يرتعش القلم بين أصابع بدور، تتوقف عن الكتابة، هل هي مريضة نفسيا؟ هل فقدت عقلها؟ كيف تركت مولودتها فوق الرصيف وعادت لتنام في فراشها؟ أيكون الخوف من العار أشد قوة من غريزة الأمومة؟ أيهما أكثر أمومة، الأم التي تخنق طفلها خوفا من الفضيحة أم الأم التي تتركه فوق الرصيف حيا؟ وماذا تقول عنها زينة بنت زينات إن اعترفت لها أنها أمها؟ وماذا يقول الناس؟
تتلفت بدور حولها في حيرة، صوت بدرية يخاطبها في أعماقها: اذهبي إليها، اعترفي لها، خذيها في حضنك وضميها، اذرفي الدموع فوق صدرها وقولي لها: سامحيني يا ابنتي، سامحيني. سوف تسامحك زينة بنت زينات؛ لأن قلبها كبير، سيصبح لها بدل الأم الواحدة اثنتان، مع الأم الثالثة أبلة مريم.
تطرد بدور بيدها ذلك الشبح، تطرد صوت بدرية وصورتها، يأتيها نشيجها المتحشرج في صدرها: الموت أهون من الفضيحة يا بدرية، وما جدوى الاعتراف بالحقيقة بعد كل هذه السنين؟ لم تعد زينة بنت زينات في حاجة إلى هذا الاعتراف، زينة بنت حياتها وسعادتها دون حاجة إليك يا بدوره. أنت يا بدور في حاجة إليها الآن، تنشدين تعويض فشلك في الكتابة، فشلك في حياتك كلها، تحاولين علاج نفسك من الحزن والاكتئاب دون جدوى، دون جدوى. كان يجب أن تفعلي ذلك منذ زمن بعيد، راح الوقت وضاع الأوان، لن تعيدي عقارب الزمن إلى الوراء.
يأتيها صوت بدرية تقول: لا شيء اسمه بعد الأوان يا بدور، عقارب الزمن يمكن أن تعود إلى الوراء، اقرئي قليلا في علم الكون الجديد، سيعود الزمن إلى الوراء مع تغير حركة الكواكب، والأرض حول الشمس. ستعودين إلى الشباب يا بدور، لن يكون هذا مستحيلا في المستقبل، لم يخلق الكون في ستة أيام ولا المرأة أتت من ضلع آدم، بل جاء آدم من رحم امرأة. أصبح العقل هو المستقبل وليس الخزعبلات.
في طريقه إلى زينة كان أحمد الدامهيري يعاني القلق والاضطراب، النشوة والشهوة، الترقب والحذر، الخوف، التوقع، الإقدام، الإدبار، السعي نحو الجنة وحور العين، الرغبة في الفرار من الغيب والنار، يتحسس آلة القتل الحديدية في جيبه الخلفي، فوق الألية اليمني، ملمس الحديد الصلب يمنحه بعض الثقة والشجاعة. تمتد يده تلامس قطعة اللحم الصغيرة الطرية أسفل العانة، تزول الثقة والشجاعة، منذ طفولته لم تمنحه هذه القطعة الصغيرة من اللحم إلا الهوان، تخذله دائما في اللحظات الهامة، حين يتأجج قلبه بالرغبة في الحب، حين تشتعل روحه بالشهوة في المرأة، يتراجع جسده مرتخيا متخاذلا، لا تنتصب الآلة الذكورية أسفل بطنه إلا مع امرأة لا يحبها، مع امرأة لا يحترمها، امرأة لا يحلم بها، امرأة من الجواري الغواني أو المومسات، ترقد تحته مستسلمة، تسلم له جسدها مثل قطعة من اللحم، دون عقل. يخاف في أعماقه من عقل المرأة، تقدم له لحمها مقابل مبلغ من المال يدفعه، أو سيارة يشتريها لها، أو شقة يسلمها مفتاحها، يدها تمتد له بعد أن تمنحه نفسها، يدخل بها وهي تحته في الفراش كما يدخل أي ثقب مفتوح دون جهد، دون قلق، دون خوف من العواقب في الدنيا أو الآخرة. لكن هذه المرأة يخافها، زينة بنت زينات، كلما نظر في عينيها اشتد خوفه منها، كلما اشتد خوفه منها اشتدت رغبته فيها، هاتان العينان الواسعتان المفتوحتان على الأفق، تشوبهما حمرة دم لا ينزف، المقلتان الزرقاوان الكبيرتان السوداوان لا يشوبهما شيء، تطلان من بورة غامضة في روحها، أو بئر عميقة سحيقة في جسدها داخل مركز المخ.
يحدثه صوت خافت في أحشائه وهو جالس على الأريكة الوثيرة داخل السيارة الطويلة السوداء، يقودها السائق محمود نحو بيتها في الحي العشوائي البعيد، ترمقه عينا السائق الضيقتان الصغيرتان الغائرتان في عظام الوجه العريض، من خلال المرآة الأمامية للسيارة. يحول بصره بعيدا عنه، يغمض جفونه ويسترخي جسده قليلا، يستمع إلى الهمس في أعماقه، يشبه صوت الله يحدثه في النوم: أنت يا أحمد الدامهيري لا تشبع ولا تقنع، أنا منحتك كل شيء في الدنيا والآخرة، لك في الجنة قصر كبير محجوز لك ولمن تشاء من الحوريات، ولك في الدنيا كل زينات الدنيا، مال وبنون ومناصب ونساء وقصور وخدم وحرس وحشم و... - نعم يا رب عندي كل ذلك، أشكرك يا رب على نعمك الكثيرة لكن ... - لكن ماذا يا أحمد يا دامهيري؟ ماذا تريد أكثر من ذلك؟ - أريدها يا رب، هذه المرأة، زينة بنت زينات، أريد هاتين المقلتين الكبيرتين المشتعلتين بالوهج الأزرق الأسود، بالتحدي الأسود الأزرق، بالرغبة في أن تخرق قانونك يا رب وقانون الطبيعة، وقانون الامتلاك والسوق الحرة. هذه المرأة تسلبني حريتي في امتلاكها، شيء فيها يا رب بعيد عن الامتلاك، بعيد عن إرادتك يا رب؟ كيف خلقتها يا رب بهذا الجمال الغريب الخارق لقوانين الطبيعة، وخارق لقانونك أيضا يا رب؟ إنها تفقدني الصواب، لا أعرف الفضيلة من الرذيلة، لا أفرق بين الحق والباطل يا رب.
هذه الأنوثة القوية يا رب تكاد تشبه الذكورة متناقضة مراوغة، تغريني بامتلاك ما أعجز عن امتلاكه، كل محاولة مني لامتلاكها لا تفعل إلا النقيض، تكشف عجزي يا رب عن امتلاكها، تكشف فشلي أمام نفسي. لماذا خلقتها يا رب بهذا الشكل؟ امرأة لا يمكن أن تمتلك وإن منحتها كل ما تملك؟ أرسل إليها يا رب رسائل كثيرة، لم ترد على رسالة واحدة. اعترفت لها بالحب، الحب الخالص لوجهك الكريم يا رب، حب الروح للروح، قلت لها: سأعطيك نفسي وكل ما أملك، لم ترد على رسالة واحدة يا رب. ماذا أفعل يا رب العالمين؟ أنت تشهد عذابي، عينك الساهرة التي لا تنام تراني وأنا مؤرق في سريري، وأنا أتمدد فوق أريكة الطبيب النفسي، وأنا أبكي وأكتم الأنين طوال الليل.
يتطلع أحمد الدامهيري إلى الرب في السماء، تخترق عيناه زجاج السيارة الفيمية، يكشف الخارج ولا يكشف الداخل، يرى أحمد الدامهيري الرب في السماء، متخفيا وراء السحابة السوداء، لكن العين المطلة من السماء لا تنفذ من خلال الزجاج الفيمية. نوع من الزجاج المستورد من بلاد الكفرة، لا ينفذ منه الرصاص، لا تخترقه عيون الأعداء ولا عيون الأصدقاء، محصن ضد كل العيون المتلصصة من وراء الأقنعة، في الأرض أو في السماء، حتى عين الله لا تخترقه؛ لأنه مصنوع بأيدي الكفرة ، بأيدي الشيطان، لا يتحدى إرادة الله إلا الشيطان.
يسترخي جسده في الأريكة الطرية، متصورا أن عين الله لا تراه. إنها لا تنفذ من خلال الزجاج المضاد للرصاص، لكنه سرعان ما يتذكر أنه يخدع نفسه؛ لأن عين الله أقوى من الرصاص، وأقوى من الكفرة، يمكن أن تنفذ في الحديد، الله قادر على كل شيء، يقول للشيء كن فيكون، لماذا لا يأمر هذه المرأة بالخضوع له وهو الأمير الذي اختاره الله دون الآخرين؟ لماذا لا يكون الله معه في هذه المهمة كما كان معه في كل المهمات السابقة مع النسوة الأخريات؟
تلوح له زينة بنت زينات وهي تعزف وترقص وتغني، صوتها، صورتها تطارده، تستولي على عقله، الذي يهمس: هذه المرأة حررت نفسها من امتلاك الآخرين لها إلى حد النقيض، أصبحت هي المالكة لهم.
অজানা পৃষ্ঠা