سارت به السيارة إلى بيت جده القديم في شارع المحطة، رأى إلى جوار البيت جامعا جديدا له منارة وميكروفون. في نهاية الشارع كانت الخمارة، ودار الغازية خدوجة، كان يذهب إليها مع زكريا، وكان زملاؤه المراهقون، يفرغون غدة الشيطان في جسدها السمين، ينتظر كل منهم دوره جالسا في الصالة، يقرأ القرآن، أو يحملق في مجلة فوق غلافها امرأة عارية. كان هناك أيضا الحشيش والأفيون، وحقن الماكس، وكل ما يذهب بالعقل ويوقظ الشهوة، ومطاعم الكشري والكفتة والكوارع، وكل ما تشتهي الأنفس.
ثم ذهب إلى الجامع ليصلي صلاة العيد، ركع وسجد مع الراكعين والساجدين، لامست جبهته الحصيرة، دخل التراب أنفه مع البراغيث، طرد الشيطان الواقف على يساره، كان ينبئه أن الله لا ينخدع بصلاته، أنه عاقبه على شكوكه فيه بأن هزم نادي الزمالك في المباراة الأخيرة، كان الشيطان يعرف أنه زملكاوي، طرده بيده كأنما يهش ذبابة: اخرس يا إبليس، لا يمكن أن يكون الرب تافها إلى هذا الحد، فيعاقب النادي كله بسبب فرد واحد يشك فيه.
في طريق العودة من القرية أدرك الطبيب النفسي أنه مريض، يحتاج إلى طبيب يعالجه، الانفصام بين عقله ووجدانه، عقله غير مؤمن، لكن وجدانه مؤمن. لا أمل له في الشفاء، محكوم عليه بالازدواجية منذ الطفولة.
تسللت بدور في ظلمة الليل، زوجها راقد إلى جوارها يشخر، فمه مفتوح معوج ناحية اليسار، شاخص إلى السقف، جفونه نصف مغلقة نصف مفتوحة، تطل منها نظرة أو نصف نظرة، متلصصة متجسسة، يختلس النظر إليها وهي تتسلل من الفراش، تمشي على أطراف أصابعها، قدماها صغيرتان سمينتان، بطيئة الحركة مثل البطة، تتأرجح من قدم إلى قدم، تتردد بين الإقدام والإحجام. في حياتها ثلاثة رجال على الأقل، محمود الفقي بعموده اليومي تقول عنه ممتاز، أحسن من عموده، عموده يقرؤه كل الناس بمن فيهم الرئيس. الرجل الثاني هو الطبيب النفسي زميله في المدرسة، كان بليدا يرسب في اختبار الذكاء، يجري وراء البنات. الرجل الثالث هو السر في حياتها، لا تبوح به لأحد حتى لنفسها، أو ربما صديقتها صافي أو دادا زينات. هاتان المرأتان لا تجتمعان إلا والشيطان ثالثهما.
ينقلب زكريا الخرتيتي وهو نائم من جنب إلى جنب، يتغير موقعه من فوق الظهر إلى فوق البطن، يدفن وجهه في الوسادة، يتحول الشخير إلى نشيج مكتوم. يسري في أذنيه صوت أبيه وهو طفل: «المرأة حليفة الشيطان، النظافة من الإيمان والوساخة من النسوان.» يقتبس أبوه كلمات ابن المقفع: «واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن؛ فإن شدة الحجاب خير لك من الارتياب، فإن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل.»
لكن كيف يا زكريا يا ابن الخرتيتي أن تمنع زوجتك من أن تعرف غيرك؟ إنها تخرج كل يوم إلى الجامعة، أستاذة كبيرة تدرس الطلاب الذكور، يرمقها زملاؤها الأساتذة بعيون الأبالسة، منهم محمود الفقي صاحب العمود، وأستاذ الطب النفسي. ترقد أمامه فوق الأريكة، يستخدم الأريكة لعلاج نفسه من الحرمان الجنسي، ينكح من النساء ما يشاء. أحل الله له النكاح بعد حصوله على درجة الدكتوراة في الطب النفسي، يتصور نفسه نبيا مبعوث الله لشفاء المعذبات على الأرض. يحبس زوجته في البيت، إن خرجت ترتدي الحجاب، يغار عليها من عيون الرجال، أقسمت أمامه على كتاب الله ألا تعرف رجلا غيره في الحياة وفي الممات، ألا تنكح من بعده رجلا أبدا، كأنما هو النبي المرسل من عند الله، يحميه الله من الأذى، أنزل عليه آية في سورة الأحزاب رقم 53:
وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا .
يتقلب زكريا الخرتيتي في الفراش، ينقلب من فوق بطنه ليعود راقدا فوق ظهره، شاخصا بنصف عين إلى السقف، يرى عين الله الساهرة لا تنام. ترمقه بنظرة غاضبة من الشق، عين حمراء مشتعلة بنار جهنم، صوته كالرعد يرج جسده. «يا ابن الخرتيتي، كان جدك الأكبر صبيا ميكانيكيا، يضربه صاحب ورشة الحدادة في بطنه بكعب حذائه إن أخطأ في إصلاح صامولة من الحديد. أعطيتك وأعطيت أباك كثيرا من نعمي، أصلحت صامولة في لحم مخك الهش، أصبحت كاتبا كبيرا تملك عمودا يوميا في جريدة أبو الهول الكبرى، ألا تكف عن شكوكك في وجودي أيها الأحمق، قتل الإنسان ما أكفره!»
كانت زوجته بدور جالسة وراء مكتبها في غرفتها، أمامها الأوراق، في يدها القلم، لمبة كهربائية تكشف عن وجهها المستدير السمين، جفونها نصف مغلقة، شاردة أو نائمة تغط في النوم. تتراءى لها شخصيات الرواية ظلالا تمشي فوق الجدار، أشكالا تتجسد تطل من الفرج في السحابة السوداء، شق صغير من الضوء في الظلمة الحالية، تنتظر فرج الله أن يهبط عليها الوحي، أن يجري قلمها فوق الورق كما كان يجري، لكن القلم ثابت في يدها لا يتحرك، لا شيء يمشي في خلايا عقلها، منذ تزوجت زكريا الخرتيتي كف رأسها عن العمل، أصاب الصدأ صواميل المخ. ترمقها عين زوجها في الليل والنهار، لا يغمض له جفن وإن نام، يتجسس على أحلامها، يفتش في الأوراق داخل أدراجها، يختلس ما يشاء من فصول الرواية، الأجزاء السرية حيث تنتهك المحرمات، يجمعها داخل درج سري في مكتبه، داخل دوسيه غلاف أسود، مكتوب عليه: «وما خفي كان أعظم.»
تنام بدور وهي جالسة وراء مكتبها، تصحو فجأة حين تسمع صوت قدم، تعرف خطوته حين يمشي من غرفة النوم إلى الحمام، محفورة في خلايا المخ السنة وراء السنة. عشرين سنة، ثلاثين، لم تعد تعرف عدد السنين منذ شاركها في الفراش، تعرف صوت الباب حين يفتحه صوت الهواء، حين يخرج إلى الشرفة يتمطى ، صوت الماء حين يدخل إلى الحمام. بينما هو تحت رذاذ الماء الدافئ تحس البرودة تمشي في عروقها من قمة رأسها إلى بطن القدمين، تنتبه إلى الضربات المتصاعدة تحت ضلوعها، تيار الدم المتصاعد إلى رأسها، برودة الثلج في أصابع يديها وقدميها، أذنها مرهفة إلى صوت الدش في الحمام، أزيز الصامولة في الصنبور حين يغلقه، ثم الصمت، يدب الصمت وهو يجفف جسده بالبشكير الأبيض الكبير. تشم رائحة الشامبو حين يفتح الباب مع رائحة معجون الحلاقة، ماء الكولونيا المستورد من باريس، أووسوفاج، تعرف أنه على موعد مع فتاة جديدة. الصحفية المتدربة في الجريدة، أو الكاتبة الناشئة التي تهوى الأضواء تنتقل من كاتب كبير إلى كاتب أكبر، إلى أن تمتلك لنفسها عمودا، فوق رأسه تظهر صورتها داخل البرواز؛ شعرها الطويل المسدل فوق كتفيها، شفتاها المنفرجتان عن أسنان مدنية دقيقة، جفونها مسبلة في نظرة ناعسة، مشبعة بالأنوثة والإغراء.
অজানা পৃষ্ঠা