ثمن الكتابة
الإهداء
زينة
ثمن الكتابة
الإهداء
زينة
زينة
زينة
تأليف
نوال السعداوي
অজানা পৃষ্ঠা
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وإنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
অজানা পৃষ্ঠা
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، أمال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
অজানা পৃষ্ঠা
22 مارس 2017
الإهداء
إلى كل الأطفال البنات والأولاد،
الذين يولدون في الشارع،
دون أب ولا أم،
دون مدرسة ولا كنيسة ولا جامع،
دون أوراق مختومة بالنسر،
ثم يعيشون ويكبرون ويصبحون،
كواكب تقشع الظلام،
تملأ الأرض بالضوء،
অজানা পৃষ্ঠা
وتغير العالم.
زينة
صورتها لا تغادر ذاكرتي، ملامحها محفورة في خلايا المخ، داخل عظام الرأس وسراديب العقل الباطن، تشبه صورتي في المرآة وأنا طفلة في الثامنة من عمري. كنت أمشي في الشارع حاملة حقيبة كتبي، قدماي تدبان على الأرض داخل حذاء جلدي أسود لامع، كعبه مربع متين، يدق فوق الأسفلت بانتظام وثبات وفخر؛ فأنا ابنة الأستاذ الكبير زكريا الخرتيتي، تظهر صورته في جريدة الصباح داخل برواز مربع، فوق عموده اليومي بعنوان «أمانة العهد».
كانت في التاسعة من عمرها، ملامحها تشبه ملامحي باستثناء العينين. المقلتان الكبيرتان في عينيها، تشعان ضوءا أزرق إلى حد السواد الداكن، بلون عين الليل، تنجذب عيناي إليهما دون إرادتي، تقتحم المقلتان سطح وجهي، تنفذان مثل حد السكين إلى البؤرة الخفية، في عمق الأحشاء.
كانت تبدو أكبر مني في العمر، كأنما جاءت إلى الدنيا قبلي بمائة عام، كأنما ليس لها عمر، ليس لها أب ولا أم، ليس لها بيت ولا غرفة نوم، ليس لها شرف أو عذرية تخاف على ضياعها، ليس لها شيء تملكه أو تفقده في الدنيا أو في الآخرة.
كانت بنتا مثلي، ومثل كل البنات في المدرسة، لكن جسمها كان طويلا نحيفا صلبا كأنما غير مصنوع من اللحم، يشق الهواء وهي تمشي كالرمح، قدماها حافيتان بغير حذاء، تدوس بهما على الحصى والزلط والشوك، دون أن تشعر بألم، أو تسيل منها قطرة دم.
فوق السبورة أكتب اسمي الثلاثي بالطبشور الأبيض: «مجيدة زكريا الخرتيتي.» يرمقني المدرس بإعجاب. يقول للبنات إنني سأكون مثل أبي كاتبة كبيرة، تظهر صورتي في الصحف والمجلات، والشاشة المضيئة. يقول إن جدي الخرتيتي باشا كان زعيما وطنيا، وإن عائلتي العريقة الأصل تمتد جذورها إلى سعد زغلول، وعرابي باشا، تصل في امتدادها إلى مكة المكرمة، وقريش، والنبي رسول الله.
كان لكل تلميذة أب معروف، تكتب اسمه إلى جوار اسمها فوق السبورة، تفخر كل واحدة منهن بأبيها أو جدها، أو خالها أو عمها، أو أي رجل آخر معروف في العائلة.
إلا هي! كانت تقف عند السبورة منتصبة الرأس، يأمرها المدرس أن تكتب اسمها، تمسك إصبع الطباشير الأبيض بأطراف أناملها الحادة المدببة، يستدير جسمها لتواجه السبورة، نرى ظهرها الصلب المشدود العظام، فوق مريلتها رقعة مشغولة بخيط أسود، في قدميها صندل ليس له كعب، تكتب اسمها بحروف كبيرة متعرجة مثلنا نحن الأطفال: «زينة!»
يلسعها المدرس بالعصا الخيزران فوق ردفها من الخلف، فوق الرقعة في المريلة من قماش الدمور أو الجبردين.
অজানা পৃষ্ঠা
اكتبي اسمك الثلاثي مثل زميلاتك.
تمسك إصبع الطبشور، وتكتب: «زينة بنت زينات!»
ثم تستدير بجسمها لتنظر إلينا، المقلتان الكبيرتان في عينيها تشعان وهجا أسود، والمدرس يشخط: «اكتبي اسم أبيك وجدك، يا حمارة!»
تتقد الشعلتان السوداوان بنار زرقاء، تلقي إصبع الطبشور إلى الأرض، تدوسه بقدميها، ثم تمشي برأسها المنتصب إلى مقعدها في الصف الأخير.
كان المدرس يعلمنا مبادئ اللغة والدين، يقول: إن الطفلة التي تحمل اسم أمها هي بنت زنى.
كان يعلمنا المفرد والجمع: «كلمة» جمعها: «كلمات»، «تحية» جمعها: «تحيات»، «زنى» جمعها: «زنات».
فوق جدران المراحيض في المدرسة أصبحنا نكتب اسمها: «زينة بنت زنات»، لكنها لم تكن تقرأ ما نكتبه، ولا تحضر إلى المدرسة كل يوم كما نفعل. كانت تأتي مرتين في الأسبوع لتحضر حصة الموسيقى يومي الثلاثاء والخميس مع أبلة مريم، ثم صدر القرار بفصلها من المدرسة. لم أعد أراها إلا صدفة في الشارع.
أبلة مريم كانت تدرسنا العزف على البيانو. تمسك أصابع زينة بنت زينات في يدها، ترفعها عاليا في الفصل؛ لنراها. تفخر أبلة مريم بأصابع زينة، تقول: إنها خلقت للموسيقى، إنها طفلة موهوبة، ليس في الفصل واحدة موهوبة مثلها. تلمع الدموع في عيني زينة، لا تسقط من عينيها دمعة واحدة، فقط تشتد اللمعة في المقلتين السوداوين حتى نظن أنها دموع، ثم تخيب ظنوننا حين تشرق عيناها بابتسامة تضيء وجهها الشاحب النحيل. يشف الضوء من تحت بشرتها السمراء الدكناء المشققة لتصبح ناعمة وردية اللون.
أرمق أصابع زينة الطويلة النحيلة الصلبة وهي تعزف، تجري أناملها القوية فوق أصابع البيانو بسرعة الضوء، ينطلق صوتها وهي تغني أنشودة الوطن. صوتي إلى جوار صوتها متحشرج مبحوح، مكتوم، ومكبوت. أصابعي إلى جوار أصابعها قصيرة سمينة ليس فيها عظام، تشبه أصابع أمي البضة البطيئة الحركة. أمي «بدور هانم» حرم الأستاذ الكبير زكريا الخرتيتي، وهي أيضا أستاذة كبيرة تحتل مكانة أدبية مرموقة.
في الليل، كانت صورة زينة بنت زينات تظهر لي في الحلم، أراها جالسة فوق المقعد الصغير بدون ظهر تعزف على البيانو، دون أن تنظر إلى أصابعها. عيناها مرفوعتان إلى النوتة الموسيقية، تقلب الصفحة وراء الصفحة، تحفظ اللحن عن ظهر قلب، كأنما هي صاحبة الأنغام التي تعزفها، صاحبة الكلمات في الأغنية. وأصابعها تتحرك وحدها دون إرادة منها.
অজানা পৃষ্ঠা
لم أعرف معنى كلمة «زنى» التي ينطقها المدرس بطرف لسانه، كأنما هي بصقة يلفظها من بين شفتيه، لكني تصورت أن موهبة الموسيقي لها علاقة ما بالزنا. وإلا فكيف يمكن بنت الزنا أن تتفوق علينا جميعا في الموسيقى؟!
في أعماقي كنت أحسدها، أراها تمشي في الشارع بقامتها الطويلة الصلبة. تحرك ذراعيها وساقيها بسهولة، ترقص وتغني مع أطفال الشوارع بحرية، لا تخاف أن تتأخر عن العودة إلى البيت. ليس لها بيت تعود إليه، ليس لها أم تنهرها أو أب يصفعها على وجهها إن تأخرت.
في الليل، قبل أن أسقط في النوم، كنت أسمع أبي وأمي يتشاجران. كان عمري خمسة عشر عاما، تلميذة بالمدرسة الثانوية. أسترجع كلمات المدرس حين كان يقول إنني سأصبح كاتبة كبيرة مثل أبي الأستاذ الكبير زكريا الخرتيتي .
أرى صورة أبي منشورة داخل البرواز، فوق وجهه ابتسامة مشرقة، لم أكن أرى هذه الإشراقة في البيت. كان أبي صامتا معظم الوقت، يعود من مكتبه في الجريدة ليدخل غرفة مكتبه في البيت. غرفة كبيرة جدرانها الأربعة تغطيها رفوف الكتب، مكتبه إلى جوار النافذة الزجاجية المطلة على النيل، من خشب الأبنوس المنقوش، تغطيه الصحف والمجلات، صورته معلقة فوق الجدار داخل برواز ذهبي، ينحني أمام رئيس الدولة يتلقى الجائزة التقديرية الكبرى في عيد الأدب والفن.
كان أبي يحذرني من الخروج إلى الشارع، كان يقول لي: إن بنات العائلات الكريمة لا يلعبن مع الأطفال في الشارع. إن جرائم الاغتصاب خطيرة، تنشر الصحف عن هذه الحوادث كل يوم، تتزايد الجرائم مع تزايد الفقر والبطالة، شباب يتخرجون من الجامعات دون عمل من دون أمل في الحصول على الطعام. فما بال الحصول على زوجة؟! يعيشون الحرمان ويغتصبون البنات في الشوارع.
كان شيء ما يجذبني إلى الشارع. داخل البيت كانت الجدران مطلية بألوان وردية زاهية، لكن الهواء كان ثقيلا، كأنما يعبئه دخان شفاف لا تراه العين، لا يشمه الأنف، أحسه يسري فوق جسدي ناعما مشبعا بالكراهية، بالصمت، بالاكتئاب والحزن الخفي.
كانت نوافذ بيتنا مغلقة دائما بالزجاج المزدوج والستائر؛ منعا لدخول التراب المتصاعد من الشوارع، وأيضا الضجيج المتزايد، الأصوات الصاخبة المتصاعدة من الميكروفونات المعلقة فوق منارات الجوامع، دقات الطبول والرقص في حفلات الزواج، والكازينوهات والكباريهات، وصفارات البوليس والحرائق.
كنت أسال أمي، وأنا طفلة: لماذا تزوجت أبي؟ ترد علي قائلة: «الحب يا مجيدة.» لم أكن أعرف بعد معنى الحب بين رجل وامرأة. أحاول في وجه أمي حين تنظر لأبي، أو في وجه أبي حين ينظر إلى أمي، أحاول أن ألتقط نظرة حب في عينيها أو عينيه دون جدوى. لم ألتقط يوما نظرة حب داخل بيتنا، حتى كبرت وعرفت أشياء لم أعرفها.
كان أبي صامتا، وإن تحدث فهو يحكي عن شيء يتعلق بعموده اليومي في الجريدة، أو رئيس التحرير، أو الوزير، أو رئيس الدولة. قد يحكي عن التظاهرات ضد الحرب خارج البلاد، أو سقوط الحكم في العراق، أو مشاكل الفقر في مصر والسودان وإثيوبيا.
كانت أمي أستاذة كبيرة مثل أبي، ربما أكبر منه قيمة؛ فهي رئيسة قسم النقد الأدبي في الجامعة، تحمل درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف. حصلت على الجائزة التقديرية الكبرى قبل أن يحصل عليها أبي، صورتها معلقة داخل برواز ذهبي في غرفة مكتبها، تنحني وهي تتسلم الجائزة من السيد رئيس الدولة في عيد الأدب والفن.
অজানা পৃষ্ঠা
حين بلغت الخامسة عشرة من عمري بدأت أدرك شيئا خفيا في علاقة أبي وأمي، أسمعهما في الليل يتشاجران. صوتاهما يبدآن منخفضين متحشرجين بطيئين، تتزايد سرعتهما بالتدريج، قد تصاحبها أصوات أشياء تسقط على الأرض، أو صفعات على الوجه، أو ركلات بالقدم، تشتد الضربات تحت ضلوعي مع اشتداد العراك، ينكمش جسدي تحت الغطاء، أكتم أنفاسي اللاهثة، أخشى أن يسمعها أبي وأمي، يكتشفان أنني صاحية ولست نائمة.
حملت هذا العبء الثقيل في قلبي السنة، وراء السنة؛ أربعة وعشرين عاما، السر الخفي الذي لا يعرفه أحد في الوجود. لا أستطيع أن أبوح به لمخلوق، كأنما البوح به خيانة لأبي وأمي.
كان أبي وأمي يظهران أمام الناس في سعادة كاملة، يتحدثان في الصحف والإذاعات عن زواجهما السعيد، عن علاقتهما النادرة القائمة على الحب والثقافة الرفيعة.
كتمت الحقيقة في أحشائي مثل الورم الخبيث، ينمو رغم إرادتي، يضغط على خلايا روحي وعقلي في آن واحد. لجأت إلى طبيب نفسي اسمه معروف، كان زميلا لأبي في المدرسة. تصورت أنه سوف يعالجني من الاكتئاب، إلا أنه كان مثل أبي وأمي، له وجهان كل منهما يناقض الآخر، يؤلف كتبا عن خلايا المخ وعلم الأعصاب في علاقته بالعقل والنفس، يعاني الازدواجية والاكتئاب، يعالجني بالأقراص أحيانا، وأحيانا بشيء آخر.
تخرجت في كلية الآداب بدرجة «مقبول». لم أحب الأدب ولا الكتابة، كنت أفضل الحساب والأرقام، لا أميل إلى ما يسمونه الخيال الأدبي؛ ربما انتقاما من أبي وأمي. والمدرس الذي تنبأ بأنني سوف أكون كاتبة كبيرة، منذ الطفولة كرهت هذا المدرس، أردت أن أكذب نبوءته. كنت أحب الموسيقى والرقص والغناء، لكن أصابعي القصيرة كانت عاجزة عن العزف، تشبه أصابع أمي. جسمي قصير سمين يشبه جسم أمي، أبي كان قصير القامة مثل أمي، لكنه كان نحيفا. يذهب إلى النادي ليلعب الجولف، أراه من بعيد وهو يمشي، صغير الحجم، رأسه صغير مثلث الشكل، ذقنه مدبب تحت شفتين ممتلئتين، الشفة العليا أكثر امتلاء من الشفة السفلى، يمط شفتيه إلى الأمام حين يستغرق في التفكير، أو حين يرى أمي من الخلف وهي تمشي.
في الحلم وأنا غائبة في النوم، تتراءى لي صورة زينة بنت زينات. لم تفارقني صورتها منذ الطفولة، كنت أتمنى أن أكون مثلها، وإن قالوا عني: بنت زنى.
كانوا يسمونها البطة. تنتعل حذاء له كعب عال رفيع مدبب، تدب به في ممرات الجامعة، حتى تصل إلى مكتبها الكبير بجوار مكتب العميد، تلهث قليلا وهي تمشي حاملة جسمها السمين القصير، تتأرجح قليلا فوق كعبيها الرفيعين، عنقها قصير ممتلئ باللحم، يحمل رأسها الصغير المربع، يحوطه شعر أسود قصير خفيف إلى حد ما، تتخلله بضع شعرات بيض، تختفي سريعا تحت صبغة الشعر المتقنة، ترتدي تايير أزرق له كولة بيضاء، تشبه كولة البنات البيضاء قبل أن يتزوجن أو يفقدن العذرية.
كانت في منتصف العمر قبل بلوغ ما يسمونه سن اليأس، تصغر زوجها زكريا الخرتيتي بتسعة أعوام، لكنه يبدو أصغر منها بعام أو عامين، ربما لأنه رجل وليس امرأة ينقضي عمرها بسرعة أكثر؛ ليس في جسمه شيء يدل على العذرية، لا يبلغ سن الحيض، ثم انقطاع الحيض، إلى سن اليأس والشيخوخة، لا يحمل ولا يلد، ولا يحمل عبء البيت والأطفال والسمعة السيئة. لا شيء يعيب الرجل إلا فراغ جيبه من المال، وإن عاشر نساء الليل في بيوت البغاء.
منذ طفولتها حرصت بدور على سمعتها، كان عليها تحمل شرف العائلة الكبيرة على كاهلها، شرف أبيها اللواء أحمد الدامهيري. كان ضابطا في الجيش حين قامت الثورة، لم يكن ضمن القادة الكبار، تربطه بأحدهم صلة دم أو رحم، حصل على منصب مدير عام أو أمين عام مؤسسة الثقافة الجديدة. في سنين المراهقة كان يقرأ روايات الحب العذري، يرى صورته في المرآة تشبه البطل في قصة روميو وجولييت، كتب قصيدة حب لابنة الجيران. في أحلامه يرى نفسه شاعرا معروفا أو روائيا مرموقا، تسربت بعض أحلامه إلى ابنته بدور وهي طفلة، كانت تقرأ الكتب في مكتبة أبيها، يخفق قلبها تحت ضلوعها وهي تقرأ في سريرها قبل النوم، يراودها فتى أحلامها في الليل، يمارس معها الحب حتى تبلغ الذروة، ينتفض جسدها النائم تحت الغطاء باللذة الآثمة، تصحو في الصباح متوردة الخدين متورمة العينين، تغسل جسمها في الحمام بالماء الساخن والصابون، يتطهر الجسد من الدنس، لكن القلب يظل ثقيلا بالإثم.
ثم جاء حريق القاهرة قبل قيام الثورة بستة شهور، كانت بدور أحمد الدامهيري قد حصلت على الليسانس في الآداب والنقد. ينتفض جسدها باللذة حين ترن في أذنها كلمة الليسانس، تشبه لذة الجنس، الانتفاضة ذاتها، تشمل كيانها كله، الجسد والعقل والروح، يذوب الثلاثة في لذة واحدة جامحة، يهتز جسدها القصير السمين فوق كعبيها الرفيعين، تكاد تقفز في الهواء، ترقص، تغني، تطير لولا جاذبية الأرض، تشدها الأرض بقوى أكبر من قوتها، تثبت قدميها في الأرض وينحبس صوتها، يرى أبوها الدموع في عينيها، يظنها دموع الفرح بشهادة الليسانس، لا يعرف الأب شيئا عن حقيقة ابنته.
অজানা পৃষ্ঠা
في أعماقها كانت بدور تشعر بالحزن، خاصة في لحظة الفرح، ربما هو جسدها القصير القامة السمين، أو عيناها الضيقتان الخاليتان من البريق، أو عقلها المكبوت رغم حصولها على الليسانس، أو روحها الحبيسة داخل زنزانة الأدب.
لم تكن تفك قيودها إلا في النوم، حين ينام عقلها وروحها وجسدها، حين ينام أبوها وأمها وكل الناس، حين يغلق الله عينه الساهرة التي لا تنام، حين يذوب الكل في الظلام، تصحو خلية خفية في عمق الأحشاء الدفينة، تتشمم الحب، ولذة الجنس الآثمة.
قبل الحريق كانت هناك المظاهرة الكبيرة، تسرب حب الوطن من الأب إلى ابنته بدور. كان يقرأ عليها أبيات شعر ركيكة، يلقيها على زملائه في الجيش، يتغنى بالموت فداء للوطن، بشرط ألا يكون هو الميت، أو ابنته من صلبه، كان شديد التأكد من حبه للوطن، شديد التأكد أن ابنته بدور جاءت من صلبه، ليس من صلب رجل آخر، شديد الإيمان بوجود الله والملائكة واليوم الآخر وإبليس.
تسرب كل ذلك إلى ابنته بدور منذ الطفولة، في المدرسة تغني مع البنات أناشيد الوطن، في السابعة من عمرها بدأت تصلي خمس مرات في اليوم، تصوم شهر رمضان، تطرد فتى الأحلام من النوم واليقظة.
نجحت بدور في السيطرة على عقلها الباطن الذي يصحو في النوم، استطاعت أن تفرض عليه النوم، تفوقت بدور على أبيها في حب الله والوطن، أصبحت ضمن البنات المثاليات، يتغلغل الإيمان بالله والوطن في قلوبهن، يسري في عروقهن مع الدم من قمة الرأس حتى بطن القدمين.
لكن النوم كان يغلبها، يشدها إليه مثل جاذبية الأرض، يسقط جسدها في غيبوبة النوم، إلا بطن قدمها اليسرى، كانت ناعمة بضة مثل قدم أمها، تظل واعية صاحية وإن نام الكون. تحس بدور وهي نائمة أن شيئا يداعب بطن قدمها اليسرى، ترفس الشيء يقدمها اليمنى وهي غارقة في النوم، تظن أنه إصبع إبليس يتحدى إرادة الله، يدغدغ بطن قدمها وهي في اللاوعي، يحرضها على الإثم.
في الصباح تصحو ويعود إليها الوعي، تسأل نفسها؛ لماذا إبليس الشيطان يقف دائما عن يسار المؤمنين أثناء الصلاة يحرضهم ضد الله، وأن الشيوعيين الكفرة من أهل اليسار؟
لذة خفية كانت تسري من بطن قدمها إلى ساقها، تصعد عبر الفخذ إلى البطن والصدر، النهدان برعمان صغيران بارزان قليلا، مؤلمان كثيرا إن ضغطت عليهما إصبع الشيطان.
كانت في طفولتها تظن أن إبليس الشيطان روح ليس له جسد، مثل الله روح ليس له جسد، ثم كبرت وأدركت إن للشيطان إصبعا، وربما له جسد كامل الأعضاء بما فيه العضو الآثم، يتحدى به إرادة الله.
في الحادية عشرة من عمرها رأت بدور لأول مرة وجه الشيطان. في الطفولة كانت تخشى أن تفتح جفونها وهي نائمة، ثم بدأت تكبر قليلا. تسيطر عليها أكثر وأكثر غريزة الاستطلاع، تريد أن تعرف كيف تكون ملامح الشيطان، أنفه، رأسه، جبهته، أذناه، فمه. ربما كانت تحس أنفاس الشيطان فوق عنقها من الخلف وهي نائمة على بطنها، لكنها لم تملك الشجاعة يوما أن تفتح جفونها لتراه.
অজানা পৃষ্ঠা
أصابتها الدهشة في الحادية عشرة من عمرها حين اكتشفت أن للشيطان شاربا ولحية مثل العجائز، يكاد يشبه جدها لأبيها أو لأمها، أو الرجل العجوز في البيت المجاور، أو في فيلم «غرام الشيوخ» الذي رأته العام الماضي في السينما.
لكن النوم غلبها وهو يدغدغ بإصبعه بطن قدمها. كتمت السر عن أبيها وأمها، أصبحت شريكة الشيطان في الإثم، تتظاهر بالنوم حتى يستمر في المداعبة، تخفي رأسها تحت الوسادة، تكتم أنفاسها، تتظاهر بالموت، يشجعه موتها على الاستمرار والصعود إلى البؤرة المدفونة في ثنايا اللحم داخل عمق الأحشاء، تغمرها لذة خالية من الإثم؛ لأن الموت أدركها قبل حدوث اللذة.
غاب الشيطان ذات ليلة، امتد غيابه طويلا. تصورت بدور أن الله عاقبه بالموت، ثم سمعت من أمها وأبيها أنه سافر إلى لندن لإجراء عملية البروستاتة. رنت الكلمة مؤنثة في أذنها، لم تعرف أين يمكن أن تكون هذه البروستاتة في جسد إبليس؟ ولماذا يخلق الله عضوا مؤنثا في جسد الذكر؟ لم يعد إبليس من لندن، ربما مات هناك. طردت بدور الشيطان من أحلامها، طردته من النوم واليقظة، مضت ثلاث سنوات وأصبحت في الحادية عشرة من عمرها، ضاع إبليس من ذاكرتها تماما. إلا أنه ظل يعيش في بطن قدمها اليسرى، يدغدغها حتى تروح في النوم، يحكي لها قصة الشاطر حسن والغولة، في الصباح تتوضأ وتصلي بين يدي الله. لم يعد إبليس يقف عن يسارها، أصبحت فتاة ناضجة طاهرة مغسولة من الإثم.
ثم جاء يوم المظاهرة الكبيرة، كانت بدور حصلت على الليسانس، فتاة مثالية يذوب في عقلها وجسدها وروحها حب الله والوطن، لكن قلبها ينوء بالعبء. آثار إصبع الشيطان فوق جسدها تشبه الحب، أي عبء أن يحتل الثلاثة مساحة واحدة من قلبها «الله والوطن وإبليس»؟!
يوم المظاهرة الكبرى وجدت بدور نفسها بين آلاف الأجساد، نساء ورجال وشباب وأطفال ، من الحواري والأزقة والشوارع الكبيرة، من بولاق وإمبابة وباب الشعرية، من الزمالك وجاردن ستي والمعادي وحلوان. عمال وموظفون وفلاحون وطلاب وطالبات المدارس والجامعات، يسيرون بخطوة واحدة، أقدام حافية مشققة، وأحذية لامعة من الجلد المتين، وشباشب وصنادل.
كانت بدور تمشي بينهم تدب بحذائها الجلدي على الأرض بخطوات قوية، تستمد قوتها من قوى الآلاف أو الملايين، يهتفون في نفس واحد: «يسقط الملك، تحيا مصر حرة.» كلمة «حرة» تلتصق بحلقها كالغصة، جسدها رغم الحركة تحوطه القيود، تحرك ذراعيها وساقيها لتكسرها دون جدوى، تهتف بصوت يشبه الصراخ، صرخاتها المكتومة تذوب في أصوات الجموع، دموعها تذوب في عرقها، ثوبها يلتصق بجسدها تحت البلوفر الأزرق. إلى جوارها يمشي نسيم، جسمه طويل ممشوق، يدب فوق الأرض بخطوة قوية ثابتة، عيناه الزرقاوان شاخصتان إلى الأمام، لم ينظر ناحيتها مرة واحدة، هي ترمقه بطرف عينها طول الوقت، أنفه من الجانب شامخ مرفوع، شفتاه مزمومتان، يرتدي بلوفرا من الصوف الخشن، رصاصي اللون منحول من المرفق، ياقة قميصه بيضاء: غير مكوية، حذاؤه قديم يغطيه التراب، في كعبه قطعة حديد على شكل حدوة الحصان، شعر رأسه خشن أكرت، يحتك في أحلامها بوجهها الناعم البشرة.
تنجذب بدور إلى هذا النوع من الرجال، فيه ذكورة وخشونة، لا يخاف الموت من أجل الله والوطن. ليس من نوع ابن عمها «أحمد» يخاف من صرصور أو فأر أو ضفدعة تقفز في الحديقة، أصابعه رقيقة ناعمة تشبه أصابعها، قامته قصيرة مثل أبيه وعمه، اللواء أحمد الدامهيري. ورث عنهما الرأس المربع الشكل، والذقن المربع تحت شفتين رفيعتين، الشفة العليا أكثر نحافة من الشفة السفلى، يضم شفتيه إلى الأمام حين يستغرق في التفكير، الحركة ذاتها الموروثة عن أبيه وجده الشيخ الدامهيري، كان وكيلا أو نائب الوكيل لجامع الأزهر الشريف.
بدور التقت نسيم في السنة الأولى بالجامعة، منذ تلاقت عيونهما انتفض شيء في أعماقها، شيء خفي دفين في الأحشاء. لم يكن زميلا لها في كلية الآداب، كان يأتي إلى الجامعة أيام المظاهرات، تلمحه من بعيد يمشي، يدق الشيء تحت ضلوعها في اضطراب، يتأرجح جسمها القصير السمين فوق كعبيها الرفيعين، تترنح قليلا في مشيتها، تضغط بيدها على حزام حقيبتها المعلق فوق كتفها، تمسك به، تستعيد توازنها. يمر بها دون أن ينظر إليها، دون أن يبتسم لها كما يفعل الزملاء، قد يحرك رأسه علامة التحية، ثم يمضي في طريقه لا ينظر إلى الخلف. كانت هي تنظر خلفها لتراه من ظهره. عظامه مستقيمة، عضلاته مشدودة، ليس في جسده لحم، ذراعاه تتحركان وهو يمشي مع حركة ساقيه، يشق الهواء بجسمه الطويل الصلب كالرمح.
مضى عامان وهي تراه في أحلامها. في العام الثالث بدأ الحديث بينهما، هي التي بدأت حين رأته جالسا في أحد الاجتماعات، كان المقعد إلى جواره خاليا، جلست بعد أن ابتسمت في وجهه وقالت: صباح الخير يا نسيم. ثم تكرر اللقاء بينهما داخل الجامعة، أو في حديقة الأورمان بجوار الجامعة، يجلسان معا على الدكة الخشبية يتحدثان، يتبادلان الكتب الثورية. كانت بدور تنجذب في أعماقها للثورة للتمرد على كل شيء في حياتها، بما في ذلك الأب والأم والعم والجد، وربما الله أيضا وإبليس. منذ السابعة من عمرها كانت تخاف الله، تغلغل الخوف إلى حد الكره، لم تملك الشجاعة أن تعترف لنفسها بما يدور في خيالها، وما يحدث لها في أحلامها، منذ طفولتها اقترفت آثاما كثيرة أثناء النوم.
وهي تمشي في المظاهرة إلى جوارها نسيم كانت تلمحه من الجانب، ملامح وجهه كأنما منحوتة في الصخر، ملامح حجرية صلبة حادة، أنفه يشق الهواء كحد السيف، جسمه الطويل النحيف كأنما مصنوع من مادة غير اللحم، يحمله خفيفا فوق قدميه ويمشي، كأنما ليس له ثقل.
অজানা পৃষ্ঠা
منذ داعبتها إصبع الشيطان أرادت بدور التخلص من ثقل جسدها، ذلك العبء الثقيل تحمله كل يوم، اللحم السمين الذي يغطي ذراعيها وصدرها وبطنها وساقيها وبطني قدميها، تحلم في الليل بقوة تحمل عنها العبء، ذراعان قويتان تمتدان من السماء، تسحقان جسدها، يذوب جسدها بين الذراعين حتى يتلاشى اللحم.
انتهت المظاهرة وتفرقت الجموع، وظلت هي تمشي إلى جواره، تريد أن تمشي إلى جواره حتى نهاية العمر، تريد أن يحملها بين ذراعيه ويمضي بها حتى الموت. كانت صامتة وكان صامتا، يسيران جنبا إلى جنب، يخرجان من شارع ويدخلان في شارع، حتى توقف نسيم أمام باب بدروم في عمارة كبيرة، وقف صامتا مطرقا قليلا، مستغرقا في التفكير، ثم رفع عينيه إليها، صوته فيه بحة خفيفة، المقلتان الزرقاوان في عينيه تكسوهما لمعة تشبه الدمعة الحبيسة، كلماته متقطعة: بدور ... لا أعرف ما أقوله ... لكن أنا أحس.
أحس بك ... أحس مشاعرك القوية نحوي ... وأنا أبادلك هذه المشاعر ... لكنك من طبقة أخرى، يا بدور ... أنا أسكن في هذه الغرفة في البدروم ...
كان ذلك منذ سنين كثيرة، حين كانت بدور في العشرين من عمرها تحلم بالحب والثورة، حصلت على الليسانس في كلية الآداب، لم تكن تحب الأدب ولا النقد الأدبي، كانت تحب نسيم وتريده، تحلم به ولا تستطيع الحياة بعيدا عنه، تفضل أن تعيش معه في الغرفة بالبدروم على أن تعيش مع أبيها وأمها في الفيلا الكبيرة في جاردن ستي.
لا تذكر بدور ماذا قالت له وهما واقفان أمام باب غرفته بالبدروم، هل نطقت بكلمة: «أحبك»؟ ربما قالتها دون أن يخرج صوتها إلى الوجود، أو ربما خرج صوتها مثل هواء ساخن من صدرها ليس له صوت.
ظلت واقفة مترددة، يدها تستند إلى الباب الخشبي المشقق، يدها الأخرى تمسك الحزام المعلق على كتفها، تشد عليه كأنما لتحفظ توازنها، كأنما تقاوم جاذبية الأرض، تشد جسدها إليها، تخشى السقوط.
هو كان واقفا مترددا لا يتحرك، الهواء بينهما أيضا لا يتحرك، لا شيء يتحرك إلا أنفاسها. أما هو فلم يكن يتنفس، كان جامدا مثل تمثال.
لا تذكر كم من الوقت مر وهما واقفان عند الباب المغلق، لم يمد يده بالمفتاح ليفتحه، كان المفتاح في جيبه، لكن ذراعه لم تكن تتحرك، لا شيء فيه يتحرك.
ماذا كان ينتظر؟ أن يراها تستدير لتعود إلى بيتها، أن ترفع يدها عاليا وتصفعه على وجهه ثم تمضي. في عينيها يرى شيئا يشبه الدمعة الحبيسة، لا تسقط ولا تتبخر، أو النظرة المكتومة تحت الدموع، نظرة فتاة تشعر بالإهانة، فتاة تقدم نفسها لرجل فيرفضها، فتاة تمد يدها لإنسان تنشد الخلاص فلا تمتد يده إليها.
أخرج المفتاح من جيبه وفتح الباب، دخلت وراءه كأنما تمشي في النوم. وقفت ظهرها للحائط تلتصق بالجدار، تستمد منه الصلابة، تسربت برودة الحائط إلى جسدها الساخن، انتفضت وهي واقفة، سرت في كيانها قشعريرة رعشة البرد وخوف غامض.
অজানা পৃষ্ঠা
أمسك يدها البضة الصغيرة في يده الكبيرة، تهاوت بين ذراعيه مثل ثمرة نضجت، تجاوزت النضج إلى حد السقوط من فوق الشجرة، تشدها جاذبية الأرض إليها، مثل تفاحة نيوتن.
كانت بدور قد قرأت شيئا في علم الفيزياء، عن اكتشافات نيوتن وأينشتاين، عرفت النظرية النسبية والنظرية الماركسية. كان نسيم يقرأ في العلم والفلسفة، وهي تقرأ في الأدب والنقد الأدبي، يتبادلان الكتب، لم يكن نسيم يؤمن بحكاية آدم، ولا التفاحة التي أغوته بها حواء، وكانت هي لا تزال تؤمن بما آمن به أبوها وأمها والمدرسون في المدرسة.
فوق بلاط الغرفة كانت مرتبة تغطيها الكتب والأوراق والمنشورات، فوق الجدران رفوف خشبية تحمل الكتب والمجلات والدوسيهات، في الركن كرسي من الخيزران معلق عليه قميص أبيض مغسول، النافذة مربعة مسدودة بقضبان حديدية تطل على أرض الشارع.
ثم تلاشت الغرفة بكل ما فيها، تلاشي المكان والزمان حين ضمها إلى صدره، قبل شعرها وعينيها، عاد إليها الحلم كما كانت تراه كل ليلة، ربما كانت اللذة في الحلم أشد منها في الواقع. كان نسيم في أحلامها أكثر جرأة، أكثر اقتحاما لجسدها، كان جسده أكثر صلابة كالرمح، يشق به الكون ويمشي إلى النهاية، أو ربما يكون الواقع دائما أقل جمالا من الخيال.
حين أفاقت بدور رأت الأرض البلاط، والنافذة المسدودة بقضبان الحديد. إلى جوارها كان نسيم غارقا في النوم، أنفاسه مسموعة، تسري في أذنها، تكاد تشبه شخير أبيها، تفاحة آدم بارزة في عنقه مثل عنق أبيها، عضلات جسده مرتخية متهدلة مستسلمة، خالية من التحدي مثل جسدها وأمها.
ارتدت ملابسها على عجل، علقت حزام حقيبتها على كتفها، سارت على أطراف أصابعها نحو الباب ، لكنها سمعت صوته من خلفها يناديها: بدور؟
استدارت، رأته يمشي نحوها بجسمه الطويل الصلب، استعاد جسده الصلابة وارتفاع القامة. المقلتان في عينيه تشعان ضوءا أزرق إلى حد السواد، أو سوادا إلى حد الزرقة، كأنما تنظر في قاع البحر، أو في عين السماء في الليل.
كان الفجر لم يطلع بعد، أرادت أن تلقي نفسها فوق صدره وتبكي، في أعماقها حزن منذ الطفولة لا تعرف مصدره، بين ذراعيه يذوب الحزن في فرحة تهز كيانها، تنفض عن جسدها ألما عميقا مدفونا في الأحشاء. في رأسها خلية تشبه الإبرة، تذكرها بأبيها وجدها وشرف العائلة، تذكرها بالله والشيطان، ونار جهنم الحمراء بعد الموت. - بدور؟ - أيوه يا نسيم. - ما رأيك نذهب في الصباح إلى المأذون؟ - يا خبر؟
صدرها يعلو ويهبط مع الضربات القوية تحت ضلوعها، كلمة المأذون ترن في أذنها مخيفة غامضة مراوغة لا علاقة لها بالحب، أيمكن أن تتزوج في الصباح؟
وأبوها راقد في فراشه يشرب الشاي ويقرأ الجريدة، يتمطى ويتثاءب مسترخيا مطمئنا إلى أن ابنته العذراء الطاهرة راقدة في سريرها، أو تتأهب لدخول الحمام وارتداء ملابسها لتذهب إلى الجامعة. - هل المأذون ضروري؟ - طبعا يا بدور، لا زواج بدون مأذون.
অজানা পৃষ্ঠা
ثم إن ...
لم يكمل كلامه، أطبق شفتيه، ينظر إليها كأب ينظر إلى طفلته، تصغره بعامين فقط، كأنما تصغره بمائة عام. لم تعرف الفقر ولا الجوع، لم ترقد على الرصيف في الشارع، لم تشتغل وهي طفلة في محل الميكانيكي، لم يضربها صاحب المحل بكعب حذائه على أسفل بطنها، لم تتلق الركلات والصفعات في قسم البوليس، لم تر أمها تموت من الحزن أو تنزف الدم من صدرها مع كل نفس، لم يختنق أبوها تحت الماء في السجن. - أنا أكبر منك يا بدور في العمر، أعرف قسوة الحياة، أنت إنسانة رقيقة أخاف عليك لو ...
توقف عند كلمة «لو»، أراد أن يقول، لو أنك حملت طفلنا دون زواج، ربما يقتلك أبوك اللواء أحمد الدامهيري، ثم انفرجت شفتاه عن ابتسامة مشرقة، اشتد الضوء في عينيه، أحاطها بذراعيه، همس في أذنها : لو أصبح لنا طفل جميل مثلك يا بدور؟
أغمضت عينيها فوق صدره وغابت في الحلم، أيكون لها طفلة أو طفل يشبه نسيما؟ هذا القوام الطويل الممشوق، هاتان العينان المشعتان بالضوء، هذه الروح المتوثبة الثائرة، هذا التحدي، هذه الصلابة؟
أفاقت على صوت صفارات البوليس، كان الفجر لم يطلع بعد، عربات البوكس المصفحة تجوب الشوارع، كعوب البنادق تدق الأبواب، كشافات الضوء تسقط على وجوه ضامرة شاحبة، عمال فقراء أو شباب من الطلاب، يتعقبهم رجال المباحث في المصانع أو المدارس والجامعات، صورهم داخل السجلات في وزارة الداخلية.
لم تعرف كيف أصبحت بدور في سريرها آمنة، أغمضت عينيها تحت الغطاء، سرى الدفء في جسدها، تسربت الأحداث الأخيرة إلى خيالها مع النوم، بدأت المظاهرة الكبيرة وهي تمشي في الحلم، المقلتان المشتعلتان بالنور، نجمان يلمعان في سماء مظلمة، يدها تزحف تحت الغطاء تتحسس جسدها، في ثنايا اللحم يتجسد الحلم، يتحول الخيال إلى حقيقة تلمسها بيدها، صوته في أذنها يسري مثل موجات الضوء: إن جاءنا ولد نسميه «زين» على اسم أبي. وهمست بدور في أذنه: إن جاءتنا بنت نسميها «زينة» على اسم جدتي زينة.
رأت طيف جدتها في الحلم يدخل غرفة نومها. كانت في الثامنة من عمرها، قبل أن تموت جدتها زينة، تناديها نانا زيزي، طويلة القامة ممشوقة، عيناها كبيرتان مملوءتان بالبريق، كانت تجلس إلى جوارها وهي راقدة في السرير، تحكي لها حكايتها الحزينة. كانت نانا زيزي تريد أن تكون كوكب الشرق، ترقص وتغني وتكتب الشعر، لكن أباها أخرجها من المدرسة، كانت في الرابعة عشرة من عمرها، ألبسوها فستان الزفاف الأبيض، سمعت الطبل والزمامير، ثم رأت نفسها داخل غرفة نوم مغلقة، مع رجل غريب غليظ الملامح، قصير القامة، ظهره محني، فوق شفته العليا شارب أسود كبير.
بينما كانت بدور في فراشها الدافئ تحلم بجدتها زينة، كانت عربة مصفحة تقف أمام الباب الخشبي المشقق في بدروم العمارة العالية، خمسة من رجال البوليس بالبنادق أحاطوا به كالدائرة، ضوء كشاف قوي يسقط فوق وجهه، المقلتان الكبيرتان في عينيه تشعان غضبا بلون أسود أزرق، جسمه نحيف طويل صلب كالرمح، رأسه مرتفع فوق عضلات عنق لا يلين ولا يلتوي، ضربه أحد الجنود على رأسه بكعب البندقية، صفعه آخر على صدغه، إلا أن كيانه الواقف ظل منتصبا في مكانه، لا يتحرك، لا تنفض عضلة في وجهه، ولا يطرف له جفن.
بلغ الغضب بأحدهم أن بصق في وجهه، ثم سدد له ضربة قوية أسفل بطنه، في بؤرة الألم واللذة، في عمق الأحشاء الدفينة، حيث تكون بذرة الحياة والحب.
حين ساقوه إلى العربة البوكس خارج البدروم، كانت الدماء تنزف من أنفه وفمه، تسيل فوق الفانلة البيضاء الكاشفة عن ضلوعه، يغمرها شعر أسود، يكتسب بالتدريج لونا أحمر، يهبط اللون الأحمر إلى سرواله الأبيض من القطن المصري، رائحة القطن في أنفه مع رائحة الدم، ورائحة التراب، الأرض الخصبة السوداء تترعرع فوقها الشجيرات الخضراء بالنوارات البيضاء، كان طفلا في الثامنة من عمره، يغني مع أطفال القرية وهو يجري بين مساحات الخضرة التي تلمع بضوء أبيض:
অজানা পৃষ্ঠা
نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل.
اجمعوا يا بنات النيل يالا ده ما لوهش مثيل، قطن ما شاء الله ...
داخل العربة البوكس وهو جالس يداه مكبلتان بالحديد، تراءت له صورة جدته زكية، كانت طويلة القامة شامخة الرأس، يداها كبيرتان مشققتان تمسك بهما الفأس، عيناها سوداوان واسعتان تتسعان لغضب العالم، أمسكت الفأس ذات يوم وهبطت به على رأس العمدة، ثم ألقت بالفأس، واستلقت على الأرض في راحة أبدية.
لم تنقطع الصلة بين مجيدة الكاتبة وزينة بنت زينات. منذ الطفولة كان شيء يجذب كلا منهما للأخرى رغم الاختلاف، أصبحت مجيدة تملك عمودا في مجلة النهضة، يساعدها في كتابته أبوها وأمها، في أعماقها تكره مجيدة حروف اللغة والكتابة الموروثة عن أبيها وأمها، وجسمها القصير القامة الموروث عنهما أيضا، والفيلا الكبيرة في جاردن ستي، على بابها الخارجي قطعة نحاس لامعة، محفور عليها اسما أبيها وجدها: «فيلا الخرتيتي.» كلمة الخرتيتي تلتصق باسمها وجسمها كالعضو المشوه.
حديقة كبيرة تحوط البيت الكبير من الطوب الأحمر، تنمو فيها الأشجار والزهور والورود، يحوطها سور حديدي تنمو فوقه شجرات الياسمين والبوجانفيليا، أو الجهنمية، بزهورها الصفراء والبيضاء والحمراء بلون دم الغزال.
يبدو المكان من الخارج جميلا مبتهجا. داخل المكان يقبع القبح في الأركان، يتخفى الكره تحت المفارش الحريرية المشغولة بخيوط ملونة زاهية.
كانت سيارة كبيرة سوداء تحملها من البيت إلى المدرسة يقودها سائق أسود البشرة، يسمونه «الشوفير». قبل أن تنام مجيدة تأخذها «دادا» إلى الحمام، تغسل جسمها بالماء الدافئ والصابون المعطر، تجففها بالبشكير الأبيض الكبير، تحملها إلى السرير، تحكي لها قصة سندريلا والأمير حتى يغلبها النوم.
في أحلامها ترى مجيدة نفسها تحلق في السماء مثل العصافير، لم يعد لها جسم مملوء باللحم الثقيل، ذراعاها تتحركان في الهواء بقوة وسرعة، جناحان كبيران يخفقان يرفرفان، ينعكس عليهما ضوء الشمس وضوء القمر بلون ملائكي أبيض، أصابعها لم تعد قصيرة سمينة طرية، أصبحت مثل أصابع زينة بنت زينات، طويلة نحيفة صلبة، تجري فوق أصابع البيانو جريانا أسرع من موجات الضوء. تمسكها أبلة مريم في حصة الموسيقى، ترفعها إلى أعلى لتراها البنات كلهن، تقول بصوت عالي يصل إلى جميع الآذان، بما فيها آذان أبيها وأمها وعمها وجدها والجيران في جاردن ستي، والبوابين الجالسين أمام العمارات، والحلاق في الميدان، يسمونه الكوافير، والشوفير الذي يقود السيارة، ودادا التي تحكي لها قصة سندريلا قبل أن تنام: «أصابعها خلقت للموسيقى. مجيدة بنت موهوبة، ليس لها مثيل بين البنات.»
صوت أبلة مريم يرن في الحلم مثل اللحن الناعم يدغدغ أذنيها، تسري الدغدغة من الأذنين إلى العنق إلى صدرها، إلى النهد الأيسر فوق القلب تحت الضلوع، يزحف برقة إلى البطن، أسفل البطن. يرتجف قليلا فوق العانة الملساء الناعمة، لم ينبت فيها الشعر بعد، ينزلق فوقها إلى الفخذ اليسرى، يمضي في طريقه المعتاد إلى الساق اليسرى حتى النهاية في بطن القدم اليسرى، يدغدغها كما تعود منذ البداية أن يفعل، يمنحها اللذة القديمة الجديدة، مع الإحساس الطاغي بالإثم.
لم تعرف مجيدة في طفولتها كيف تتحول الموسيقى في أحلامها إلى لذة آثمة، تكاد تشبه إصبع الشيطان رغم الاختلاف، كانت الموسيقى تهبط من أذنيها إلى بطن قدمها، لكن إصبع الشيطان كانت تصعد من بطن القدم إلى أعلى حتى مركز الكون.
অজানা পৃষ্ঠা
قبل أن تنام تحكي لدادا عن أبلة مريم، كيف تمسك أصابع زينة بنت زينات في يدها، ترفعها عاليا لتراها البنات كلهن، يرتفع صوتها فوق الأصوات: «أصابع زينة خلقت للموسيقى، بنت موهوبة، ليس لها مثيلة بين البنات.»
تدفن مجيدة وجهها في صدر دادا، تدس أنفها بين نهديها الكبيرين، تتشمم حنان الأم، تربت دادا رأسها، تهمس في أذنها: «نامي يا مجيدة، ربنا أعطاك خير كثير، أبوكي ما شاء الله اسمه على كل لسان، وأمك ربنا يحميها أستاذة كبيرة في الجامعة، لكن زينة بنت زينات يا عيني عليها، من غير أب ولا أم ...»
ينقطع صوت دادا، كأنما أصابتها غصة، ترفع يدها الكبيرة السمراء تمسح دموعها بكم جلبابها الواسع الطويل. - انتي بتعيطي يا دادا؟ - أبدا يا بنتي. - إنتي عندك أب وأم يا دادا؟ - طبعا يا بنتي، كل الناس عندها أب وأم. - إلا زينة بنت زينات يا دادا؟ - كان عندها أب يا بنتي، أبوها كان راجل من ضلع راجل، كان زينة الرجال. - أبوها راح فين يا دادا؟ - ربنا أخذه يا بنتي. - يعني مات؟ - أيوه يا مجيدة يا بنتي. - ليه ربنا أخذه يا دادا؟ - ربنا دايما ياخذ أحسن الناس. - ليه ربنا ماخدش بابا وماما؟ - اسكتي يا مجيدة، وطي صوتك، نامي يا بنتي، بعيد الشر عن ابوكي وامك.
كانت مجيدة في الثامنة من عمرها، لا تفهم ما تقوله دادا، إذا كان الله يأخذ إلى السماء أحسن الناس؛ فلماذا لم يأخذ أباها الأستاذ الكبير زكريا الخرتيتي، وأمها الأستاذة الكبيرة بدور الدامهيري، ولماذا تضطرب دادا وتدعو الله أن يبعد الشر عن أبيها وأمها؟
إذا كان الموت شرا من عند الله؛ فلماذا يموت أحسن الناس ويصعدون إلى الله في السماء؟
ويبقى الأشرار أحياء؟
في الشارع وهي تمشي إلى المدرسة تلمح زينة بنت زينات تلعب مع الأطفال، يتجمعون من حولها يرقصون ويغنون معا أغاني الفلاحين: «نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل ...» أو «طلعت يا محلا نورها، شمس الشموسة، يالا بنا نملا ونحلب لبن الجاموسة، جاعد على الساجيا يا خلي أسمر وحليوا، عاوج الطاجية وجلي غنيلي غنيوا ...»
لم تكن تحب ركوب السيارة مع الشوفير، ينطلق بها من البيت إلى المدرسة، لا يتوقف قليلا لتطل على أطفال الشوارع وهم يرقصون ويغنون، يقول لها: إنهم أولاد الأبالسة. لم تعرف معنى الكلمة، قال الشوفير: إنها جمع كلمة إبليس الشيطان.
لم تتصور مجيدة أن الشيطان له أولاد وبنات. كان في خيالها مثل الله، ليس له أولاد أو بنات. - دول أولاد حرام يا ست مجيدة، دول عيال حرامية، أوعي تكلمي حد منهم. - زينة بنت زينات كانت معايا في المدرسة، كانت موهوبة في المدرسة، أبلة مريم كانت تقول: «إنها أحسن بنت في المدرسة.»
لم يكن الشوفير يستمع إلى ما تقوله مجيدة، كانت عيناه الغائرتان تشخصان إلى الأمام ثابتتين فوق الطريق، بشرته سوداء مثل البوابين في جاردن ستي، لكنه لا يرتدي جلبابا أبيض، بل بدلة لونها كاكي تشبه بدلات العساكر، يضع فوق رأسه قبعة من القماش السميك الكاكي يسمونها «الكاسكيتة»، أصابعه الكبيرة السمراء تحوط عجلة القيادة في ثبات وقوة، تكاد تشبه أصابع دادا وهي تدعك لها رأسها بالماء الدافئ والصابون في الحمام، ليست مثل أصابع أمها البضة الناعمة الطرية، تشبه أصابعها.
অজানা পৃষ্ঠা
تخفي مجيدة أصابعها تحت الغطاء، تغمض عينيها لتنام، لكن نور اللمبة الكهربائية بجوار السرير يكشف الغرفة الواسعة. جدرانها منقوشة برسوم وردية، دولاب ملابسها في الركن لونه وردي، مكتبها الصغير فوقه كتب المدرسة والكراريس وأقلام ملونة، كشكول كبير غلافه وردي تكتب فيه أحلامها، مائدة صغيرة فوقها مفرش أزرق مرسوم عليه زهور الياسمين بخيوط الكانافاه.
دادا تجلس على السجادة العجمية المزركشة إلى جوار سريرها، تحكي لها القصص قبل أن تنام، ترتدي جلبابا واسعا أدكن اللون، عنقها طويل قوي العضلات، يحمل رأسها الملفوف بطرحة بيضاء، وجهها شاحب نحيف تطل منه العينان، مقلتان سوداوان صغيرتان، داخل بياض واسع تشوبه حمرة البكاء.
حين بلغت مجيدة الخامسة والعشرين من عمرها كانت تمتلك عمودا في مجلة النهضة، تصدر يوم الخميس من كل أسبوع، اقترح أبوها أن يكون عنوان العمود: «أمانة الكلمة». كان عموده في الجريدة اليومية الكبيرة يحمل عنوان: «أمانة العهد»، يضغط على حروفها الخمسة، حرفا حرفا، كأنما يخشى أن يفلت حرف أو تفلت الكلمة كلها، تتبخر في الهواء، في اللاشيء.
منذ الثامنة من عمرها كرهت مجيدة الكتابة، كانت مثل جسدها القصير الممتلئ مفروضة عليها، كانت واجبا من واجبات المدرسة والبيت، مثل الصلوات الخمس كل يوم وصوم شهر رمضان، كانت مثل أصابع يديها وقدميها موروثة عن أمها وأبيها، لا تستطيع الخلاص منها.
فوق المكتب في غرفتها يرقد الكشكول السمين الممتلئ بالصفحات البيضاء، أبيض وسمين وغليظ مثل جسدها، صفحات خالية خاوية ترمقها بسخرية. منذ الطفولة حتى الشباب والكهولة ظلت هذه الصفحات البيضاء ترمقها بسخرية، صوت يهمس في أذنها له فحيح إبليس، أو ربما صوت الله يقول لها: أنت يا مجيدة لست موهوبة، أنا يا مجيدة الذي أعطي الناس الموهبة، وقد أعطيتها لزينة بنت زينات؛ لأني حرمتها من الأب والأم.
كان أبوها يكتب في عموده بالجريدة أن الله عادل، وأن رئيس الدولة يحكم بالعدل بين الناس في مصر، قد يحرم الله طفلا من الأهل أو المال، لكنه يمنحه نعمة الذكاء أو موهبة الموسيقى، أو يغرس في قلبه حب الله والوطن، قد يكون الإنسان فقيرا لكنه غني النفس.
كانت أمها تكتب في النقد الأدبي، تلقي المحاضرات في الجامعة عن الأدب والشعر والروايات والمسرح وأفلام السينما. يرسل إليها الناس كل يوم رسائل في البريد طرودا من الكتب والمجلات وشرائط من الموسيقى والأفلام والحوارات الأدبية في الراديو والتلفزيون. يتنافس الكتاب والكاتبات على نيل رضاها، يرسلون إليها الهدايا. يمكنها بمقال واحد في مجلة النقد الأدبي أن تخرج كاتبا من الظلمة إلى النور، وتنتشل كاتبة مغمورة من العدم إلى الضوء ونجوم الفن والأدب.
لم تكن لها مكانة زوجها السياسية والصحفية، لكن مكانتها الأدبية والفنية كانت في القمة، تصلها الدعوات لحضور الاجتماعات مع الرئيس والوزراء والسفراء ، والمؤتمرات الأدبية والفنية خارج البلاد.
في أعماقها لم ترغب بدور الدامهيري أن تكون ناقدة أدبية. ترى أن الناقد الأدبي أقل قيمة من الكاتب الروائي أو الشاعر أو الكاتب المسرحي أو السينمائي. تهمس في أذن صديقتها صفاء الظبي زميلتها في الجامعة: «مهنة النقد الأدبي متطفلة على الأدب الحقيقي والفن، مثل الديدان الشريطية. نحن نقاد الأدب لسنا إلا مبدعين فاشلين، نعوض عن فشلنا بنقد أعمال الآخرين. نحن عاديون، ميديوكر مثل بقية البشر، ليس عندنا موهبة، نحاول الوصول إلى الأضواء عن طريق تلميع إبداع الآخرين. نحن مثل ماسحي الأحذية يا صافي.»
تنادي صديقتها صفاء الظبي بكلمة: «صافي.» - أقول لك يا صافي بصراحة لا أقولها لأحد، لا أشعر وأنا أكتب مقالا نقديا بأي لذة أو فخر، بل أشعر بالمهانة؛ لأني ألمع حذاء شخص آخر أكثر مني موهبة.
অজানা পৃষ্ঠা
في أدراج مكتبها في غرفتها تخفي بدور دوسيها كبيرا سمينا مليئا بالأوراق المكتوبة بخط يدها غلافه لونه أصفر، مكتوب عليه: «الرواية المسروقة.» بدأت هذه الرواية منذ سنين طويلة، منذ تلك الليلة التي مرت بها مثل كابوس مخيف، أو حلم عابر بالجنة، حيث قطفت الثمرة المحرمة.
في روايتها أعطت البطلة اسم: بدرية، بدلا من بدور، واسم البطل: نعيم، بدلا من نسيم.
وفي ظلمة الليل بعد أن تنام ابنتها مجيدة، بعد أن ينام زوجها زكريا الخرتيتي، بعد أن يخلو البيت من الخدم، وتحمل دادا حقيبتها السوداء الجلدية وتعود إلى بيتها، بعد أن يصمت الميكرفون فوق الجامع المجاور، وتتوقف الطبول وطرقعات الصاجات في الكازينو المطل على النيل، بعد أن تكف سيارات البوليس عن الحركة وتنعدم الصفارات والأبواق، وصراخ المرضى في مستشفى قصر العيني القديم، وجنازات الموتى الخارجة من الباب الحديدي الكبير، تولول خلفها النساء المكلومات والثكالى والأرامل واليتامى.
بعد أن ينام الكون، ويغمض إبليس عينه عن ضحاياه، ويرحم الله مخلوقاته فيغلق عينه الساهرة التي لا تنام، حينئذ تنهض بدور من سريرها العريض الذي يضم جسد زوجها إلى جوارها، تتسلل من الفراش واقفة على قدميها، تسير حافية على أطراف أصابعها إلى غرفة مكتبها، تضيء اللمبة الصغيرة، تمد ذراعها السمينة القصيرة إلى الدرج المغلق، تفتحه بمفتاح مخبأ في صدرها، تشد بأناملها البضة الدوسيه الأصغر، يجف حلقها وهي ترمق الأوراق المتراكمة، مئات الأوراق المكتوبة وغير المكتوبة، ليلة وراء ليلة، شهرا وراء شهر، سنة وراء سنة، مئات الصفحات، آلاف الصفحات بخط يدها، بالألم والعرق والدموع، تكتبها وتعيد كتابتها، تقرؤها وتعيد قراءتها مئات المرات، يجف حلقها وهي تقرأ، ينسحب الدم من وجهها إلى قاع قدميها، تمط شفتيها الممتلئتين باللحم إلى الأمام، تمطهما مثلما تمطهما حين تقرأ رواية رديئة لكاتب صغير، أو كاتبة غير موهوبة.
كانت ابنتها مجيدة طفلة في الثامنة من العمر راقدة في سريرها في غرفتها مغمضة العينين، إلا من شق رفيع بين الجفون، يتسرب إليه ضوء خافت من تحت عقب الباب، موجات ضوء تتحرك في ظلمة الليل الساكن، تأتي من غرفة أمها البعيدة، أو غرفة أبيها في الناحية الأخرى من الصالة، موجات ضوء خافتة تشبه حركة الهواء، أو أوراقا يحركها الهواء، أو صوت احتكاك سن القلم بالورق، أو أوراقا تتمزق ويلقي بها في صفيحة القمامة، أو هواء ساخنا يخرج من الصدر مع الأنفاس، أو تنهيدة عميقة كالشهيق أو الزفير الطويل اللانهائي.
قد يختفي الضوء ويعم السكون، ثم تبدأ أصوات أخرى تتسرب من خلال الجدار، تسمع أباها وأمها يتحدثان بصوت عال في الفراش، صوت أبيها خشن غليظ متحشرج، صوت أمها حاد رفيع مثل الجرس، لا يكفان عن الشجار حتى يغلبها النوم.
في الصباح تظن أنهما سوف يفترقان، سوف تعد أمها حقيبتها وترحل، أو يعد أبوها حقيبته ويرحل، إلا أن كليهما لا يرحل ولا يعد الحقيبة، ولا شيء حدث إلا في الحلم.
تراهما جالسين إلى مائدة الفطور، يشربان القهوة والشاي مثل كل يوم، يقرآن الصحف، يتبادلان بعض الكلمات حول ما يحدث في مصر أو العالم، أو يقرآن في صمت، لا تسمع مجيدة إلا صوت رشفات الشاي، يرشف أبوها من فنجان الشاي بصوت عالي حاد، أمها ترشف بصوت رقيق أنثوي لا يكاد يسمع.
لم تكن بدرية إلا شخصية من الشخصيات في الرواية المسروقة، إلا أنها كانت تعيش في حياة بدور الدامهيري، كأنما امرأة حقيقية من لحم ودم، تكاد تحسها راقدة إلى جوارها في السرير، أو جالسة معها في غرفة مكتبها، ترمقها في صمت وهي تقرأ أو تكتب أو تتبادل معها بعض الكلمات، تتخاصمان وتتصالحان كما يحدث مع بدور وزوجها زكريا الخرتيتي، وقد تشطب بدرية بعض العبارات التي لا تعجبها في الرواية، بل قد تحذف فصلا كاملا أو تضيف فصلا من عندها، وقد تحكم على نفسها، على بدرية، بالموت تحت عجلات القطار، أو رميا بالرصاص.
تخصصت بدور في النقد الأدبي، أدركت أن بدرية مثل أي شخصية في أي رواية، قادرة على التمرد على المؤلف أو المؤلفة، قادرة على الانفصال عن خالقها والثورة ضده، والتفوق عليه.
অজানা পৃষ্ঠা
كانت بدرية تمشي بخطوة ثابتة أكثر ثباتا من بدور. لم تكن ترتدي كعبا عاليا، ربما لأن قامتها كانت أطول من بدور أو أكثر نحافة ورشاقة، وأكثر شجاعة في خرق القوانين والإقدام على الموت دون أن يطرف لها جفن.
ذلك اليوم اتخذت بدرية قرارها أن تتحرر من العبء الثقيل داخل جسدها، أن تتحرر من الذكرى الأليمة في خلايا عقلها، ارتدت ملابسها وخرجت. اختارت ثوبا رمادي اللون واسعا لا يكشف عن استدارات جسدها الأنثوي، له كشكشة فوق الصدر تخفي نهديها والجزء الأعلى من بطنها، فوق كتفها علقت حزام حقيبتها الجلدية، داخل الحقيبة كان مظروف يحوي رزمة من الجنيهات، ادخرتها من مصروفها اليومي وما كانت تسرقه من جيوب أمها وأبيها.
كانت تشعر بلذة غامضة حين تسرق بعض الجنيهات من أبيها وأمها، فلا يكتشفان السرقة، ولا سيما أبوها، كانت محفظته منتفخة دائما بالأوراق المالية، يخفيها بعيدا عن العيون في جيوب بذلاته الثمينة داخل الدولاب في غرفة النوم. كان يملك الكثير من البذلات من الصوف الإنكليزي الثمين للشتاء ومن الأقمشة الحريرية للصيف، لكل بذلة جيوب داخلية وخارجية.
يتلفت حوله قبل أن يدس المحفظة في أحد الجيوب، يخشى أن تلحظه عين زوجته أو أحد الخدم أو دادا، التي كانت تنظف الغرفة أحيانا، أو تضع الملابس المغسولة المكوية داخل الأدراج، أو تقدم له فنجان القهوة. لم يكن يلحظ عين ابنته بدرية؛ ربما لأنها كانت ترمقه من شق صغير في الباب الموارب، أو ربما لأنها ليست ابنته الحقيقية من لحم ودم، بل شخصية في رواية كتبتها ابنته ثم سرقت منها، ولأن ابنته كانت تتحلى بالأمانة والأخلاق الطاهرة مثل أي فتاة عذراء في مثل عمرها، لا يمكن أن تسرق من أبيها.
كانت بدرية تمشي في الشارع الأسفلت، كعب حذائها العريض المربع يدق الأرض بانتظام. فوق جدار المبنى ساعة تشير إلى الثالثة إلا ربعا، موعدها في الثالثة تماما، لم يبق من الزمن إلا خمس عشرة دقيقة وتنتقل إلى عالم آخر، قشعريرة برد تسري في جسدها، الشمس قوية بعد أن انتهى الشتاء، رجل عجوز يمشي أمامها يلهث، يمسح عرقه بمنديل أبيض كبير، يتمتم آيات من القرآن أو ربما يكلم نفسه، امرأة ترتدي طرحة سوداء تجر خلفها طفلة تنشج ببكاء مكتوم.
أمام باب العمارة العالية وقفت تلتقط أنفاسها، رفعت عينيها إلى اليافطة المعلقة في الدور التاسع، أخرجت من حقيبتها منديلا من الورق الخفيف مسحت وجهها وعينيها، ساقها بواب أسود البشرة، ضخم الجسم إلى باب المصعد رمقها بنظرة صفراء، مدت له يدها بجنيه، لمعت أسنانه البيضاء الكبيرة في ابتسامة عريضة تقلصت في غمضة عين.
كان باب الشقة مفتوحا مثل كل الأبواب المفتوحة تتصيد الضحايا، عيادات الأطباء، مكاتب الحانوتية، صالونات الحلاقين، محلات الجزارين، السماسرة، المحامون، وكلاء الشركات الأجنبية، والمهن الحرة، ومكاتب الأحزاب السياسية والصحف، ورجال الأعمال والجمعيات الخيرية التي أصبحت تسمى الهيئات غير الحكومية، والمدافعين عن حقوق الإنسان، وحقوق النساء.
فوق الباب رقعة لامعة من النحاس مكتوب عليها الاسم واللقب، مواعيد الزيارات والأسعار. في المدخل مكتب الاستقبال، رجل يرتدي مريلة بيضاء جالس وراء مكتب صغير، فوقه دفتر ضخم دون اسمها، أخذ منها رزمة الجنيهات وأعطاها رقما، راحت تبحلق فيه وقتا طويلا وهي واقفة ثم جلست في غرفة الانتظار، أخذت تتأمل الوجوه. كلهن نساء، وجوههن شاحبة مخطوفة ، جالسات صامتات مطرقات، رءوسهن مثقلة بالعبء بالخوف من الغيب، إحداهن تلف رأسها بطرحة بيضاء، تمتم بعض الآيات المقدسات، فتاة شابة شعرها أسود طويل ترتدي الميني جيب، وجهها تغطيه مساحيق وألوان، رموشها الغزيرة تبربش في حركة دائرية، رمقتها بنظرة سريعة ثم حركت رأسها إلى الناحية الأخرى.
دقت الساعة الرابعة، قادها التمورجي إلى باب صغير، في نهاية سرداب طويل، حيث يقبع الموت متنكرا داخل معطف أبيض.
منذ طفولتها كرهت بدرية الأطباء، لم تكن تبكي مثل بدور حين يغرس الطبيب الإبرة في جسدها، تكز على أسنانها وتكتم الألم.
অজানা পৃষ্ঠা
صعدت إلى المنضدة الطويلة من المعدن اللامع، إلى جوارها منضدة أخرى صغيرة، فوقها تلمع الأدوات الحادة، مشارط وسكاكين وإبر وأسياخ حديدية، فوق الأرض البلاط جردل كبير مليء بالدم المتجمد، أو بقطع اللحم الصغيرة الحمراء.
قبل أن يربط ساقيها المفتوحتين إلى العمودين الحديديين انتفض جسدها واقفا، نفضت عن نفسها الرعشة والقشعريرة، ارتدت ملابسها بسرعة، خرجت تجري إلى الشارع، لم تسترد ما دفعته للتمورجي، لم تنظر خلفها.
وانتهت بدور من الفصل الأول في الرواية.
قالت بدور لنفسها: أكانت بدرية أشجع مني وأكثر أمومة؟
في الليل تبكي بدور على روايتها المسروقة، راحت منها في النوم مع طفلتها الضائعة، حملت بها في مكان وزمان لا تعيهما، وضاعت منها في الحلم.
في النوم تمشي تبحث عنها، تجوب الشوارع والحواري والأزقة، تتوقف عند أبواب الكنائس والجوامع، تتعثر قدمها أحيانا بشيء ملفوف داخل غطاء من الصوف الوردي الناعم، تتعرف على اللون والرائحة، الأصابع الصغيرة البضة تشبه أصابعها، الوجه الصغير الوردي ناعم مثل ورق الورد، بشرتها بلون بشرتها، تغطيها بقع دم جفت ودموع لم تجف، جفونها مغلقة مبللة بقطرات مطر.
لو لم تفتح جفونها لما حدث ما حدث، لما عرفت بدور أنها طفلتها، لما تذكرت أنها حملت بها في اليقظة أو المنام، لما نهضت من فراشها الدافئ في منتصف الليل وجابت الطرقات تبحث عنها، لما مزقت شعرها ولطمت خديها وغرست السكين في صدرها طوال الليل.
لكن جفونها المغلقة المتورمة انفتحت فجأة، ربما أدركت المولودة أن أمها تفارقها إلى الأبد، أو الأم أدركت أنها تفارق طفلتها إلى الأبد، تنزع من صدرها القلب أو الكبد، تلفه وهو يقطر بالدم داخل الغطاء من الصوف الناعم، تدثر كبدها من البرد، تحميه من تراب الشارع وقطع الزلط، تمسح كفيها بالأرض قبل أن تنزعه عن صدرها، قبل أن تتركه وتمضي بعيدا في الطريق المظلم الطويل اللانهائي.
كانت بدور تصحو في الليل. شيء ما يوقظها، إصبع مدببة تنغرز في لحم كتفها، بوز قدم يركلها في بطنها، شفرة موسى تمشي فوق معصمها، يد ترتفع عاليا وتسقط على وجهها في صفعة قوية. تهب من النوم مفتوحة العينين، تتصور أنه زوجها زكريا الخرتيتي يصفعها، أو أنها بدرية خرجت من بين الأوراق المتراكمة بجوار السرير وسددت إليها ضربة قوية. ترفع بدور يدها عاليا لترد الصفعة بصفعة مماثلة، لكن يدها البضة الثقيلة لا ترتفع، ذراعها سمينة قصيرة ملتصقة بجسدها، قلبها محبوس داخل عظام ضلوعها، كبدها منزوع من شق كبير في جنبها الأيمن. منذ هذا الشق الطويل الغائر في جسدها لم تعد بدور قادرة على المقاومة. في طفولتها كانت أكثر شجاعة، في المدرسة لا تسدد إليها إحدى الزميلات ضربة إلا ترد عليها بضربة مماثلة أو أشد. كانت تمشي بين البنات مرفوعة الرأس، تمشي في المظاهرات تهتف ضد الحكومة والاستعمار، إلى جوارها يمشي نسيم طويل القامة ممشوقها، المقلتان الكبيرتان في عينيه ينعكس فيهما ضوء الشمس. يتغير لونهما مع حركة الضوء، الزرقة العميقة الدكناء إلى حد اللون الأسود كعين الليل، أو عين النهار حين يأتي الصبح وتشرق الشمس.
في أحلامها قالت بدرية لبدور: سيكون لك طفلة أو طفل بهاتين المقلتين، ستنظرين في عينيه أو عينيها وتملكين الكون.
অজানা পৃষ্ঠা
لو لم تفتح جفونها وترى المقلتين الزرقاوين السوداوين لربما عاشت بدور حياتها مثل غيرها من النساء، لربما ضمها عش الزوجية السعيد مع زكريا الخرتيتي، لربما ابتهجت بمركزها العالي في الجامعة، وإنتاجها العظيم في النقد الأدبي والعمود اليومي الذي يملكه زوجها في جريدة «أبو الهول»، وابنتها مجيدة الخرتيتي التي تكتب في مجلة النهضة، وبطاقات الدعوة التي تأتيها بالبريد، والكتب والمؤلفات التي يرسلها إليها الكتاب والكاتبات؛ ينشدون منها كلمة أو نظرة أو لفتة كريمة.
كانت بدور تخفي حزنها العميق تحت وجهها المتورد السمين، تطوي سرها الدفين في ثنايا أحشائها، ترسم فوق ملامحها ابتسامة مشرقة، تطلق ضحكة عالية من حين إلى حين، ربما لا يكون هناك شيء مضحك، لكنها تطلق ضحكتها المميزة طويلة وحادة، تنتهي بشهيق متقطع الأنفاس يشبه النشيج المكتوم.
لأن خبراء تربية المواشي يؤكدون هذه الحالة حين تصاب البقرة الأم باكتئاب مزمن بعد أن ينزعوا عنها وليدها، بعد أن تنظر في عيني وليدها قبل أن يفارقها. كان الخبراء يغطون عيون البقرات الأمهات، يضعون فوق عيونهن غطاء سميكا لا يشف الضوء، تلد البقرة عجلها أو عجلتها دون أن تراها، دون أن تلتقي العيون لحظة أو أقل من لحظة، دون أن تتلامس العيون في نظرة واحدة أو نصف نظرة. إن هذه النظرة الواحدة هي التي تبقى مع الأم لا تفارقها حتى الموت، وإن كانت بقرة، فما بال أن تكون ناقدة مرموقة، اسمها بدور، أو بطلة في رواية أدبية اسمها بدرية؟
في الليل تتحسس بدرية بطنها من تحت الغطاء، تحت كفها البضة الناعمة تحس دقات القلب الصغير. رفسات القدم الدقيقة الرقيقة تدق جدار بطنها، تضغط بيديها فوق الصوت تكتمه، تلف أصابعها حول العنق الصغير تخنقه، تريد أن تراه ميتا، وتريده أن يعيش ويرى النور، تتمزق بين الإرادتين إرادة الله وإرادة الشيطان. كان الله يريده ميتا؛ لأنه ابن زنى، وكان الشيطان يريده حيا يتألق في سماء الكون كالنجم.
في الطرقات المظلمة كانت بدور تمشي تقودها بدرية من يدها، تسحبها من خلفها كما يسحب الفلاح بقرته من خلفه. عيناها لا تريان الطريق أمامها؛ الغمامة المربوطة حول رأسها، أو لأنها مغلقة الجفون في نوم عميق؛ أو لأنها تركت أمرها ومصيرها في يد بدرية. إنها بدرية التي تحرضها على العصيان، منذ الطفولة تدفعها إلى الخروج إلى الشارع، إلى الهروب من المدرسة والمشاركة في المظاهرات، إلى الهتاف ضد الله والوطن ، ضد الأب والأم والجد، ضد المدرسين والمدرسات. إنها بدرية التي دفعتها إلى دخول الغرفة في البدروم، هي التي وقعت في حب نسيم، هي التي أرادت أن يكون لها طفلة أو طفل يرث قوامه الممشوق، يمشي فوق الأرض بخطواته الشامخة؛ مقلتان كبيرتان شاخصتان إلى الأمام، لونهما أزرق أسود بعمق البحر في الليل أو السماء حين تسطع الشمس. تصورته رجلا آخر اسمه نعيم، كان هو حبها الأول قبل أن يدركها الحيض. إنها بدرية التي فتحت جفونها ورأت المقلتين قبل أن تختفي في الظلمة، رأتهما لحظة أو نصف لحظة، لم تكف بعدها عن البحث. بعد أن ينام الكون ترتدي ملابسها وتخرج، تمشي في الشوارع، تنظر في عيون الأطفال، تحملق في عيونهم تبحث عن المقلتين. قد تكون الطفلة راقدة فوق الرصيف غارقة في النوم، جفونها مغلقة، قدماها الصغيرتان مشققتان، بشرتها سمراء حرقتها الشمس، مبقعة بدوائر بيضاء وصفراء تعلوها جروح وكدمات، شفتاها منفرجتان قليلا مثل الأطفال في النوم، تبتسم لأمها أو أبيها المجهول في الحلم. تفتح الطفلة عينيها لترى بدرية جالسة إلى جوارها، تمد لها يدها برغيف طازج من الفرن أو قطعة كعك، قبل أن تنهض وتمضي بعيدا. ليستا المقلتين نفسيهما، ليستا العينين نفسيهما، ليست هي النظرة المحفورة في خلايا العقل داخل ثنايا المخ، ليست هي زينة ابنة نعيم.
لا تمد الطفلة يدها إليها؛ تعرف أنها ليست أمها. إنها امرأة أخرى لا تعرفها، واحدة من هؤلاء النساء، عضو في جمعية رعاية أطفال الشوارع، أو رعاية مرضى السل أو الجذام أو الإيدز، أو في مجلس الطفولة أو الأمومة أو الوالدين، أو موظفة في حزب الحكومة أو المعارضة أو حقوق الإنسان.
لا تمد الطفلة يدها في إباء وشمم، لا تريد حسنة ولا شفقة من هؤلاء أو أولئك، لا تريد رغيف خبز أو قطعة من الكعك، بل تريد أن تذهب إلى المدرسة والجامعة مثل غيرها من بنات الناس، تريد أن تكون لها كرامة وشرف، وشهادة ميلاد وشهادة الليسانس والدكتوراه.
تعود بدرية إلى بيتها منهوكة القوى محنية الرأس، تكاد تشبه بدور بعد أن تزوجت. لم يكن زكريا الخرتيتي فتى أحلامها، تقدم إلى أبيها يطلب يدها، كانت الثورة قد قامت وسقط الملك عن العرش. جلس في مقاعد الحكم ملوك صغار، يرتدون ملابس عسكرية، أحدهم هو أبوها اليوزباشي الدامهيري، كانت أخته قد تزوجت من ابن عم أحد قادة الثورة. خلع الدامهيري البذلة العسكرية، ارتدي ملابس مدنية أنيقة، أصبح له مكتب فاخر في المؤسسة أو لجنة الثقافة والأدب والفنون والصحافة، يجمع بين عدد من الوظائف واللجان العليا مثل غيره من العسكر. يمكن الواحد منهم أن يشرف على عدد من الهيئات والمجالس واللجان، تحمل اللجنة اسما مركبا من كلمتين: العليا الدائمة. كان الواحد منهم يحمل سبحة صفراء في يده، يصلي الجمعة وراء الصف الأول، أو الصف الثاني، يتصور أن الله معه في كل خطوة، أن لجنته الدائمة العليا هي من عند الله، وأنها دائمة دوام الخالق الأوحد.
كان زكريا الخرتيتي صحفيا ناشئا، كتب بعض المقالات في مدح الملك، حذفها من ذاكرته بعد قيام الثورة. بدأ يكتب عن الثورة المجيدة ثم عن الاشتراكية العربية الإسلامية، ليست هي اشتراكية كارل ماركس «اليهودي الملحد».
يضغط بسن القلم على الكلمتين «اليهودي الملحد». كلمة واحدة منهما كانت كافية لتلويث سمعة أي كائن حي أو ميت.
অজানা পৃষ্ঠা