في أدراج مكتبها في غرفتها تخفي بدور دوسيها كبيرا سمينا مليئا بالأوراق المكتوبة بخط يدها غلافه لونه أصفر، مكتوب عليه: «الرواية المسروقة.» بدأت هذه الرواية منذ سنين طويلة، منذ تلك الليلة التي مرت بها مثل كابوس مخيف، أو حلم عابر بالجنة، حيث قطفت الثمرة المحرمة.
في روايتها أعطت البطلة اسم: بدرية، بدلا من بدور، واسم البطل: نعيم، بدلا من نسيم.
وفي ظلمة الليل بعد أن تنام ابنتها مجيدة، بعد أن ينام زوجها زكريا الخرتيتي، بعد أن يخلو البيت من الخدم، وتحمل دادا حقيبتها السوداء الجلدية وتعود إلى بيتها، بعد أن يصمت الميكرفون فوق الجامع المجاور، وتتوقف الطبول وطرقعات الصاجات في الكازينو المطل على النيل، بعد أن تكف سيارات البوليس عن الحركة وتنعدم الصفارات والأبواق، وصراخ المرضى في مستشفى قصر العيني القديم، وجنازات الموتى الخارجة من الباب الحديدي الكبير، تولول خلفها النساء المكلومات والثكالى والأرامل واليتامى.
بعد أن ينام الكون، ويغمض إبليس عينه عن ضحاياه، ويرحم الله مخلوقاته فيغلق عينه الساهرة التي لا تنام، حينئذ تنهض بدور من سريرها العريض الذي يضم جسد زوجها إلى جوارها، تتسلل من الفراش واقفة على قدميها، تسير حافية على أطراف أصابعها إلى غرفة مكتبها، تضيء اللمبة الصغيرة، تمد ذراعها السمينة القصيرة إلى الدرج المغلق، تفتحه بمفتاح مخبأ في صدرها، تشد بأناملها البضة الدوسيه الأصغر، يجف حلقها وهي ترمق الأوراق المتراكمة، مئات الأوراق المكتوبة وغير المكتوبة، ليلة وراء ليلة، شهرا وراء شهر، سنة وراء سنة، مئات الصفحات، آلاف الصفحات بخط يدها، بالألم والعرق والدموع، تكتبها وتعيد كتابتها، تقرؤها وتعيد قراءتها مئات المرات، يجف حلقها وهي تقرأ، ينسحب الدم من وجهها إلى قاع قدميها، تمط شفتيها الممتلئتين باللحم إلى الأمام، تمطهما مثلما تمطهما حين تقرأ رواية رديئة لكاتب صغير، أو كاتبة غير موهوبة.
كانت ابنتها مجيدة طفلة في الثامنة من العمر راقدة في سريرها في غرفتها مغمضة العينين، إلا من شق رفيع بين الجفون، يتسرب إليه ضوء خافت من تحت عقب الباب، موجات ضوء تتحرك في ظلمة الليل الساكن، تأتي من غرفة أمها البعيدة، أو غرفة أبيها في الناحية الأخرى من الصالة، موجات ضوء خافتة تشبه حركة الهواء، أو أوراقا يحركها الهواء، أو صوت احتكاك سن القلم بالورق، أو أوراقا تتمزق ويلقي بها في صفيحة القمامة، أو هواء ساخنا يخرج من الصدر مع الأنفاس، أو تنهيدة عميقة كالشهيق أو الزفير الطويل اللانهائي.
قد يختفي الضوء ويعم السكون، ثم تبدأ أصوات أخرى تتسرب من خلال الجدار، تسمع أباها وأمها يتحدثان بصوت عال في الفراش، صوت أبيها خشن غليظ متحشرج، صوت أمها حاد رفيع مثل الجرس، لا يكفان عن الشجار حتى يغلبها النوم.
في الصباح تظن أنهما سوف يفترقان، سوف تعد أمها حقيبتها وترحل، أو يعد أبوها حقيبته ويرحل، إلا أن كليهما لا يرحل ولا يعد الحقيبة، ولا شيء حدث إلا في الحلم.
تراهما جالسين إلى مائدة الفطور، يشربان القهوة والشاي مثل كل يوم، يقرآن الصحف، يتبادلان بعض الكلمات حول ما يحدث في مصر أو العالم، أو يقرآن في صمت، لا تسمع مجيدة إلا صوت رشفات الشاي، يرشف أبوها من فنجان الشاي بصوت عالي حاد، أمها ترشف بصوت رقيق أنثوي لا يكاد يسمع.
لم تكن بدرية إلا شخصية من الشخصيات في الرواية المسروقة، إلا أنها كانت تعيش في حياة بدور الدامهيري، كأنما امرأة حقيقية من لحم ودم، تكاد تحسها راقدة إلى جوارها في السرير، أو جالسة معها في غرفة مكتبها، ترمقها في صمت وهي تقرأ أو تكتب أو تتبادل معها بعض الكلمات، تتخاصمان وتتصالحان كما يحدث مع بدور وزوجها زكريا الخرتيتي، وقد تشطب بدرية بعض العبارات التي لا تعجبها في الرواية، بل قد تحذف فصلا كاملا أو تضيف فصلا من عندها، وقد تحكم على نفسها، على بدرية، بالموت تحت عجلات القطار، أو رميا بالرصاص.
تخصصت بدور في النقد الأدبي، أدركت أن بدرية مثل أي شخصية في أي رواية، قادرة على التمرد على المؤلف أو المؤلفة، قادرة على الانفصال عن خالقها والثورة ضده، والتفوق عليه.
অজানা পৃষ্ঠা