صعدت إلى المنضدة الطويلة من المعدن اللامع، إلى جوارها منضدة أخرى صغيرة، فوقها تلمع الأدوات الحادة، مشارط وسكاكين وإبر وأسياخ حديدية، فوق الأرض البلاط جردل كبير مليء بالدم المتجمد، أو بقطع اللحم الصغيرة الحمراء.
قبل أن يربط ساقيها المفتوحتين إلى العمودين الحديديين انتفض جسدها واقفا، نفضت عن نفسها الرعشة والقشعريرة، ارتدت ملابسها بسرعة، خرجت تجري إلى الشارع، لم تسترد ما دفعته للتمورجي، لم تنظر خلفها.
وانتهت بدور من الفصل الأول في الرواية.
قالت بدور لنفسها: أكانت بدرية أشجع مني وأكثر أمومة؟
في الليل تبكي بدور على روايتها المسروقة، راحت منها في النوم مع طفلتها الضائعة، حملت بها في مكان وزمان لا تعيهما، وضاعت منها في الحلم.
في النوم تمشي تبحث عنها، تجوب الشوارع والحواري والأزقة، تتوقف عند أبواب الكنائس والجوامع، تتعثر قدمها أحيانا بشيء ملفوف داخل غطاء من الصوف الوردي الناعم، تتعرف على اللون والرائحة، الأصابع الصغيرة البضة تشبه أصابعها، الوجه الصغير الوردي ناعم مثل ورق الورد، بشرتها بلون بشرتها، تغطيها بقع دم جفت ودموع لم تجف، جفونها مغلقة مبللة بقطرات مطر.
لو لم تفتح جفونها لما حدث ما حدث، لما عرفت بدور أنها طفلتها، لما تذكرت أنها حملت بها في اليقظة أو المنام، لما نهضت من فراشها الدافئ في منتصف الليل وجابت الطرقات تبحث عنها، لما مزقت شعرها ولطمت خديها وغرست السكين في صدرها طوال الليل.
لكن جفونها المغلقة المتورمة انفتحت فجأة، ربما أدركت المولودة أن أمها تفارقها إلى الأبد، أو الأم أدركت أنها تفارق طفلتها إلى الأبد، تنزع من صدرها القلب أو الكبد، تلفه وهو يقطر بالدم داخل الغطاء من الصوف الناعم، تدثر كبدها من البرد، تحميه من تراب الشارع وقطع الزلط، تمسح كفيها بالأرض قبل أن تنزعه عن صدرها، قبل أن تتركه وتمضي بعيدا في الطريق المظلم الطويل اللانهائي.
كانت بدور تصحو في الليل. شيء ما يوقظها، إصبع مدببة تنغرز في لحم كتفها، بوز قدم يركلها في بطنها، شفرة موسى تمشي فوق معصمها، يد ترتفع عاليا وتسقط على وجهها في صفعة قوية. تهب من النوم مفتوحة العينين، تتصور أنه زوجها زكريا الخرتيتي يصفعها، أو أنها بدرية خرجت من بين الأوراق المتراكمة بجوار السرير وسددت إليها ضربة قوية. ترفع بدور يدها عاليا لترد الصفعة بصفعة مماثلة، لكن يدها البضة الثقيلة لا ترتفع، ذراعها سمينة قصيرة ملتصقة بجسدها، قلبها محبوس داخل عظام ضلوعها، كبدها منزوع من شق كبير في جنبها الأيمن. منذ هذا الشق الطويل الغائر في جسدها لم تعد بدور قادرة على المقاومة. في طفولتها كانت أكثر شجاعة، في المدرسة لا تسدد إليها إحدى الزميلات ضربة إلا ترد عليها بضربة مماثلة أو أشد. كانت تمشي بين البنات مرفوعة الرأس، تمشي في المظاهرات تهتف ضد الحكومة والاستعمار، إلى جوارها يمشي نسيم طويل القامة ممشوقها، المقلتان الكبيرتان في عينيه ينعكس فيهما ضوء الشمس. يتغير لونهما مع حركة الضوء، الزرقة العميقة الدكناء إلى حد اللون الأسود كعين الليل، أو عين النهار حين يأتي الصبح وتشرق الشمس.
في أحلامها قالت بدرية لبدور: سيكون لك طفلة أو طفل بهاتين المقلتين، ستنظرين في عينيه أو عينيها وتملكين الكون.
অজানা পৃষ্ঠা