وفيما أنا أقبله نزلت نقطة حراء على خده فشعر بها وفتح عينيه، وقال بصوت منخفض جدا: إلي يا والدي.
فأخذته على صدري، وصحا صحوة الموت الأخيرة، والتفت نحوي وقال: من أنت الذي يعتني بي هكذا، إني حلمت أني رأيتك في منامي - يشير بذلك حين كلمني في كوخ الخادم - أنت كريم يا هذا، هل أنت ملك أرسلت لي؟
ثم سكت، وبعد قليل قال: أسما، آه يا أسما! حرام يا أسما! قتلي حرام يا أسما! ماذا جنيت؟ هل الحب ذنب؟ أنا عارف يا أسما، أبوك يكرهني لأنه يظنني غير شريف الأصل، لا يعرف لي أب ولا أم ولا ولا، ولكن الوداع يا أسما، الوداع الوداع يا دنيا، الوداع الوداع يا والدي، لا، لست والدي إنهم يقولون ، الوداع الوداع أيها الشاب المعتني بي، آه! ليتني أقدر على مكافأتك، ليس لي من يبكيني بعد موتي، ليس لي أقارب ولا أم ولا أب ولا أخ.
إن ذلك المنظر يذيب الحجر، فكيف بقلبي الضعيف الذي تحمل المصائب لإنقاذ هذا الشاب وأراه أمامي يعالج سكرات الموت؟ (آه! ما أصعب هذه الذكرى!)، وفيما هو يتكلم كان فؤادي يتقطع وكلما حاولت أن أنطق خنقتني العبرات، ومولاي شرف الدين لا ينبس ببنت شفة، وحوله امرأته ونساء عائلته، وفرق بين الأم والمربية فرق عظيم.
ولما سمعته يقول: ليس لي من يبكيني بعد موتي، ليس لي أقارب، ولا أم ولا أب ولا أخ، تمالكت نفسي وخاطبته: أنا أخوك فلا تحزن.
فالتفت بعينه، ثم قال: هل أنت أخي؟ لا، ليس لي أخ، أنت كريم أيها الشاب، الله يكافئك عني.
فأجبته، والقارئ يتصور حالتي أولى من شرحها: أنا ورب الكعبة أخوك الوحيد، وأنت أخي الوحيد في هذا العالم، فيا ليتني لم أعرفك ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا!
فنظر إلي نظرة وداع تفتت الأكباد، وقال لي بصوت منخفض للغاية: لا يعتني بي هذا الاعتناء إلا أخ شقيق، فإن لم تكن شقيقي في النسب فأنت شقيقي لحسن معاملتك.
وما أتم هذه العبارة حتى رأيته وجه نظره نحو باب الحجرة وأبرقت أسرته، فتأملت لأرى من الداخل فرأيت فتاة تخجل البدر ذات قوام كالغصن الرطيب وشعر كالليل الحالك وعيون سوداء بأهداب طويلة وخدود كالورد زادت في احمرارها شدة الحزن وزاد بهاءها اللؤلؤ المتناثر على عقيق خدها، وعلى العموم كانت طلعتها تسلب اللب وتجذب قلوب الناس وهي في ملابس سوداء كالقمر في الليلة الليلاء، ولما وقع نظره عليها قال لها بصوت أعلى كأنما يحاول الرجوع إلى الحياة: يا مرحبا يا مرحبا يا أسما، جئت لتزوريني؟ جئت لتودعيني؟ يا مرحبا يا مرحبا.
فرمت نفسها على قدميه وأخذت تبكي بكاء الثكلى وهي تقول: بأي وجه أقابلك وأنت مقتول بذنبي؟ فلمن تتركني يا حبيبي؟ لا بقاء لي بعدك، آه من القاتل الظالم! قتلك وقتلني بعدك.
অজানা পৃষ্ঠা