير من بلاد المسلمين، فساح في سواحل إفريقيا الشرقية، وسواحل آسيا الغربية؛ ودخل بلاد العرب وجال فيها، واجتمع برؤساء قبائلها، ونزل بالهند وعرف حالها، وفي كل بلد ينزلها يدرس حالتها الاجتماعية والاقتصادية، وحالتها الزراعية، ونوع تربتها وما فيها من معادن ونحو ذلك، دراسة دقيقة عميقة؛ ونزل مصر وأقام بها، وكان في نيته رحلة أخرى إلى بلاد المغرب يتم فيها دراسته. ولكنه عاجلته منيته.
نشر نتيجة دراسته في مقالات كتبت في المجلات والجرائد، ثم جمعت في كتابين: اسم أحدهما «طبائع الاستبداد»، والآخر «أم القرى»: الأول في نقد الحكومات الإسلامية، والثاني أغلبه في نقد الشعوب الإسلامية.
لقد كان الحديث في مثل هذه الموضوعات التي مسها «الكواكبي» في «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» من الموضوعات المحرمة، لأنها تمس نظام الحكم من قريب، وتفهم الشعوب حقوقهم وواجباتهم ، وتقفهم على مناحي الظلم والعدل، وتهيئتهم للمطالبة بالحقوق إذا سلبت، والقيام بالواجبات إذا أهملت، وهذا أبغض شيء لدى الحاكم المستبد، لذلك رأينا الشرق من بعد ابن خلدون أغلق هذا الباب، ولم يفتحه أي باحث بعده، وصار كتاب ابن خلدون مقدمة بلا نتيجة. والعلوم التي حوفظ عليها واستمرت دراستها هي علم النحو والصرف واللغة والفقه، لأنها لا تمس الحاكم من قريب ولا بعيد، ولا تفهم الناس أين هم من حاكمهم وأين حاكمهم منهم. والأدب مداح للملوك والحكام، يجعل ظلمهم عدلا وفسادهم صلاحا، فإذا أعطاهم الحاكم قليلا مما سلبه من أمتهم هللوا وكبروا، وعجبوا من كرمه الحاتمي، وسخائه الذي لا نظير له. والمؤرخون لا يؤرخون إلا شخصه في حياته وأعماله وحروبه وزوجاته وأولاده، أما الشعب فلا شيء إلا أن يكون مزرعة للحكام. وأحب علم إلى الحكام المستبدين وادعاهم لنصرته هو ما لا يتصل بالحكم ونظامه، ورجال الدين المقربون هم الذين يدعون إلى التسليم بالقضاء والقدر، ويستطيعون أن يولدوا المعاني من مثل «السلطان ظل الله في أرضه». أما علم الاجتماع وعلم السياسة والاقتصاد فلم يعرفه الشرق بعد ابن خلدون بتاتا.
كان هذا في الشرق، على حين أن الغربيين بدأوا بعد ابن خلدون يبحثون في المجتمعات بحثا واسعا، يتعرفون علل الجماعات وأمراضها وأنواع الحكومات ومزايا كل شكل وعيوبه، ويتحررون من القيود، ولا يعبثون بالتضحيات في سبيل الحريات، ويبني لاحقهم على ما وصل إليه سابقهم.
وبلغ الضيق في الشرق منتهاه في عهد السلطان عبد الحميد، ولكن شدة الضغط تولد الانفجار، والقسوة تفتق الحيلة. وتوالي الاضطهاد يولد البغضاء، فكثرت في هذا العهد الجمعيات السرية تعمل لتحرير البلاد العثمانية من الظلم، وتعمل لوضع نظام ديمقراطي لا يكون فيه السلطان الحاكم بأمره، وفر كثير من العثمانيين إلى أوربا يدرسون نظم الحكم الأوربي وما وصلت إليه أوربا من البحوث الاجتماعية، وأخذوا يكتبون ذلك في جرائدهم ومجلاتهم التي يحررونها خارج الحدود العثمانية، ومنها تتسرب إلى البلاد نفسها. وأخذت مصر بعد انفصالها من حكم العثمانيين تؤوي الأحرار، وتؤيد القول في نقد نظام الحكم، وظهرت في الجرائد والمجلات مقالات بالعربية في تشريح أحوال الجماعات وأصول الحكومات، وترجم إلى العربية «أصول النواميس والشرائع» لمنتسكيو. وبدأت موجات البحث الاجتماعي في أوربا تصل إلى الشرق من طريق الترجمة وطريق المثقفين في أوربا.
في هذا الوسط طلع الكواكبي، وكان ظهوره بكتابيه جرأة كبيرة. لقد استفاد مما نقل عن الغرب، ولم يكن يعرف لغة أوربية، إنما يعرف العربية والتركية والفارسية، فاستفاد مما نقل إليها، ومما كان يترجم له في هذا الباب خاصة. وقد ظهر أثر هذا الاقتباس في كتابه «طبائع الاستبداد». أما كتابه «أم القرى» فبحث مبتكر يدل على كبر عقله، وقوة تفكيره، وسعة اطلاعه، وصدق غيرته على العالم الإسلامي.
অজানা পৃষ্ঠা