راعَنِي منظرهُ لمَّا بدَا ... ربَّما ارتاعَ بالشَّيءِ الحسنْ
قلتُ مَنْ هذا فقالت بعضُ مَنْ ... فتنَ اللهُ بهِ فيمنْ فتنْ
بعضُ مَن كانَ سَتيرًا زمنًا ... ثمَّ أضحَى فهواكمْ قد محنْ
قلتُ حقًّا قلتِ قالتْ قولةً ... أورثتْ في القلبِ همًّا وحزنْ
قلتُ يا سيِّدتِي عذَّبتِني ... قالتِ اللهمَّ عذِّبني إذنْ
أما هذه المخاطبة فقلَّما يقع ألطف منها لفظًا ولا أجلّ منها موقعًا ولو لم يصبر المحبُّ علَى امتحان إلفه إلاَّ بسمع مثل هذا من لفظه لكان ذلك حظًّا جزيلًا ودركًا جليلًا فكيف وحال الصَّفاء إذا ابتدأت بين المتحابَّين بالمشاكلة الطبيعية ثمَّ اتَّصلت بالحراسة عن الأخلاق الدَّنيئة ثمَّ عذبت بالرّعايات الاختياريَّة بلغت بهما الحال إلى حيث انقطعت بهم دونه الآمال وعلى أنَّ الحزم لمن سومح بالوصال ألا يرسل نفسه كلَّ الإرسال فإنَّ ذلك ربَّما دعا المحبوب إلى الملال وإن كان مقيمًا على رعاية الحال.
ولقد أحسن الَّذي يقول:
عليكَ بإقلالِ الزِّيارةِ إنَّها ... تكونُ إذا دامتْ إلى الهجرِ مسلكَا
فإنِّي رأيتُ القطرَ يُسأمُ دائمًا ... ويُسألُ بالأيدي إذا هوَ أمسكَا
الباب الثامن
مَن كانَ ظريفًا فليكنْ عفيفًا
قال أبو بكر بن داود وحدثني أبي قال حدثنا سويد بن سعيد الحدثانيّ قال حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى الفتات عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ: مَن عشق فعفَّ فكتمه فمات فهو شهيد ولو لم تكن عفَّة المتحابَّين عن الأدناس وتحاميهما ما ينكر في عرف كافة النَّاس محرَّمًا في الشرائع ولا مستقبحًا في الطَّبائع لكان الواجب على كلِّ واحد منهما تركه إبقاء ودّه عند صاحبه وإبقاء على ودِّ صاحبه عنده.
أنشدني أحمد بن يحيى عن زبير عن محمد بن إسحاق عن مؤمل بن طالوت من أهل وادي القرى عن حمزة بن أبي ضيغم:
وبتْنا خلافَ الحيِّ لا نحنُ منهمُ ... ولا نحنُ بالأعداءِ مُختلطانِ
وبتْنا يقينَا ساقطَ الطَّلِّ والنَّدى ... منَ اللَّيلِ بردَا يمنةٍ عَطرانِ
نذودُ بذكرِ اللهِ عنَّا غوَى الصِّبى ... إذا كادَ قلبانَا بِنا يرِدانِ
ونصدرُ عن ريِّ العفافِ وربَّما ... سُقينا عليكِ النَّفسَ بالرَّشَفانِ
وأنشدتني أعرابية بالبادية:
ويومٍ كإبهامِ الحُبارَى لهوتهُ ... بقعمةَ والواشونَ فيهِ تحرِّفُ
بِلا حرجٍ إلاَّ كلامَ مودَّةٍ ... علينا رَقيبانِ التُّقى والتَّعفُّفُ
إذا ما تهمَّمنا صددْنا نفوسَنا ... كما صدَّ مِنْ بعدِ التَّهمُّمِ يوسفُ
وقال العباس بن الأحنف:
أتأذنونَ لصبٍّ في زيارتكمْ ... فعندكمْ شهواتُ السَّمعِ والبصرِ
لا يُضمرُ السُّوءَ إنْ طالَ الجلوسُ بهِ ... عفُّ الضَّميرِ ولكنْ فاسقُ النَّظرِ
وأحسن من هذا قول عمر:
نظرتُ إليها بالمحصَّبِ مِنْ منًى ... ولِي نظرٌ لولا التَّحرُّجُ عارمُ
فقلتُ أشمسٌ أمْ مصابيحُ بيعةٍ ... بدتْ لكَ خلفَ السِّجفِ أمْ أنتَ حالمُ
بعيدةُ مهوَى القرطِ إمَّا لنوفلٍ ... أبوها وإمَّا عبدُ شمسٍ وهاشمُ
طلبْنا الصِّبَى حتَّى إذا ما أصبْنهُ ... نزعْنا وهنَّ المسلماتُ الكرائمُ
ولبعض أهل هذا العصر:
أمولايَ لمْ تبعدْ عليكَ مطالبي ... ولمْ تخشَ إنْ فكَّرتَ فيَّ فواتِي
أمولايَ لا أينَ المفرُّ منَ الهوَى ... فقلْ لي لمَ بادرتَ بالنَّقماتِ
أَأُنسيتَ عهدَيْنا بوادٍ معظَّمٍ ... وليسَ بذِي زرعٍ سوَى الحسناتِ
وأنتَ حرامٌ حرمةَ الحجِّ والهوَى ... علَى العينِ إلاَّ هفوةُ اللَّحظاتِ
أخنتُكَ كانَ العفوُ أولَى بذِي الهوَى ... أمُ ابْلغتَ زورًا لِم شفيتَ وُشاتِي
قال وبلغني عن الأصمعي أنَّه قال بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بجاريةٍ متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول:
لنْ يقبلَ اللهُ مِنْ معشوقةٍ عملًا ... يومًا ووامِقُها غضبانُ مهجورُ
وكيفَ يأْجرُها في قتلِ عاشِقها ... لكنَّ عاشقَها في ذاكَ مأْجورُ
1 / 24