كلمة للمؤلف
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الخاتمة
كلمة للمؤلف
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الخاتمة
اليتيم
اليتيم
تأليف
أحمد حافظ عوض
كلمة للمؤلف
في النصف الأخير من سنة 1898 ظهرت هذه الرواية في عالم المطبوعات العربية تحت اسم «رواية اليتيم أو ترجمة حياة شاب مصري»، بلا مقدمة أو كلمة واحدة من قلم كاتبها، الذي لم يكن إذ ذاك معروفا إلا لدى أصدقائه وأقرانه في المدرسة، ولهذا السبب لم ير أن يتهجم على مواقف المؤلفين ويتقحم على صفوف المصنفين بنشر مقدمة يقول فيها شيئا عن نفسه أو قصده، واختار أن يلقي حبل تلك الرواية التي كتبها بمداد التعليم المدرسي على غاربها؛ لتنال حظها من المكانة لدى الأدباء والقراء إما مدحا وإما قدحا، سيما وهو إذ ذاك طفل في عالم الأدب، متطفل على موائده، وما كان ليخطر بباله يوم أن فتح لروايته هذه باب الظهور في الوجود أنه سيضطر في يوم من الأيام بالرغم عنه لكتابة كلمة عنها ومقدمة لها، بل ما كان ليؤمل مع غرور الشباب في مثل ذلك السن أن تعيش روايته هذه في مثل هذا العصر، وتنفد نسخها بعد بضعة أشهر من صدورها أو أن تطبع مرة ثانية.
وسواء كان رواج «رواية اليتيم» وإقبال الناس عليها يرجع إلى أنها تستحق ذلك، أو لأنها كانت صادرة من القلب فوصلت إلى القلوب، فهو ما أتركه للمستقبل أو لحكم الغير. ولكن ما لا أنكره على القارئ أنني لولا رغبتي في بقاء أثر من آثار الشبيبة الأولى مرتديا بالرداء الذي ولد فيه وقائما بالفطرة التي وجد عليها؛ لرأيت فيها شيئا كثيرا يستوجب التغيير والتبديل، فلهذا أزفها للقراء كما ظهرت لهم أول مرة، وفي اعتقادي أنها ستبقى - ما دامت تقدر على المقاومة في معترك حياة الكتب - على ما هي عليه.
كثيرا ما سئلت عن موضوع هذه الرواية، وعما إذا كانت حقيقية أو خيالية، فكنت أجيب تارة بالتصريح وتارة بالتلميح، ولهذا رأيت أن أعيد الآن كلمة صغيرة في هذا الباب قلتها في مقدمة رواية «الحال والمآل»، وهي أنه لا يلزم أن تكون الحادثة قد وقعت لأشخاص معلومين معروفين، بل يكفي أنها كالحوادث التي تقع كل يوم، وقد تكون حدثت بعض حوادثها لأفراد مختلفين، فاجتمعت مع بعضها، ولمستها ريشة الخيال بمسحة من خطراتها؛ فتألف منها ما تراه شكلا كاملا، وأظن في ذلك ما يكفي.
وكثيرا ما انتقد على هذه الرواية بأنها صورة سوداء من الصور التي تبغض في الحياة وتسيء الظنون بها، بمعنى أنها محزنة، وأن مثل هذه الحوادث المؤلفة لا تتراكم بمثل هذا الحال على أحد، وحتى لقد طلب مني عند هذه الطبعة الثانية أن أخفف بعض سوادها، فرفضت رفضا باتا. أما عن الانتقاد ففيه بعض الحقيقة التي تختلف في تقريرها العقول، إلا أن هذه الرواية إن كانت قد أحزنت كثيرين فقد خففت في وقت تأليفها عن صدر كاتبها حملا ثقيلا، وأراحت ضميره قليلا.
لأسباب شخصية لا محل لها هنا كان كاتب هذه القصة في زمن من الأزمان محملا بصنوف الحزن وضيق الصدر، حتى صغرت في عينه الحياة، وحتى خيل له أنها لا تصفو أبدا، فلهذا نظر إلى العالم بذلك المنظار الأسود، وصبغ روايته في ذلك الوقت بهذا اللون، وربما حمل بطلها من التعاسة والشقاء شيئا كثيرا؛ لأن نفس التعيس ترتاح لتعاسة غيرها حتى ولو كان ذلك في الخيال، فلهذا كان المؤلف كلما ضاق صدره خف إلى قلمه فساقه في روايته هذه، فظهرت على هذا الحال.
ولا أحب أن أطيل الكلام فالكتابة عن شخص الإنسان فيها شيء من الأثرة والأنانية، وهو ما لا أرتاح إليه. ولولا أن ناشر مسامرات الشعب اضطرني لكتابة هذه الكلمة لبقي أمرها في طيات الضمير إلى ما شاء الله.
فأكتفي بهذا حتى تجمعني وهذه الرواية فرصة أخرى.
والسلام.
أ. حافظ عوض
المطرية في 10 صفر الخير سنة 1321
الفصل الأول
زمن الطفولة «أيام كنا والزمان مساعد»
في سنة 1302 هجرية تبتدئ قصتي، حيث كنت أبلغ إذ ذاك العاشرة من العمر، وإنني كنت في ذلك الوقت صغير السن لا أفقه ولا أعي أغلب الحوادث، غير أنني أذكر للقارئ ما يصل فكري إليه من ترجمة حياتي، التي أكتبها الآن وأنا في سن الثانية والعشرين، وإذا سمحت الظروف وعدت إلى بلادي نشرتها، وإن جاء القدر ضد مقاصدي - كما هي العادة - فلا أعدم واسطة من إرسالها لصديق صباي ورفيق شبيبتي ... وليكن في علمك أيها القارئ، أن ما أكتبه عن نفسي وقع لي بدون مبالغة أو تحريف.
ولدت في سنة 1293، وكان ميلادي بمنزل في رمل إسكندرية بالقرب من محطة «باخوص»، ولغاية ما أتذكر من الحوادث أقول: إنني كنت ألعب مع ابنة صغيرة تعادلني في السن، وهي ابنة جارنا في المنزل، الذي كان منقسما إلى مسكنين: أحدهما جهة الشرق والآخر جهة الغرب، وكان يسكن القسم الشرقي رجل من كبار المصريين، كان يأتي لنا وأنا ألعب مع ابنته فيلاطفني، وكنت أذهب معها إلى مسكنهم الذي لم يكن في الحقيقة إلا قسما من منزلنا، حيث لم يكن يفصلنا عنهم شيء، ولنا حديقة واحدة. أما والدي فكان رجلا في سن الأربعين، متوسط القامة، واسع العينين، أسود الشعر، وكنت تراه دائما ملازما للصمت، كمن يفتكر في أمر مهم، ولذلك كان لا يلعب معي كثيرا، كما يفعل جارنا مع ابنته، وكان يذهب في الصباح إلى الإسكندرية، ويعود في المساء، حيث يتناول العشاء، ويذهب للمحادثة مع جارنا، ثم يعود إلى النوم.
أما والدتي فياللأسف! تحققت أني لم أرها إلا وأنا طفل رضيع، وأما من كنت أظنها والدتي لم تكن في الحقيقة إلا مربيتي، وهي مصرية الأصل، وكان عندنا في المنزل خادم وخادمة يقومان بلوازم المطعم والملبس. أما أنا فكنت كثير اللعب مع تلك الابنة، وكنا بعض الأحيان نذهب مع والدها إلى الإسكندرية وإلى سان استفانو، حيث كنا نريض أنفسنا على شاطئ البحر ونعود إلى المنزل عند المساء مارين بين الحدائق والأزهار المجاورة للطريق. وعلى مثل هذا الحال قضيت زمن الطفولة زمن الهناء والسعادة.
هو الطفل أهنى الخلق لا يعرف الأسى
ولا يعرف البلوى ولا يعرف الهوى
ولما بلغت الثامنة من العمر شرع والدي في تربيتي، فلم يترك فرصة تمر دون أن يعلمني فيها ويرشدني إلى الفضائل والتحلي بالآداب. وأول شيء وضعه في عقلي وثبته بالإرشادات الصدق وفوائده، أذكر أنه ذات مرة قال لي: «إذا رأيت أن تخلص نفسك بالكذب هل تفعل؟» فأجبته: «نعم»، فاغتاظ مني، ولولا شفقته علي وحبه لي لأني كنت وحيده وثمرة حياته، لضربني، ولكنه وبخني، وقال: «اعلم يا ولدي، أن الكذب مهما كانت نتيجته من الخلاص، فلا بد من الوقوع في شره يوما ما، واعلم أن هذه الدنيا لا تدوم، وكلنا مائتون، ومن لم يمت صغيرا مات كبيرا، فكيف يكذب الإنسان سعيا وراء خلاص حياته وهي لا تدوم؟! أليس من شرف المبدأ وواجب الدين أن يصدق الإنسان ولو كان في الصدق فقدان روحه؟» وكم ضرب لي الأمثال! ومما أتذكر منها حكاية واشنطن محرر أمريكا، الذي لم يكذب على أبيه حين سأله: من الذي قطع شجر الكريز؟ وكان واشنطن القاطع له، بل قال بكل ثبات: «أنا يا والدي»، فاشتهر بعد ذلك بالصدق حتى صار رئيس جمهورية تلك البلاد. وكان في أثناء كلامه يزيدني من المعلومات العمومية، حتى إنني لما كنت في المدرسة كنت مشهورا بمعرفة الغرائب، وكنت مع صغر سني أعرف بعض معلومات عن الدول وقوادها وتواريخها وعن السياسة وبعض رجال السياسة، وذلك من المبادئ التي علمنيها والدي.
وكان والدي محافظا على أصول دينه، وأول شيء وضعه في ذهني أصول الدين والتمسك به، حتى إن إخواني التلامذة حين ذهبت فيما بعد إلى المدرسة كانوا يستغربون مني حينما يرونني أصلي كل وقت وأحافظ على الفرائض الدينية، ولذلك كنت محترما عند أساتذتي وعند إخواني. ثم فضلا عن تثقيف ذهني فإنه لم يمنعني عن اللعب في الحدائق مع ابنة جارنا، وكان يوصيني بالأدب معها ومع والدها والأولاد الذين نلعب معهم. ثم شرع في تعليمي القراءة والكتابة بنفسه ، وكذلك مبادئ الحساب واللغة العربية والفرنسوية. واستمر على ذلك حتى بلغت سن الثالثة عشرة، فأرسلني إلى مدرسة رأس التين الأميرية، وهذه أول مرة رأيت المدرسة والتلامذة والأساتذة، الذين اختبروني وقرروا إدخالي في السنة الثالثة من القسم الابتدائي، وكان ناظر المدرسة رجلا سليم القلب، محبا للتلامذة. وعند المساء كان يأتي خادمي فأذهب معه إلى محل تجارة والدي، التي كانت في محل يسمونه «بورصة مينا البصل»، فكنت أرى التجار وأغلبهم من الأجانب، ثم أذهب مع والدي وخادمنا إلى محطة الرمل، ونركب القطار إلى محطة باخوص، ومن ثم نذهب إلى بيتنا. وهكذا مرت السنة وجاء الامتحان وكنت من المتقدمين في الفرقة. وجاءت أيام المسامحة، ولله ما كان ألطف تلك المسامحة، التي أمضيت أغلب أوقاتها مع ابنة جارنا التي كانت تذهب إلى مدرسة بالإسكندرية وتعود بعد الظهر!
أما والدها؛ فقد سمعت عنه من والدي أنه من كبار المصريين وأغنيائهم، حر المبدأ، كريم العنصر، شريف العواطف، يساعد الفقراء والمساكين، ويحث الناس على تربية أبنائهم، ويجود بماله لتربية أولاد الفقراء لأنه يرى أن بلادنا محتاجة للتربية؛ إذ إن تقدم الأمم مرتبط بتقدم الأفراد، وكم شرع في تأسيس مدرسة خيرية لتربية أولاد الفقراء! ولكن أغنياءنا لم يساعدوه، وغاية مناهم من الدنيا كنز الأموال، حتى يخرج بعدهم أولادهم الذين يهملون تربيتهم فيفقدون ما جمعوه في بعض أيام قلائل، ومن الذي يحصل على أموال هؤلاء الأغنياء سوى باعة الخمور وأصحاب محال اللهو؟ وبذلك تتحول الثروة من البلاد وتلبث الأمة في الجهل، والذنب كل الذنب راجع على أغنيائنا وكبرائنا. وكان جارنا يحبني كما يحب ابنته، وطالما كان يتكلم معي في موضوعات شتى أدبية.
وهكذا مرت الأيام وانقضت المسامحة ما بين إسكندرية وباخوص وسان استفانو، الذي كنت أزداد محبة في الذهاب إليه. ولما جاء ميعاد افتتاح السنة المدرسية وذهبت إلى المدرسة، أخبرونا أننا سنمتحن آخر السنة لكي ننال شهادة سموها شهادة الدراسة الابتدائية، فاجتهدت في مذاكرة دروسي بكل همة ونشاط، وكان والدي يزور المدرسة ويوصي علي الأساتذة، حتى جاء يوم 25 يونيه سنة 1892 وجاء التلامذة من البلاد المجاورة كدمنهور ورشيد وطنطا، وامتحنا تحريريا، وانتظرنا ظهور النتيجة بقلوب واجفة، وكنت صغيرا لم أفقه مركزي، حتى جاء وقت ظهور النتيجة، وجاء رئيس الامتحان ونادى بأسماء التلامذة الناجحين، وذكر من ضمنهم اسمي فسررت جدا، وذهبت توا إلى والدي وأخبرته بنجاحي، فقبلني ووعدني إذا نجحت في الامتحان الشفاهي أن يهديني هدية فاخرة، وكنت أعجب من التلامذة الذين كانوا يبكون حينما لم يسمعوا أسماءهم، وكنت أتصور أنهم يخافون من آبائهم أن يضربوهم أو يهينوهم لعدم نجاحهم، ثم جاء اليوم المعين للامتحان الشفاهي فدخلنا ووجدنا لكل علم لجنة مكونة من ثلاثة أساتذة، فسألونا عن أسمائنا، وامتحنونا وأعطونا درجات تدل على نجاحنا، ثم خرجت بعد الامتحان وذهبت لوالدي وبشرته بنجاحي، ولم أدر ماذا تم حتى جاءني والدي في اليوم الثالث وأعطاني ساعة ذهبية وقال: «هذه مكافأة على اجتهادك»، وبشرني بتمام النجاح، ولم يمض شهر حتى ظهرت جريدة الوقائع المصرية، ولا تسل عن سروري حين وقع نظري على اسمي مطبوعا في الجريدة، ثم جاءني والدي وقال لي: «اعلم يا ولدي أني أريد أن أرسلك إلى مدرسة في القاهرة لتتميم دراستك»، فسألته: «وهل تذهب معي إلى القاهرة لتقيم فيها؟» فقال: «لا، ولكنك ستكون تلميذا داخليا في المدرسة، بين من يخاف عليك ويعتني بأمرك»، فسألته: «ولم لا ترسلني إلى القسم التجهيزي من مدرسة رأس التين؟» فأجابني: «إنهم ربما ألغوا القسم التجهيزي من هذه المدرسة، وسأرسلك إلى أحسن مدرسة في القاهرة، وما رغبت في ذلك إلا لكي تتعود على التغرب ومعاشرة الأساتذة والتلامذة»، فرضخت لأمره وأنا كاره لفراق موطني وابنة جارنا، التي كانت في ذلك الوقت تزداد لطفا وجمالا، وكان قلبي مولعا بها، حتى إنني كنت لا أهنأ إلا بجوارها، وكانت دائما تحادثني وتذاكرني الدروس، وكنت أشعر بانعطاف نحوها يزداد يوما عن يوم، وأنا لا أعرف وقتها غراما ولا هوى، بل كنت أتدرج في حب طبيعي ممزوج بالميل، ولو كنت أعرف ما تبطنه الأيام لما علق قلبي بشيء من ذلك، ولكنها الأقدار تجري بما تشاء.
ولما بلغها خبر سفري إلى القاهرة وأنني لا أراها إلا بعد ستة أشهر على الأقل، أسفت غاية الأسف، وصارت تجيء إلي كل يوم وتقول: «تعال نتفسح، وننهب لذة اجتماعنا؛ فقد قرب وقت سفرك»، وكانت تتبسم نحوي بما يشف عن حبها لي حبا ممزوجا بالإخلاص، حتى إنها قالت لي قبل السفر بيومين ونحن جلوس على مقعد بالحديقة: «هل تذكرني في سفرك؟» فأجبتها: «كيف لا أذكرك وأنت رفيقة حياتي من الصغر؟ وهبي أني لا أتذكر هذا المحيا الذي يبسم لي عن وداد ومحبة، فهل أنسى أياما قضيناها ونحن خليان من متاعب الدنيا؟» فقالت: «إن ذكرى ذلك الزمن تولد في قلبي بواعث غريبة، وبودي لو يعود ونعود كما كنا لا نعرف للفراق اسما.»
كل ذلك كان يزيد حبها في فؤادي، حتى كان يوم الخميس فذهبت معها للتنزه في الحدائق المجاورة لمنزلنا، فقالت: «أظنك مسافرا غدا إلى القاهرة»، فقلت لها: «نعم»، فقالت: «ليتني كنت معك»، فأجبتها: «بودي، ولكن عسى أن أراك قبل السفر»، فقالت: «ذلك لا بد منه».
وما زلنا نتجاذب أطراف الحديث بين تلك الرياض الغناء إلى وقت المساء، فرجعنا إلى المنزل ووجدنا أبوينا يتحادثان، فلما رآني والدي قال لي: «إنك مدعو لتناول العشاء في منزل سعادة البك مع سكينة»؛ فحصل لي سرور عظيم، ولما ذهبنا إلى المنزل جلسنا للأكل مع والدها ووالدتها، وكانت سكينة على يميني تحادثني وتلاطفني، ولم تكن أول مرة أكلنا سوية فإننا كنا مختلطين كأننا عائلة واحدة؛ لأن والدها كان صديق والدي ورفيق صباه، وكان يسكن معنا في بيت واحد، وبعد تناول العشاء جلسنا للمحادثة، ولم ندر إلا وقد حضر والدي ومرضعتي، وأمضينا تلك الليلة في هناء لا يشابهه هناء وأنا بين والدي ورفيقة صباي إلى منتصف الليل، فأشار والدي بالقيام لكي أنام وأقوم مبكرا في الصباح فذهبنا إلى مسكننا، وبودي لو كانت الدنيا تستمر ليلا إلى الأبد وأنا وتلك الفتاة نتجاذب الحديث، ونتذاكر عصر الطفولة.
ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه. ذهبت إلى سريري وأنا أحاول النوم والأفكار تتجاذبني، حتى غلب علي النعاس فصرت أحلم أني راكب القطار وسكينة معي، وتارة في المدرسة، ولم أستيقظ إلا في الصباح؛ لأن يدا لطيفة وضعت على خدي تنبهني، ففتحت عيني ورأيت «سكينة» وفي يدها باقة من الزهور عليها ندى الصباح، فشعرت بحرارة تدب في جميع جوارحي حين لمست يدها خدي، فحولت رأسي قليلا حتى وضعت فمي على تلك اليد الناعمة اللطيفة وقبلتها قبلة شعرت لها بتيار سرى في مفاصلي كما تسري الكهرباء في السلك، ونظرت إليها فرأيت خدودها قد احمرت من الخجل، وقالت: «قم، فقد قرب ميعاد السفر»، فقمت وأديت فرض صلاة الصباح، ولبست ملابسي، وجلست معها نتكلم قليلا، وإذا بالخادم دخل علينا وقال إن «والدك يطلبك لتناول الإفطار»، فذهبنا إلى قاعة الطعام، وجلست هي بجانبي والباقة بيدها.
وبعد ذلك، أمر والدي الخادم بحمل جعبة السفر إلى المحطة، ثم جاءت مرضعتي وقبلتني بين عيني، ودعت لي بالسلامة، وخرجت من المنزل وأنا أشعر لأول مرة بمرارة الفراق، كل ذلك وسكينة بجانبي لا تنبس ببنت شفة، بل كنت أراها مفكرة كمن يبحث عن نتيجة أمر يود عمله، ثم كنت أراها تنظر إلي مرة وإلى والدي مرة أخرى حتى وصلنا المحطة فوجدت والدها هناك، وما لبثنا أن جاء القطار، وركبنا جميعا إلى أن وصلنا محطة سيدي جابر، فنزلنا وانتظرنا القطار الذاهب إلى مصر، وما لبثنا كثيرا حتى جاء فركبت أنا ووالدي فقط، وسلم علينا والد سكينة وقدم إلي صورته مع ابنته التي سلمت علي وعيناها مغرورقتان بالدموع، وقدمت لي الباقة فأخذتها، ويعلم الله أني بللتها بالدموع التي انحدرت من آماقي على تلك الزهور، ولما صفر القطار نظرت إلى سكينة ووالدها ورياض الرمل، وقلبي واجف ودموعي تسيل على خدودي، ولما سار القطار صرت أزود نظري من محاسن رفيقة صباي حتى احتجبت عن نظري، ولم أعد أرى سوى أشجار الرمل، فدخلت العربة ورأيت والدي يقرأ إحدى الجرائد، ولما رآني والدموع ملء عيني شرع في ملاطفتي قائلا: «لو كنت محلك ما بكيت كما تبكي ، بل لكنت أكثر سرورا»، فسألته: «وهل تظن يا والدي أن فراق الموطن والإخوان سهل؟» فأجاب: «أنا لا أنكر أن الفراق صعب، ولكن إذا كان الفراق لنيل المعالي والحصول على الشرف فإني لا أستصعبه، ولا سيما إذا كان الإنسان سيجتمع بإخوان يؤنسونه ويضاعفون مسراته»، فأجبته مترددا: «إذا كان!»
قال: «كن على يقين أنك ستكون مسرورا بين إخوانك التلامذة، فإن زمن التعليم كله سرور وهناء، لا سيما وأن المدرسة التي تذهب إليها مشهورة بحسن موقعها، ولطف أساتذتها، وجميل أخلاق ناظرها، وأدب تلامذتها.»
قلت: «وما اسم هذه المدرسة؟»
قال: «المدرسة التوفيقية»، فقلت: «طالما سمعت عنها أنها مدرسة أولاد الأغنياء، فهل يدفعون فيها مبالغ وافرة؟»
قال: «قد كان ذلك من قبل، وأما الآن فجميع المدارس الثانوية على حد سواء، وإنما تمتاز هذه المدرسة بحسن نظامها وحرية التعليم فيها، ولذلك فكبار الأمة يرسلون أولادهم إليها، وإني آمل أن تتخلق بآداب أحسنهم، وأن تختار لك من الأصدقاء من يعاونونك على أعمالك؛ فإن أصدقاء المدرسة يكونون أعظم أعوان المستقبل»، ثم انتقل للكلام معي في مسائل أخرى تهذيبية، حتى وصلنا إلى محطة مصر، وإذا بأصحاب الفنادق ينادون: «أوتيل كديفيال»، «أوتيل شبارد»، «أوتيل رويال»، ونحو ذلك، فنادى والدي رجلا يقول أوتيل كديفيال، وأعطاه جعبة السفر، ومن ثم ركبنا إلى النزل، وإذا به في سناء يشرف على الأزبكية. ولا أطيل على القارئ؛ فأقول إني توجهت في الصباح إلى المدرسة، وبعد الكشف الطبي أمرت بالعودة ثانية بعد أسبوع، وهكذا فعلت.
الفصل الثاني
في المدرسة التوفيقية
كنت أسمع بعض الناس يقولون إن زمن المدرسة أحسن أيام المرء وأهنأ أوقاته، وما كنت أصدق أقوالهم أو كنت أظن أن زمن تعليمهم ربما كان أهنأ من أيامنا، ولكنني عرفت الآن وتحققت صدق تلك الأقوال الصادرة عن التجارب والحكمة. نعم، أسعد أيام الفتى هي أيام الدراسة، أيام لا يعرف من مصائب الدنيا إلا أسماءها، زمن لا يتحمل الإنسان فيه سوى مذاكرة الدرس، زمن كل آمال المرء فيه التقدم على الأقران، زمن خال من الهموم والأحزان، ولن يعرف الإنسان قدر ذلك الزمان والهناء إلا بعد أن يكابد متاعب الدنيا، وبضدها تتميز الأشياء.
زمن سعيد قد مضى بصفاء
ما بين إسعاد وبين هناء
كشعاع نور في ظلام حالك
أو نقطة خضراء في صحراء
ولى وأبقى في الفؤاد رسومه
وكذا تولي سائر الأشياء
ولقد كان زمن وجودي في هذه المدرسة زمنا مملوءا بالمسرات التي أصبحت أقدرها الآن فأغبط طلاب تلك المدرسة؛ لأن الصحة تاج على رءوس أصحابها لا يبصره إلا المرضى، وأذكر أني كنت أبكي فيها بعض الأحيان لفراق والدي وحبيبتي، ولكن:
رب يوم بكيت فيه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
فيا إخواني في المدرسة، وددت لو تمنحني الطبيعة قوة أسمعكم بها كلمات وبيني وبينكم أقطار شاسعة وبحار واسعة، فإذا سمحت الأيام واطلعتم على أقوالي فاحمدوا الله على وجودكم في هذه المدرسة، وليحمد الله الوطن على وجودكم فيها، فأنتم خير أبنائه وذخيرته على ممر السنين الآتية.
عزمت على أن لا أطيل الكلام في زمن المدرسة؛ فإن ذلك يحتاج لأوقات طويلة، ولعمري يمكن التلميذ أن يكتب مجلدا ضخما عن سنة واحدة فكيف بمن أقام ثلاث سنين متوالية؟! وبما أني خصصت هذا الفصل للكتابة عن أيام المدرسة فسأذكر المهم على وجه الإجمال.
أقمت في هذه المدرسة ثلاث سنوات متوالية، وما أخرجني منها قبل تتميم الدراسة سوى القدر المحتوم والحظ المنكود، ويعلم الله أني كنت متمتعا بجميع صنوف الراحة كأني كنت في منزلي، لا ينقصني إلا بعد سكينة ووالدي، وكنا في الصباح نفطر بالجبن والخبز والعسل، وكان أغلبنا لا يفطر في المدرسة بل من أكل الباعة الذين يوجدون أمام باب المدرسة، وأما الغداء فكان مع التلامذة الخارجية، وعند الساعة أربعة ونصف مساء تخرج التلامذة الخارجية ويبقى الداخلية في المدرسة يتنزهون ذهابا وإيابا في الحوش وأمام المدرسة، وكان ضباطنا رجالا كراما يصرحون لنا بالفسحة في الحقول والحدائق المجاورة، على شرط أن نعود إلى المدرسة قبل دق الجرس. ولا تسل عن أول ليلة بتها في المدرسة، حيث كنت حزين البال لا أعرف أحدا من التلامذة، ولكنني بالصدفة تعرفت بتلميذ جاء معي في حين واحد، وقد تأكدت بيننا روابط المودة بالنسبة لتوافق مشاربنا وأمزجتنا، وكان هذا الشاب يعادلني سنا، نبيها، ذكيا، محبا للمطالعة والمباحثة خصوصا في آداب اللغة العربية، ولذلك كنت أمضي أغلب أوقاتي معه لحسن أخلاقه وطيب معاشرته وآدابه. أما بقية التلامذة الداخلية فعلى العموم كانوا من خيرة الشبان، وبينهم مودة كأعضاء عائلة واحدة، وكنا مع سرورنا الزائد وراحة بالنا نظن أنفسنا تعساء، لا سيما حينما نرى إخواننا الخارجية يخرجون مساء ونحن دائمون مسجونون في المدرسة، حتى في يوم الجمعة لا نخرج إلا بعد الظهر ونعود في المساء، ولكن كل هذه أفكار صبيانية؛ لأننا لو تأملنا إلى الخارجية لوجدنا أغلبهم، إن لم نقل جميعهم، فاسدي الأخلاق؛ وذلك من عدم اشتغالهم بالدروس والتفاتهم لأشياء أخرى، وخصوصا الذين يأتون من البلاد فإنهم لعدم وجود من يقوم بأمرهم لا يهنأ لهم عيش من المطعم والملبس، وربما يسكنون في بيوت مضرة بالصحة، وربما لا يذهبون إلى الحمامات إلا كل شهرين أو ثلاثة، ثم لعدم وجود من يراعي سيرهم تراهم يسيرون حسب أهوائهم، والشباب مطية الجهل يقود المرء إلى ارتكاب كل منكر وفاسد. هذا فضلا عن أن التعليم في المدارس لعدم مزجه بأصول الدين الذي هو أس الفضائل؛ يجعل الشباب لا يعبئون بالآداب، ويرتكبون المحرمات، ولعمري إن مصر في احتياج إلى شبان يعرفون واجب بلادهم وأنفسهم وإخوانهم؛ ليكونوا مجموعا يدعى بالأمة المصرية، وهذا لا يكون إلا إذا مزج التعليم بالآداب والفضائل.
أقول ذلك لأني كنت متعودا على القيام بالفرائض الدينية حينما كنت بالإسكندرية، فلما أتيت إلى هذه المدرسة وجدت كل شيء بخلاف ما كنت أنتظر، فإنني لما كنت أصلي كانت التلامذة تسخر بي كأنني أنا أعمل عملا غير واجب علي وعليهم، ولكن التعود على شيء يجعل الإنسان يسخر بمن يخالفه، ومع ذلك لم يؤثروا على فكري؛ لأن والدي علمني وثبت أفكاري على مبدأ سرت عليه طول حياتي. وفي اعتقادي أن ذهاب الأطفال من الصغر بدون تهذيب عائلي إلى المدرسة يضر بالولد كثيرا؛ لأن المعلم إنما يعتني بمواد العلم، وهيهات أن يلتفت إلى الأخلاق إلا بما يهمه من جلوس التلميذ متأدبا، وإن شئت قل خائفا خاشعا مدة الدرس مهما كان شقيا فاسد الأخلاق خارجه، ذلك فضلا عن الاختلاط مع التلامذة سيئي الخلق والتربية. ومن هنا تعرف فائدة تعليم البنات، لا لكي يقرأن ويحررن أو يطالبن بحقوقهن ويعرفن ما لهن وما عليهن فقط، بل ليفدن أبناءهن ويهذبن أخلاقهم ليعيشوا عيشة هنية في الدنيا والآخرة.
أما صديقي الوحيد فكانت أخلاقه توافق أخلاقي في جميع الأمور، وكنا نذهب يوم الجمعة بعد الظهر لزيارة الأهرامات والمقابر والمساجد العتيقة والنزهة البسيطة في بعض الجهات الخلوية وما شابه ذلك، وفي تلك المدة كانت تأتيني رسائل من والدي يحثني على الاجتهاد والسير الحسن، حتى جاء شهر رمضان المعظم وبعد عشرين يوما صرحت لنا المدرسة بالإجازة، ولا تسل عن سروري حين ركبت القطار، وأرسلت تلغرافا إلى والدي، وكان معي صديقي الذي كان مسافرا إلى دمنهور، ولما وصلنا إلى تلك البلدة ودعته، وسار القطار حتى وقف في محطة سيدي جابر، فوافرحتاه! حيث وجدت سكينة تنتظرني هناك مع خادمي، وقد رأيتها تغيرت قليلا وازدادت جمالا على جمال وبهاء على بهاء، وحين أبصرتني أقبلت علي وسلمنا سلام المحبين، ثم صرنا نتمشى ذهابا وإيابا على الرصيف، وهي تسألني عن القاهرة والمدرسة وإخواني وأنا أجاوبها، فما أسعد تلك الأوقات!
ما كان أصفى العيش لو دام كما
قد كان في ماضي الزمان الأول
ليت الكواكب والطبيعة كلها
وقفت وذاك الوقت لم يتحول
وبعد زمن قصير جاء قطار الرمل، فركبت معها وسار بنا سيره المعتاد بين الرياض الغناء وسكينة تحادثني عن والدي ووالدها، حتى جئنا محطة باخوص فوجدت والدي على المحطة، وحين رآني قبلني بين عيني وقبلت يده ثم سرنا وأنا على يمينه وسكينة على يساره حتى وصلنا المنزل، ولا تسل عن الأيام القلائل التي قضيتها وأنا كل يوم أتنزه مع سكينة. ولما انقضت الأيام عدت إلى المدرسة، وكانت تراسلني سكينة من وقت إلى آخر، إلى أن جاءت المسامحة الكبيرة. واعذرني أيها القارئ أن اختصرت في وصف تلك الأيام وشرحها؛ فإن ذكراها تجدد أحزاني وتضاعف همومي، عافاك الله من مثل مصائبي، إنه رءوف رحيم!
ولا أقول لك إن مدة المسامحة كانت كليل وصل في زمان هجر أو شجرة في صحراء أو نقطة بيضاء في صحيفة سوداء، وبعد انقضائها عدت إلى المدرسة، وما كان أصعب فراق سكينة! ولكن التعود على الفراق يخفف آلامه. ولما وصلت إلى المدرسة تقابلت مع إخواني كما تتقابل أعضاء العائلة مع بعضها بعد طول فراق، وبعد مضي شهر أتاني جواب من سكينة، هذا نصه:
إلى رفيق صباي: أمين
إذا صدق ما يقوله الناس أن قلوب المحبين ترى من وراء حجاب، فيحتمل إن كان عندك ما عندي أن يتخيل لك قرب مقابلتي؛ لأن وافرحتاه! والدي عزم على الإقامة في القاهرة مدة فصل الشتاء، ولو أنني أحزن لفراق الرمل ورياضه إلا أن سروري بلقياك واجتماعي بك من وقت لآخر يجعلني فرحة مسرورة بذهابي إلى القاهرة، وآمل أن تنتظرني على المحطة يوم الجمعة المقبل؛ لنذهب معا إلى المنزل الذي استأجرناه بالقاهرة لهذا المقصد. واقبل سلام حبيبتك.
سكينة
وددت لو منحني الخالق فصاحة سحبان لأشرح للقارئ مقدار السرور الذي سرى في فؤادي حين اطلعت على هذا الجواب، الذي أحفظه الآن بين أوراقي، ولعجزي عن الشرح أترك الأمر للقارئ النبيه ليتصور حالتي حينما أعلم أن رفيقة صباي وحبيبة فؤادي ستكون بالقرب مني، وأراها على الأقل كل أسبوع، ولا بد أن أذكر هنا أن حبي لها بعد المسامحة بلغ درجة الهيام ودخل في دور جديد، ورأيت محاسنها تزداد يوما عن يوم، فلله ما ألطف أخلاقها! وما أسحر عيونها!
ولكن حبي لها لم يكن له عندي هيئة غرام حينذاك، وطالما منعت نفسي عن التعلق بها لسببين؛ أولهما: أني لم أكن واثقا من حبها لي، وأنها ربما أحبت آخر، ثانيا: أن لم يكن لي أمل بزواجها لاختلاف آبائنا في درجة الثروة، فإن والدي لم يكن إلا تاجرا ووالدها من المثرين الكبار، ولكن لا ينفع العذل والمنع فإن الهوى أصاب فؤادا خاليا فتمكن، ولقد غرست بذوره في قلبي فنما وفرع. وما زلت أعد اللحظات وأستطيل الأوقات حتى جاء يوم الجمعة، فأخذت من الناظر إذنا في الصباح وذهبت لانتظارها، وما جاءت الساعة الحادية عشرة حتى أقبل القطار ورأيت سكينة ووالدها ووالدتها وخادمها وخادمتها، فسلمت عليهم، وحين سلمت على سكينة كان قلبي يخفق خفقانا لا مزيد عليه من شدة الهوى، ثم ركبنا عربتين في إحداهما سكينة ووالدتها وخادمتها، وفي الثانية والدها وأنا والخادم. ولما وصلنا إلى المنزل، وكان في شارع الإسماعيلية، وجدناه ذا حديقة غناء، ورأينا خادمهم الثاني موجودا هناك ومعدا الغداء ولوازم المنزل، وكان مفروشا من أصحابه كما هو الشأن في كثير من بيوت الإفرنج.
وبعد تناول الغداء خرج والد سكينة لبعض أشغال في القاهرة، وخرجت معها إلى الحديقة بعد أن استأذنت والدتها في ذلك، فلما استوى بنا الجلوس في قمرية «كشك» وسط الحديقة، قالت سكينة: «ما أسعدني الآن بوجودك معي!» فأجبتها والفرح ملء قلبي: «أنت تتكلمين بلسان فؤادي، فأنا أكثر منك سرورا»، فقالت: «ألم تر السبب في استئذان والدتي للتنزه معك؟» - لا شك أنك تحبين الحدائق، وتميلين إلى محاسن الطبيعة. - ذلك أمر ثانوي. - ولكن ما هو الأولي؟ - ظننتك تفهم، ولكن لو كان في قلبك ما في قلبي لفهمت القصد. - أما ما في قلبي فذلك موضوع آخر غير التنزه والفسحة والإذن والحديقة. - وهل تظن أن الذي في قلبي هو الفسحة؟ قلت لك: لو كان في قلبك ما في قلبي لفهمت. - آه لو تعلمين ما في قلبي! - وما فيه؟ - سؤال ليس له عندي جواب، أو بعبارة أخرى لا أقدر على إبدائه. - وما الذي يمنعك عن إبدائه؟ أليس بيننا من روابط المحبة الأخوية ما يجعلك على ثقة مني؟ أتخاف أن أفشيه إن كان سرا؟ - أنا واثق منك، ولكن ... - لا تجعل للكلفة بيننا مجالا، وأفصح عن مرادك.
فنظرت إلى جمالها الباهر فرشقتني عيونها بسهام شعرت لها بخفقان في قلبي، ولم أقدر أن أتفوه بكلمة واحدة بل مسكت يدها وضغطت عليها، ثم وضعتها على صدري، فاحمرت خدودها. ولما كانت هذه الفتاة في غاية من النباهة فهمت مرادي، وقالت: «أنا أشعر بخفقان في قلبك، ولعله ناشئ عما يسمونه بالغرام، فهل وقعت في شباك الهوى؟» - نعم، وقضي الأمر. - تنبه لنفسك فالغرام صعب.
هلا سمعت عن الهوى إن الهوى
صعب وسهل متلف لحشاكا - أنا عارف، ولكن ما قدر يكون. - ومن هي تلك الفتاة التي سلبت عقلك؟ لعلها جميلة. - نعم جميلة، وأي جمال! - وهل تحققت أنها تحبك كما تحبها؟ وإلا كنت معرضا نفسك للخطر؛ فإنهم يقولون:
ومن الشقاوة أن تحب
ولا يحبك من تحبه - ذلك لا أعرفه، وإنما يظهر لي أنها لا تكرهني. - «لا تكرهك» شيء و«تحبك» شيء آخر؛ فإن الإنسان ربما كان يميل لواحد من الناس ولا يكره الآخرين. - سواء أحبتني أو لم تحبني، فإني هويتها وما عدت أحب غيرها والسلام. - ولذلك فإني أراك متغيرا.
ثم صمتت وتغير لونها.
أما أنا فزاد بي الهيام، ولم أسمع منها كلمة تدل على حبها لي، وسكت وأنا أنظر لها وهي مطرقة، والله عليم بما في الصدور. وما زلنا جالسين كأننا أشباح بلا أرواح حتى وقع نظرها على شجرة نرجس فقطفت نرجسة وقالت لي: ما أحسن هذه الزهرة التي تشبه عيونا من فضة بأحداق من ذهب! - لا، بل هي تشبه عيون الحبيبة. - لقد تمكن منك الغرام لتلك الغادة، هل تعرف للنرجس وصفا؟ - نعم، أتذكر قول الشاعر:
والنرجس الغض تسبينا لواحظه
وفي الرياض علينا قام نمام - هذا وصف العشاق، فاسمع وصف الطبيعيين:
عيون من لجين شاخصات
بأحداق كما الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات
بأن الله ليس له شريك - أنا أعرف تشبيها كهذا، وهو:
مداهن تبر في أنامل فضة
على أذرع مخروطة من زبرجد
وبينما نحن في مقارنة التشبيهين وإذا بوالدها قد دخل علينا، فنظرت إلى الساعة فوجدتها ستا، ونسيت أن أعود إلى المدرسة في هذه الساعة لتناول العشاء، فاستأذنت من سعادة البك فسألني أن أتناول العشاء معهم، فأبديت له عدم إمكاني لأني لم آخذ إذنا، ولكن إن شاء الله سأعود في الأسبوع الآتي، فلما عرف أن لا بد من ذهابي أذن لي. ولما سلمت على سكينة ضغطت على يدي قليلا، وهمست في أذني قائلة: «دع غرام التي هويتها والتفت إلى أشغالك»، فما كان أصعب هذه العبارة على فؤادي المندمل! فنظرت إليها نظرة تشف عن معان لا يفهمها إلا ذوو الغرام وخرجت. وبعد أن ركبت عربة أمرت السائق أن يسير إلى قصر النزهة فسارت العربة وأنا في عالم آخر عالم الفكر والتخيلات، أتفكر فيما قلته وفيما قالته وفي المدرسة، ولم أستيقظ إلا حين مرت العربة على كوبري السكة الحديد، وسارت في شارع شبرا بين حفيف الأشجار وضوء المصابيح وهبوب نسيم المساء حتى وصلت المدرسة، فنقدت السائق أجرته ودخلت المدرسة فلم أر التلامذة، فظننتهم في المذاكرة، وأن أغلبهم لم يأت من الخارج، فصرت أتمشى في الحوش وأنا متفكر في سكينة وجمالها، حتى وقفت بجوار السياج الموجود بين الحوش ومنزل الناظر تحت شجرة هناك كنت أحب الوقوف تحتها، وكان القمر ساطعا والنسيم عليلا والمنظر لطيفا يؤثر على العقول ويضاعف لواعج العاشق، ويولد روح الشعر والتخيل الجميل كما قال فيه الشاعر الأندلسي الوزير ابن عبدون:
يا نفحة الزهر من سراك وافاني
خلوص رياك في أنفاس آزار
والأرض في حلل قد كاد يحرقها
توقد النار لولا ماؤها جاري
والطير في ورق الأشجار شادية
كأنهن قيان خلف أستار
وبينما أنا أتفكر وإذا بيد وضعت على كتفي بلطف، فالتفت فرأيت صديقي ... فقال لي: أنت هنا وأنا أبحث عليك في الحوش والمذاكرة ومحل الأكل! - أنا هنا من الساعة السادسة وما فوق. - لكن لم أرك في العشاء. - وهل أكلتم؟ - أي نعم، من ساعة مضت. - ظننتكم لم تأكلوا للآن. - مسكين! ألم تأكل؟ وأين كنت من الساعة السادسة؟ أكنت واقفا هنا؟! ... أنت كثير التفكر يا صديقي، لا بد أن أفكارك منشغلة بأمر مهم، هل أنت في حاجة للأكل؟ - لا؛ لأني أكلت متأخرا. - وأين كنت اليوم؟ - في انتظار بعض أقاربنا على المحطة.
ولما كان صديقي المذكور من الشبان المطلعين على أشعار العرب وآدابهم وهو من النابغين في الشعر، سألته أن يسمعني بعض أبيات غزلية، فلما سألته ذلك قال: ولماذا تطلب أشعارا غزلية، هل أنت مغرم؟ - لا، ولكن أحب الشعر العربي، وخصوصا المؤثر منه، فهل تحفظ شيئا من شعرك أو من شعر غيرك؟ - يعجبني قول ابن زريق:
أستودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وإني لا أودعه
وكم تشفع أني لا أفارقه!
وللضرورات حال لا تشفعه
وما كاد يفرغ من إنشاده حتى دق جرس المذاكرة، وبعد ساعة ذهبنا إلى عنابر النوم فنمت، والقارئ اللبيب يعرف كيف كان نومي وسهادي. ولما استيقظت في الصباح أديت فرضه، وعلى مثل هذا الحال من الشوق والقلق مر الأسبوع، وذهبت إلى منزل سكينة ولما دخلت وجدتها في انتظاري في الحديقة، ثم بعد السلام أخذت تسألني عن المدرسة وأحوالي حتى استطردت إلى ذكر غرامي، وقالت: ألا تقول لي اسم من هويتها لكي أتوصل إليها وأميل قلبها نحوك فإن الغرام أنحلك. - أنا لا أكلفك الذهاب إليها، ولا أظنك تقصدين الذهاب، اللهم إلا إذا كان كلامك هذا من باب المغالطة. - ماذا تقصد بذلك، ومن باب المغالطة؟ - أنت تعرفين من أهواها، لو كان في قلبك ما في قلبي. - وحرمة تربيتنا معا لا أعرف من تعني ومن تهوى! غير أني أقول لك إنك أخطأت في حبك لها خطأ عظيما. - أنت تجرحين عواطفي قبل أن أجرح عواطفك، نعم إنها من عائلة أغنى من عائلتي ولكن الحب يجمع بين الكبير والصغير. - أنت تقول إنني جرحت عواطفك، وأنت قد جرحت عواطفي من أسبوع مضى وما زلت تجرحها، ولم تكن هكذا آمالي منك. دعنا، هل حبيبتك غنية؟ وفي اعتقادي لو كانت تحبك كما تحبها لا تمنع ثروتها من الاقتران بك. - كفاني محاولة يا سكينة، أنت لا تحبينني كما أحبك، ألا تعرفين من أهواها؟ - قلت لك لا أعرفها وحياة حبك لها! - كفى يا سكينة، ألا يعرف الإنسان، ألا تعرفين نفسك؟!
فلما سمعت مني هذه الكلمة احمرت خدودها وطوقتني بذراعها، وبقينا كأننا سكرى من خمر الغرام المودع في طبقات النسيم، ولم أدر إلا وقد مر علينا على الأقل نصف ساعة زمانية ونحن ذهول من لذة الهوى، فحمدت الله حيث لم يأت والدها أو والدتها أو خادمتها فيروننا على تلك الحال، ثم قالت سكينة: إني كنت واهمة في حقيقة أقوالك، فأنت تحبني كما أحبك. وأخذت يدي ووضعتها بين يديها وضغطت عليها فشعرت بحرارة تدب في مفاصلي، ومسكت يدها وقبلتها، ثم قلت لها: «الآن يرتاح فؤادي؛ فأنت تحبينني كما أحبك.» - وهل عندك شك في ذلك؟ - إن الشك هو الذي أضناني. - لقد أسأتني بسوء ظنك، فكيف أحب غيرك؟ - بل أنت أسأتني بسوء ظنك، فكيف لا أحبك؟ - إذن فلنعش كما نشاء، وكما يشاء الغرام.
وبعد هذا اليوم الذي ابتدأ فيه غرامنا الحقيقي، صرت أقابلها كل أسبوع في منزلهم، ففي ذات أسبوع خرجت من المدرسة وذهبت إلى المنزل، فلما دخلت محل الاستقبال وجدت والدها جالسا وبيده جريدة، فلما رآني سلم علي وأجلسني بجانبه، وأخذ يسألني عن أحوالي في المدرسة وعن عدم مقابلتي له أغلب أيام الجمع، فأجبته: «إنني كنت دائما أحضر هنا، ولكن لم أكن أراكم في المنزل، وكنت أمضي أغلب الوقت مع سكينة نتباحث في الدروس - دروس الغرام»، فسألني: «هل تقرأ الجرائد؟» فأجبته: «إني لا أعتني بها، ولكن لي صديق في المدرسة مولع بقراءتها حتى إذا مر عليه يوم بدون أن يعرف الأخبار فإنه يتكدر.» - ومن هو هذا الصديق؟ - هو فتى من الشبان الأذكياء، وكل التلامذة تحبه وتمدحه؛ لأنه يحب وطنه كما يحب نفسه. - ولم لا تكون مثله، هل الوطن وطنه وليس وطنك؟ - نعم، إنه وطني وأغار عليه وأحب له السعادة، ولكني لا أهتم كثيرا بالأمور السياسية، ولا أشغل وقتي بها كما يعتني ذلك الفتى، فإنه يجمع التلامذة وقت الفراغ ويتكلم عما يجب على الشبان أن يعملوه لرفع شأن بلادهم من بث التعليم وتهذيب جهال الأمة، ولكني أظن أن كلامه يذهب أدراج الرياح؛ فإنه إذا لم تهتم الرجال الكبار بمصالح البلاد فإن الشبان لا يعملون شيئا، فهم كشجيرات بجانب أشجار كبيرة.
فقال: «ولكن الأشجار الكبيرة تتساقط أوراقها وتنكسر فروعها، وليس فيها ماء نمو ولا غذاء حياة، وأما الشجيرات فوإن كانت صغيرة ولكنها آخذة في النمو، وعندما تجف الأشجار الكبيرة الضخمة غير النافعة تفسح مكانا للشجيرات تنمو فيه وتتمتع بجو الصفاء لا يشاركها مشارك، وإذا كانت هذه الشجيرات معتنى بأمرها من الصغر نمت نموا عظيما وأفرعت وأثمرت أحسن ثمار تستفيد منه البلاد في الحال والاستقبال، وإلا فالعكس ظاهر. ولا شك أنك اطلعت على كثير من تواريخ الأمم التي ارتفع شأنها بعد انحطاطها، ورأيت أن الشبان هم الذين أقاموا عمادها وانتشلوها من وهدة الدمار والانحطاط، فاعلم يا ولدي أن مصر في احتياج إلى أفراد يسعون لصالحها كما يسعون لصالح أنفسهم، متحدين، مرتبطين بالجامعة الوطنية، لا فرق بين المسلم والمسيحي والإسرائيلي، ولا يعرف ذلك إلا المتعلمون، ما لهم وما عليهم، وأنتم ذخيرة هذا الزمن، وكأني بمصر وهي تنتظركم انتظار المريض للطبيب؛ لتقوم بكم ما أعوج من أمورها، فكونوا معها لا عليها.
وهب أنكم لا تجنون ثمار اجتهادكم، ولا إخالكم إلا جانيها في حياتكم، فإنكم تبقون ذكرا حسنا لأبنائكم يتناشدونه بعدكم. وأنتم تقولون إنهم غرسوا شجرة الإهمال فأكلتم ثمرها استعباد الغير لكم، فاغرسوا أنتم شجرة النشاط تتمتعوا برؤية نموها في حياتكم وتجني بعدكم أولادكم ثمرها؛ السعادة والحرية، ويدعون لكم لا عليكم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.»
فأجبته قائلا: «إننا نسمع عن شبان أوروبا من الأعمال والنشاط ما يحير أفكارنا، ولا سيما حيث نسمع أنهم يتركون بلادهم ويذهبون إلى بلاد أخرى، والإنسان منا يخاف أن يخرج من بلده، كل ذلك يجعلنا نظنهم من طبقة أعلى من طبقتنا في القوى العقلية والبدنية.» - لو اعتبرت الحقيقة فأنتم أفضل من شبان أوروبا الذين نسمع بمدحهم؛ لأن آباءهم غرسوا لهم السعادة فجنوا ثمارها بالراحة والشرف وساعدوا على زيادة نموها، وأما أنتم فالحالة معكم بالعكس، فإنه فضلا عن أن آباءكم لم يغرسوا لكم شيئا فإنهم لم يتركوكم وشأنكم بل زادوا الطين بلة، وأما عن سفرهم إلى خارج بلادهم فذلك أمر لا يستغرب، ولا يكسبهم فخرا عظيما؛ لأنهم أنى يحلوا يكرموا، وأنى ينزلوا يعظموا، يخرجون من بلادهم لا يملكون شروى نقير فيعودون وقد ملئوا الأوطبة من الأصفر الرنان، كل ذلك بمساعدة إخوانهم في مستعمراتهم التي أوجدها لهم آباؤهم، والمكسب يولد النشاط، وأنتم أين تذهبون إن أردتم؟ أإلى أوروبا فتموتون من الجوع إن فقراء وتصرفون أموالكم إن أغنياء، والوبال في الحالتين، أم إلى البلاد المتوحشة تذبحون وتقتلون، ولا من يسأل عنكم، لا سفير ولا وزير، ولا تحميكم قوة مثل قوة بلادهم؟ شبانهم يترنمون بما فعلته أجدادهم لرفع شأن بلادهم وأنتم بمن تترنمون وبمن تفتخرون؟ شبانهم سعداء وأنتم تعساء. فاسعوا لإزالة هذه التعاسة، إن لم يكن عنكم فعن آبائكم.
فلما رأى علامات التأثر ظاهرة واليأس باديا على وجهي، قال: «لا تظن أن الزمان يستمر على هذه الحال؛ فإنكم ولا شك أحسن من إخوانكم الذين تقدموكم، فأنتم تربون الآن وتعرفون ما لكم وما عليكم ولذلك ترون تعبا في حياتكم، أما الشبان الذين تقدموكم فقد كانوا أسعد بالا لجهلهم، و«لذة الدنيا لمن جهلا»، والحالة تبشر بالنجاح، وإن التأثير الذي ظهر على وجهك يدلني على حسن عواطفك وحبك لبلادك وإخوانك، فساعد صديقك الذي تقول عنه؛ فإن الأمم تشقى برجال قلائل وتسعد برجال قلائل.
ولما قرب ميعاد المدرسة استأذنته وخرجت وأنا منشرح الصدر من محادثة ذلك الرجل العاقل الكامل، وتأسفت قليلا لأني لم أقابل سكينة التي بلغني أنها ذهبت لزيارة بعض العائلات مع والدتها، وعلى مثل هذه الحال مرت السنة وأنا أقابل سكينة كل يوم جمعة، ولما جاء فصل الصيف ذهبت أسرة سكينة إلى الرمل، وقد قضينا مدة المسامحة في تمثيل رواية الغرام، حتى جاء وقت المدرسة وودعت حبيبتي بفؤاد مندمل من الفراق، ولكن على أي حال مسرور بحبها.
ولما وصلت إلى المدرسة واجتمعت بالإخوان وأمضينا الأسبوع وخرجنا يوم الجمعة، تذكرت أيام وجود سكينة بالقاهرة، والأوقات التي أمضيتها معها في مثل ذلك اليوم، ثم خطرت ببالي أيام المسامحة، ولكني كنت أخفف لواعج الغرام لثقتي بحبها، ولم أعلم ما تخبئه الحوادث وتبطنه الأيام.
الفصل الثالث
إيه عصر الهناء لو أبت أو لم
يعر أيامك العزاز انقضاء
بعد مضي شهرين من السنة، في صبيحة يوم من شهر ديسمبر سنة 1894، ناولني أحد التلامذة تلغرافا ففتحته بقلب ثابت ظنا مني أنه ربما كان من سكينة تخبرني بأنها ستمضي فصل الشتاء مع والدها بالقاهرة وتود أن تراني على المحطة، ولكن ما وقع نظري على الكلمات الآتية حتى اضطربت مفاصلي وجمد الدم في عروقي:
إسكندرية الرمل الساعة 5,8 صباحا.
ولدنا أمين فريد بالمدرسة التوفيقية.
احضر حالا بأول وابور.
والدك
فتحيرت في أمري، ولم أعرف لذلك سببا سوى أن يكون والدي مريضا، أو أن سكينة حصل لها أمر لا سمح الله، ولكن ذهبت في الحال إلى الناظر واستأذنته في السفر، وكانت الساعة 9 فتمكنت من لحوق إكسبريس 9,5 الذي يصل إسكندرية الساعة واحدة، ولما وصلت إلى محطة سيدي جابر وجدت خادمي في الانتظار وعيناه مغرورقتان بالدموع، فلما رأيته على تلك الحالة ارتعشت مفاصلي وخفق قلبي وشعرت بقرب مصاب أو أمر خطير، فسألت عن صحة والدي فأجابني: «إنه بخير»، «وكيف حال سكينة ووالدها؟» فقال: «بخير»، «ولكن ما السبب في استدعائي هنا فجأة؟» - أمر مهم لا أعرفه. - ولماذا تبكي؟! أخبرني.
فهملت دموعه، ولعلمي أن هذا الخادم أمين وأنه يحب والدي محبة عظيمة، تيقنت أن والدي حصل له شيء، فكررت السؤال فأجاب: إن والدك مريض. - مريض! هل في خطر؟ - نعم، في خطر.
فشعرت بارتخاء في مفاصلي وزيادة خفقان في قلبي، فسألت الخادم: «هل يمكن والدي أن يتكلم؟» فأجاب: «إنه يتكلم قليلا.»
ثم جاء القطار فركبنا وأنا في حالة لا أقدر على شرحها، وليس لي إلا أن أتركها للقارئ اللبيب، ليتصور حالة شاب لا يعرف له أقارب ولا أما ولا أخا سوى ذلك الوالد الذي أصبح على شفا جرف هار.
ولما وصلنا إلى محطة باخوص أسرعت بالمشي إلى البيت، فقابلني والد سكينة وسلم علي، ولكني بدأته قائلا: كيف حال والدي؟ - والدك بخير، سكن روعك، ما لي أراك متغيرا؟! - ولكن الخادم يقول غير ما تقول. - الخادم جاهل لا يعرف شيئا، وقد طمأننا الحكيم على صحة والدك، وأنه يشفى بعد قليل من الزمن، غير أنه يحتاج للراحة قليلا، وهو نائم الآن فلا تدخل عليه لئلا يستيقظ؛ فالنوم قد يكون للمريض دواء. اجلس يا ولدي.
ثم أخذ بيدي وأجلسني بجانبه وأنا أقول له: «أحقا ما تقول؟» فأجابني: وهل عندك شك في صحة كلامي؟ ألا تعرف أني أحب أباك كما أحب نفسي وابنتي؟ واعلم يا ولدي أن الدنيا كلها أكدار لا تدوم لأحد من الناس، وعهدي بك صبورا تقابل الهموم بقلب جسور. - ليس هذا سيدي موضع نصائح، أحب أن أرى والدي فإن قلبي يحدثني بأشياء كثيرة. - إذا سكنت روعك وهدأت نفسك صرحت لك بمقابلته، ولا إخالك تنسى أن المريض يزداد مرضا إذا رأى ولده الوحيد في حالة جزع وهلع، فإذا وعدتني بالثبات أدخلتك عليه. - أعدك بالثبات والتجلد. - إذن قم بنا.
ولما وصلت إلى غرفة نوم والدي رأيته منطرحا على السرير، بجواره مرضعتي وخادمنا وسكينة، التي حين رأتني سلمت علي والدمع له في خدها الوردي ندوب، وعيناها كأنهما قطعتا مرجان لكثرة ما ذرفته من الدموع، ومثلها مربيتي وخادمنا الذي كان ينفطر حزنا، وكان المنظر هادئا، ووالدي بينهم ساكن البال، مصفر الوجه، ولما رآني حول نظره جهتي، وأشار إلي بالقرب منه فدنوت منه وأنا لا أتفوه ببنت شفة، بل وقفت مبهوتا بجواره، فمد يده ومسك بها يدي ووضعها على صدره ثم ذرف دمعة على خدوده الصفراء وجعل ينظر إلي ويبكي، منظر يفتت الأكباد، ويجرح الفؤاد، ويفيض الدموع! والدي بهذه الحالة وجميع من حولي يبكون، حتى والد سكينة كان يذرف الدمع مدرارا ويجتهد في مواراته عن نظري! كل ذلك وأنا باهت بلا دموع ولا كلام، ثم نطقت: «أبي»، وعندها انحدرت الدموع، وخنقتني العبرات، وسقطت مغشيا علي لا أعي ولا أدري، ولم أتذكر شيئا إلا أني شعرت ببرودة على جبيني ، مما يدل على أنهم أنعشوني بالماء، ثم صرخت: «أبي، ألا ترد علي؟! أبي، هل انتهت الحياة؟! أبي، لمن تتركني؟! أبي ...»
ولما سمع كلماتي المتقطعة التفت نحوي ونظر إلي نظرة ما عشت لا أنساها، وقال: ها أنا لديك، لا تقطع الأمل، وإذا مت فالله خليفتي عليك، ثم أغمض عينيه وسكت، فتقدم والد سكينة ومسك يدي وقال: «ألم تعدني بالصبر يا ولدي؟ إن الله يحيي العظام وهي رميم»، فلم أجبه، بل التفت إلى جهة أخرى، فلمحت سكينة فوجدتها تبكي بشدة فلم أعد أتمالك نفسي من البكاء كالأطفال. وبعد ساعة يشيب لهولها الولدان من أنين ونحيب، فتح والدي عينيه وأشار إلى مربيتي أن تساعده على الجلوس، فتقدمت وتقدم والد سكينة وساعداه حتى اتكأ على وسادة، ثم أشار إلي وقال: «أنا في حالة حسنة.»
ولكنها كانت صحوة الموت الأخيرة، ثم قال: «تقدم يا ولدي، اسمع ما أقوله لك»، كل ذلك كان بصوت منخفض. - اعلم يا ولدي العزيز أن هذه الدنيا ليست بدار بقاء، وأنا وإن لم أرحل عنها الآن فسأرحل عنها قريبا، والحزن ليس من شأن الرجال، وأنا أموت مرتاح البال؛ لأني ربيتك وهذبت أخلاقك وإن كنت لم أترك لك ثروة تستعين بها على متاعب الدنيا، غير أني واثق بهمتك، وأحب أن تتخذ لك طريقا تسلكه في هذا العالم فتعيش به شريفا مكرما، وأوصيك يا ولدي بالهمة والنشاط ومساعدة إخوانك والفقراء والمساكين بقدر إمكانك، وتمسك بقواعد الدين الشريف والأخلاق المرضية، وأنا أموت مستريح البال لأنك ستكون خير خلف لأبيك، وما مات من كنت نجلا له، وقد كتبت وصيتي في رقعة مع مربيتك، والله يوفقك ويهديك لما فيه الخير والفلاح.
وبعد أن أتم هذه العبارة قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، شهادة تنجيني يوم القيامة.
وهنا خفت صوته، وأغمضت عيناه، ومالت رقبته، فتقدم والد سكينة ومربيتي وحولا وجهه نحو القبلة، وأنا أبكي بكاء مرا، وأقول: «هل تموت يا والدي؟ ولمن تتركني؟» فنظر إلي كأنه يريد الكلام فلم يقدر، غير أنه رفع يده قليلا نحو السماء كأنما «الله موجود»، ثم شهق شهقة فارق الحياة. وهنا لا يمكنني أن أشرح للقارئ حالتي حينذاك، فإن مثل ذلك الوصف فوق طاقة البلغاء، فكيف بمثلي؟ غير أني أقول إنهم لما رأوني وقد وهنت قواي أخذوني إلى غرفة أخرى، وجاء معي والد سكينة يلاطفني، ويذكر لي الأمثال، ويصبرني على المصائب؛ كل ذلك وأنا لا أتكلم بكلمة واحدة، بل كنت أبكي بالرغم عن ملاطفته لي كما يبكي الطفل في حجر أمه، بينما أحضر الكفن ولوازم الدفن، وذاع الخبر في الحال، وجاء الناس أفواجا أفواجا، وقام بالمأتم عم سكينة وأخوالها، بينما كان والدها ملازما لي تلك المدة، وأتذكر أنه قال لي: والدك كان وحيدا في العالم، وأنت خلفه الوحيد، فكن مثله عاقلا صبورا تبق لك ولوالديك ذكرا حسنا، وما أجمل الصبر بالإنسان! وهل أنت من النساء اللواتي لا يعرفن إلا البكاء؟ واعلم يا ولدي أني خليفة أبيك عليك، وقد أوصاني بك، وسأحافظ على وصيته ما بقيت في قطرة دم، وأنك وابنتي الوحيدة كأشقاء لا فرق بينكما، فدع هذا الجزع وهون عليك، وقم لمقابلة الناس كما كان يقابلهم أبوك حين مات أبوه، فإن هؤلاء الناس هم الذين كان يحبهم أبوك ويبرهم، فحفظوا له الجميل واليد البيضاء، وأنا أتوسم في صفاتك أنك تمثل أباك في أطواره وأخلاقه الذكية، فإنه كان - رحمه الله - من أحاسن الناس.
ثم ضرب لي مثلا بأم عبد الله الذي شنقه الحجاج، فإنها حين رأت ولدها معلقا من رقبته بين جمهور من الناس، لفظت جملة تدل على عظيم صبرها ووثوقها من المولى - عز وجل - جملة تبقى ما بقيت اللغة العربية، جملة تولد الصبر في قلب الجزوع الهلوع، وهي:
أما آن لهذا الخطيب أن ينزل عن منبر الخطابة؟
فإذا كانت هذه امرأة وذاك حشاشة كبدها فما بالك لا تقوم وتدع هذا الجزع وتقف في مأتم والدك؟!
فأردت أن أشكره على اعتنائه بي فخنقتني العبرات، ولما رآني بهذه الحالة عرف أن فؤادي تلطف، فأخذ بيدي وسار بي يحادثني ويضرب الأمثال حتى وصلنا إلى المحل المعد لمقابلة الناس، وقد علمت أنهم واروه التراب. بينما كان والد سكينة معي رآني الحاضرون، قاموا لمقابلتي وتعزيتي، وأجلسوني بين والد سكينة وعمها، ولما جاء الليل وذهبت الناس أخذني والد سكينة إلى منزله، وجيء بالأكل فلم أقدر على تناول شيء منه، ولكنه - حفظه الله - أخذ ينصحني بأن آكل وإلا فقدت الحياة من الحزن والجوع، فأكلت قليلا، ثم جاءت سكينة ووالدتها وأقاربها ومربيتي، وجلسوا جميعا يتحادثون ويتذاكرون صفات والدي، وقد بلغني أنه مكث مريضا نحو شهر، ولكنه لم يرد أن يزعجني، حتى قربت منيته فطلبني إليه ليراني. ولما مضت أيام المأتم الثلاثة وانقضى كل شيء ورأيت البيت ليس فيه سوى أثاثه، هملت دموعي وتذكرت ماضي أيامي، وقلت:
نعم هذه يا دهر أم المصائب
فلا توعدني بعدها بالنوائب
فلا تحسبني باسطا يد دافع
ولا فاتحا بعدها فم عاتب
الفصل الرابع
عجبت لهذي الأرض كيف تلمنا
لتصدعنا والأرض أم العجائب
أحدث نفسي خاليا بخلودها
فأين أبي الأدنى وأين أقاربي؟
بعد مضي عشرة أيام من موت والدي أتتني مربيتي وقالت: «لي معك حديث يا ولدي، فهلم بنا إلى الحديقة»، فلما سمعت ذلك ذهبت معها معللا نفسي بسماع ما يزيل عني الهموم، ولما استوى بنا الجلوس على مقعد هناك تحت شجرة كنت أمرح وألعب تحتها مع سكينة ونحن خليان من متاعب الدنيا، قالت: اسمع يا ولدي كلامي، وثبت جأشك وتصبر على موت والدك فالدنيا كلها فانية، وقد أوصاني والدك أن ألقي إليك بعض كليمات. - وما هي؟ - أوصاني أن أقول لك ما أعرفه عن حالته وثروته ومركزه قبل موته، فاعلم أن والدك كان من كبار تجار الإسكندرية، وكانت والدتك من بلاد المغرب، تزوج بها أبوك حين ذهب إلى تلك البلاد من زمن مديد. - وهل تعرفين عن أهل والدتي شيئا؟ - لا يا ولدي؛ لأن مدة إقامتي مع والدتك كانت قصيرة جدا، غير أني أذكر لك أنها كانت جميلة الطلعة، باسمة الوجه، كريمة الأخلاق، عربية العنصر. ولما كان والدك مقيما بالإسكندرية حصل هبوط عظيم في أسعار القطن، وكان عند أبيك منه كثير؛ فخسر جميع ثروته وأملاكه، ولكن لثقة التجار به وحبهم له ساعدوه، وصار يشتغل معهم بدون رأس مال، ولما بيعت بيوتكم في الإسكندرية أخلى له سعادة البك - والد سكينة - محلا من منزله بدون أجرة؛ لأنه كان يحب أباك حبا لم أر مثله بين الأشقاء. - إذن هذا ليس منزلنا.
لا يا ولدي، ليس لكم فيه شيء، وقد أوصاني والدك أن أقول لك أن تسعى بنفسك وراء معيشتك، وقد رباك أحسن تربية، واعلم أنه لم يترك لك إلا مبلغا زهيدا كان يوفره بعد مصاريفه من دخله القليل، وقد أعطاني وصية كتبها بخطه في أول مرضه وها هي، وإنما أسألك أن تسمح لي أنا وخادمك أن نفارق هذا المنزل فما عاد لنا فيه بقاء، ويعلم الله أنني لو كنت أقدر أن أعيش معك دون أن أسعى وراء معيشتي ما تركتك قط، وخذ هذه الوصية.
فلما سمعت هذا الكلام وقع على قلبي موقع السهام، فخاطبتها: بودي أن أكون قادرا فتقيمين معي، وأما الآن فاذهبي إلى حيث شئت، ولا تنسي أياما قضيتها في منزلنا.
ثم سلمت علي ودعت لي بالنجاح، وتركتني وحيدا، والدنيا مظلمة في وجهي، والدموع تتناثر على خدي، وقد كنت أظن أن والدي ترك لي ثروة أستعين بها على إتمام دراستي، ولكن جاء الأمر بضد ما تمنيت. وبعد أن مكثت ساعة تائها لا أفقه ولا أعي خطر ببالي أن أقرأ الوصية؛ لعلي أجد فيها ما يخفف المصائب، ففتحتها ويدي ترجف وفؤادي يخفق، ولما وقعت عيني على خط والدي هطلت دموعي فخفت أن تمحى الكتابة فطويت الوصية حتى مسحت عيني، وفتحتها ثانية فرأيت فيها بالحرف الواحد:
ولدي الوحيد وحشاشة كبدي
ستقرأ هذه الوصية وأنا في عالم آخر لا ينفعني فيه إلا عملي وسيرتي التي أبقيتها ولعلها حسنة، واعلم يا ولدي أني كنت وحيدا في حياتي بلا أب ولا أم ولا عم ولا خال، قضى على الكل أمر لا مرد له، وهذه الدنيا لا تدوم على أحد ، فلم تدم عليهم ولم تدم علي، ولن تدوم عليك ولا على غيرك، فاسمع يا ولدي فيما فيه النفع للبلاد والعباد، وساعد الفقراء والمساكين، واتخذ لك طريقا شريفا تسلكه في هذا العالم، واسع لمعيشتك من أشرف الطرق، واختر العفة مع الفقر. واعلم أن الغاية لن تبرر الواسطة كما يزعم بعضهم، إلا في قليل من النوادر التي لا يقاس عليها. وكن رجلا ذا محبة وشفقة لأبناء جلدتك، وإذا ساعدك الزمان وارتقيت في أمتك فاجعل نصب عينيك خدمة بلادك. ولا يغرنك ما غر غيرك من نعيم الدنيا فكل شيء يزول، ولا يزول اسم رافع عماد أمته ومشيد ركن دولته.
وما المرء حيث يقضي حياته
لنفع بلاد قد تربى بخيرها
وأنصحك أن لا ترغب في خدمة الحكومة فإنها بئست المعيشة، حيث أصبح فيها المرء آلة صماء. وأملي أن تكون رجلا عاملا في الهيئة الاجتماعية. واجعل لك ما استطعت كثيرا من الأصدقاء وقلل ما استطعت من الأعداء؛ فالدهر دوار لا تؤمن غوائله. ولا تتعلقن بأسباب الحياة الدنيا؛ فإن ذلك مجلبة للجبن. ولا يبعثنك طلب الرفعة والمعيشة على خيانة بلادك، بل عش فقيرا لا تملك إلا قوت يومك، وذلك أمر ميسور في بلادك، مع حفظك الناموس شرفك وشرف أهلك وأمتك؛ فإن الأمة تشقى وتسعد بأفراد قلائل. ولا تستصغرن نفسك عن الإتيان بعمل يفيد بلادك؛ فإنك مدان بخدمتها كما يدان بها الأمير والوزير والكبير والصغير والغني والفقر. واعرف لنفسك حقها، فليس بمكرمها غيرك إذا لم تكرمها أنت. واعلم أن الناس في العالم سواء، أبوهم آدم والأم حواء، إنما يمتازون بأفعالهم، فما دمت سالكا سبيل السداد متبعا قوانين البلاد فلا تتذلل لأجنبي، ولا تتواضع لوطني إلا بما يفرضه عليك دينك وواجبك. وقم في أمتك حاثا على التربية وانتشار العلوم والفضائل وحب الحرية؛ فسعادة الإنسان دائما مرتبطة بسعادة بلاده. وهل تهنأ إذا كنت تنام على الحرير وتلبس الخز والديباج وتأكل أشهى المطاعم ومن حولك يتضورون جوعا حفاة عراة، الأرض فراشهم والسماء غطاؤهم؟ أظن ذلك لا يرضي البهيم فضلا عن الإنسان الممتاز بالعقل واللسان. وإياك ومعاشرة السفهاء؛ فالطبع كالماء يمتزج مالحه بعذبه. ولا تنكب على الملاهي؛ فإنها مفسدة لروح الشرف.
وكن على الدهر معوانا لذي أمل
يرجو نداك فإن الحر معوان
وشاور من هو أكبر منك سنا وأكثر منك تجربة. ولا تترك دراستك وبحثك بمجرد خروجك من المدرسة، بل خصص لنفسك وقتا تتعلم فيه القليل وداوم عليه، وإياك والإهمال! وأختصر على هذا؛ لما أعهده فيك من الفطنة والذكاء.
والآن أخبرك بأمر وهو أني لما ذهبت في سنة 1295 هجرية إلى بلاد الحجاز لقضاء فريضة الحج كانت معي والدتك، وقد تركناك وأنت صغير السن مع مرضعتك، وكانت والدتك حاملا فوضعت في مكة المشرفة غلاما سميناه شريفا، ولكن جاء القدر المحتوم وتوفيت والدتك عقب الولادة من كثرة نزيف الدم وعدم موافقة الطقس، رحمها الله رحمة واسعة!
ولما كان شريف طفلا وليس معي من النساء من تتكفل به، تركته عند امرأة مكية وأعطيتها مبلغا من المال، وأوصيتها أن تكتب لي عنه، فمضت مدة ولم تكتب لي، فلما أعيتني الحيل كلفت أحد الحجاج المصريين بالبحث عنها، فأخبر أنها توفيت فسأل عن الولد المودع عندها فلم يستدل عليه.
فإذا ساعدك الزمان فلا تضيع فرصة يمكنك الوصول فيها إلى شقيقك؛ لأنك وحيد في هذا العالم، و«من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح»، وإذا سمح الدهر وتقابلت معه فاعرفه بخال على خده الأيمن، ولا تنس أن تبلغه سلامي الأخير، وبث فيه الفضائل. وهذه وصيتي، والسلام عليك إلى يوم القيامة.
والدك
فما جئت على آخرها إلا ويدي ترتجف وقلبي يخفق ودموعي تنهمل، حتى إنني كنت أضطر إلى مسح الدموع التي كانت تغشي عيني فتمنعني عن القراءة، ولا إخال القارئ ألا يعرف حرج مركزي؛ شاب، لم يتجاوز العشرين من عمره، وقف في مزدحم العالم الإنساني، فقيرا لا يملك إلا مبلغا زهيدا لا يكفيه أكثر من سنة، يتيما لا أب له ولا أم ولا عم ولا خال غير أخ لا يعرف إن كان حيا أو انقضى أجله، وإن كان حيا فالوصول إليه يكلف العناء والفقر وربما فقد الحياة، ومحبا لغادة حسناء عرف درجته بالنسبة لها، وهيهات ثم ألف هيهات أن يحصل عليها، فأظلمت الدنيا في وجهي، وضاقت علي المسالك، وتصورت الدنيا أضيق من سم الخياط، واعتراني اليأس وجلست صامتا والوصية في يدي، وأنا ملقى بجانب الأشجار، ولبثت على تلك الحال مدة من النهار تمنيت فيها الموت بدل الحياة المحفوفة بالمصائب والمخاطر، فغلب علي النعاس فانطرحت على الأرض لا أفقه ولا أعي، وصرت أحلم تارة أني أرى شقيقي أمامي جميل الطلعة، وتارة أرى أني أقتل نفسي وأودع سكينة، وتارة أرى والدي كما كان في الحياة يلاطفني ويسألني عن دروسي. وما استيقظت إلا ويد ناعمة لطيفة وضعت على خدي، ففتحت عيني ورأيت سكينة جالسة بجانبي وهي في ملابس سوداء، تشرق كالقمر الساطع في ليلة دهماء، وعيناها مغرورقتان بالدموع حين رأتني بتلك الحالة والوصية مطروحة على الأرض، ولما رأيتها لم أتمالك من البكاء فأخذت تلاطفني ملاطفة الأم ابنها الرضيع وأنا أبكي بكاء الطفل وهي تبكي بحرقة، وما زلنا على مثل ذلك الحال إلى أن روينا من دموعنا الأزهار والأشجار ونحن صامتان لا حراك بنا، حتى ذهب النهار بنوره وسطع القمر من بين الأشجار، وأنه لم يظهر على منظر أكثر حزنا من منظرنا، والعيون متقرحة من البكاء والخدود بها من سيل الدموع أخاديد، كل ذلك ولا كلام غير صفير النسيم وحفيف الأوراق. وابتدأ الهواء البارد يهفو بجانب وجناتنا التي كانت تلتهب نارا، وازداد البرد حيث كان الفصل شتاء، فقالت سكينة: يا حبيبي، هلم بنا إلى المنزل لأن البرد قارس، وأظن والدي ينتظرنا على أحر من الجمر.
فأجبتها والدموع منهملة: والدك ينتظرك، ومن ينتظرني؟
وما كدت أنطق بهذه العبارة حتى خنقتني العبرات وهملت الدموع وصرت أبكي كما يبكي الرضيع، فبكت سكينة معي، والقمر شاخص لنا، وقد خيل لي أنه شاحب اللون كأنما هو يشاركنا في أحزاننا. وبعد زمن ليس بقليل قالت: كفانا بكاء، قم معي بحياة حبي لك فإن فؤادي يتفطر من هذا المنظر، وأخاف عليك من شدة الحزن. - لا تخافي علي، لو كنت تحبينني فإن راحتي في مماتي، والحبيب يحب لحبيبه الراحة بأية طريقة فساعديني على الموت. - ما هذا الكلام؟! هل أنت يا حبيبي أول الشبان الذين مات آباؤهم؟! - ولكني أول الشبان الذين ضاقت بهم الدنيا، وأحدقت بهم المصائب من كل جانب. - دع هذا الجزع، ولسوف تنسى كل شيء فإن في حبنا سعادة. - ليس هذا وقت الكلام يا سكينة؛ فالبرد قارس وأبوك في انتظارك على أحر من الجمر، فقومي إليه مصحوبة بالسلامة ودعيني وشأني أقلب أمري، ولي رب يرحمني ويشفق علي. - أنت تجرح فؤادي بهذه الأقوال، ألم يكفنا ما نحن فيه؟! - ولم أجرح فؤادك، أنت سعيدة وأنا تعيس، قضى الله ذلك ولا مرد لحكمه. - إذا كنت سعيدا فأنا سعيدة، وإن كنت تعيسا فأنا تعيسة؛ فسعادتنا وتعاستنا مرتبطتان. - قد كان ذلك فيما مضى، واليوم لا. - وماذا جرى اليوم؟ هل موت والدك يجعل بيننا فرقا ويمنع حبنا؟ - موت والدك يمنع حبك ولا يمنع حبي. - لا أفهم قصدك، فأنا ما زلت أحبك. - سوف تفهمين وسوف تعلمين حين تتزوجين بأمثالك السعداء، وكأن ما بيننا لم يكن شيئا مذكورا.
وما أتممت عبارتي حتى رأينا شبحا قادما فتحققناه فعلمنا أنه والدها يبحث علينا في الحديقة، ولما وقع نظره علينا قال: أنتما هنا ونحن في انتظاركما من زمن؟! وقد أرسلت الخدم في الحدائق المجاورة للبحث عنكما، ومن قلقي أخذت أتمشى في الحديقة فعثرت بالصدفة عليكما، فكيف تجلسان هنا والبرد قارس؟!
فأجبته: لك الشكر على اعتنائك بي، ولكن البرد لم يؤثر علي؛ فإن في القلب من المصائب نيرانا لا تطفأ. - ظننتك تركت الأحزان التي هي من شأن النساء، قم يا ولدي ودع هذه الأفكار.
ثم مسكني من يدي وسار بي إلى المنزل وسكينة بجانبه، فقال لها: لم لم تأت به إلى المنزل؟
فقالت: أبى الذهاب وفضل البقاء في الحديقة. - هلا أتيتني وأخبرتني! - كنت على وشك الذهاب إليك لما أصر على البقاء.
ثم قال لي: أظنك لم تأكل شيئا في نهارك ؛ فقد سألت عنك فقيل إنه خرج من الصباح ولم يعد. - الأكل وعدمه سيان عندي. - عهدي بك صبورا عاقلا، وكلنا مات آباؤنا ونحن مثلك.
وما زال يلاطفني حتى وصلنا إلى المنزل وجيء بالأكل، ولولا إلزامه إياي بالأكل ما أكلت، ثم أمرني أن أذهب للنوم فذهبت، ولكن:
متى يغفل المسكين والجمر تحته
وجيش الرزايا والهموم يحاربه؟
الفصل الخامس
دع اليأس والأحزان فالعمر واحد
وما كان مقدورا فسوف تقابله
إذا كنت في مصر تنال صروفه
ففي غيرها لا شك أنك نائله
وأدرى الورى من عاند الدهر قصده
موت مذاقا بالخطوب مناهله
وأودع في نار التجارب مدة
وأثقل من حمل المصائب كاهله
وما المرء إلا حيث يسعى لرفعة
فتبقي له ذكرا جميلا فعائله
لعمري لم ترسل الشمس أشعتها الذهبية على سرير نائم أكثر مني حزنا وأكسر مني قلبا وأتعس مني عيشا وأشغل مني فكرا، مرت تلك الليلة لم يزر فيها النوم جفني وأنا أتفكر في وصية والدي وحالة شقيقي وكيفية الوصول إليه والحصول عليه، فصرت أضرب أخماسا لأسداس وأتصور أني في مكة أبحث عن شقيقي شريف، وتارة أتصور أني لم أعثر عليه، وتارة أتصور قبره أمامي، وتارة أتصور أن عرب الحجاز تفتك بي ... إلى غير ذلك من الوساوس، حتى فتح باب الغرفة ودخلت سكينة، فلما رأتني مستيقظا قالت: أنت مستيقظ، وأنا لم أرد أن أدخل عليك خوف إيقاظك بعد سهرك في الحديقة؟! - شكرا لك، وهل تظنيني أنام؟
فقالت: ألم تنم أمس؟ فقلت: وهل أنا مثلك أنام الليل؟ شتان بين من أثقلت الهموم كاهله وبين خلي يحلم بالسعادة طول ليله. - إذا استمررت معي على هذه المعاملة فإني أموت ولا شك. - لا تموتي، فسوف أمنع عنك هذه المعاملة بذهابي من بيتكم فما عاد لي عيش فيه، ولكم الشكر على ما أسديتم إلى والدي وإلي من المكارم. - وكفى بالله، لا أقدر أن أسمع هذا الكلام. - ستسمعينه يا سكينة بالرغم عنك وبالرغم عني.
فبكت ولم تتكلم مطلقا، ولكن قمت فلبست ملابسي ووضعت وصية والدي في جيبي، وسألتها عن محل والدها فقالت: إنه في انتظارك لتفطر معه. فخرجت وخرجت معي إلى حيث يجلس والدها، فلما رآني متغير الوجه قال: إنك لم تنم إلا قليلا يا فريد.
فقلت له: لا قليلا ولا كثيرا. فقال: ولم هذا الحزن يا ولدي الذي تراكم عليك أمس، وما سببه؟
فقلت: ليسمع لي سيدي كلمة واحدة، لقد أحسنت لوالدي في حياته وفي مماته باعتنائك بأمر ولده الحقير، ولك ولابنتك الشكر والفضل، وحيث إني غريب عنكم وليس لي عندكم ما يجعلني أقيم بينكم، فاسمح لي بالذهاب أقابل العواصف الدنيوية بصدر تربى على الثبات وفعل المروءة، جزاك الله عن الإنسانية خيرا. - هذا كلام لا يسمع، نعم إن والدك توفي وليس لك أقارب ولا ثروة تقوم بتعليمك، ولكني أبوك وسكينة أختك وأمها أمك وهذا البيت بيتك لك ما لنا وعليك ما علينا. واعلم أنني عازم على إرسالك إلى المدرسة التوفيقية لتتميم دراستك، لكي تحوز شهادة الدراسة الثانوية وإما أن تستخدم في الحكومة أو تذهب إلى مدرسة عليا، وكل مصاريفك من مالي فإنني مهما عملت معك لا أؤدي الجميل الذي قام به والدك نحوي أيام كان أول تاجر بالإسكندرية والفضل للمتقدم، ولذلك فإني لا أدعك تذهب. - على أي حال فإن لساني يعجز عن شكرك، غير أني لا أقبل أن يصرف علي من مال أحد غير والدي، وقد أوصاني أن أتخذ طريقا في العالم وأن أقوم بلوازم نفسي؛ فلا أخالف له وصية ولا أرضى أن أعيش إلا على ما أحصل عليه من عرق جبيني، وأنا عارف أنك تحب أن تصرف على تربيتي فإنك مشهور بحبك للتربية، وكم صرفت وكم تصرف من المبالغ على تربية أولاد الفقراء حبا في بلادك! أما أنا فقد تعلمت ما يكفيني لأن أعيش عيشة شريفة مع القيام بواجبات وطني وأمتي. - إذا لم تشأ أن تذهب إلى المدرسة فإني أبحث لك عن مركز في الحكومة بواسطة إخواني. - عزمت إن شاء الله على أن لا أطرق للحكومة بابا. - إذن علام عولت يا ولدي؟ - على السعي وراء معيشتي، والله وليي وعليه أتوكل.
فلما سمعت سكينة إصراري على الذهاب من عندهم، خرجت من عندنا وأنا أرى الدموع تتناثر من نرجس عينيها كقطرات الندى على الورد، فسألها والدها عن سبب خروجها فلم تجبه بل خرجت صامتة، فالتفت إلي وقال: ألا ترجع عن عزمك؟ وأين تذهب؟ - لا أرجع عن عزمي لأني مسافر إلى بلاد الحجاز في أول مركب تسافر من السويس. - مسافر إلى الحجاز! ما هذا الكلام يا ولدي؟! ولم تسافر؟! لا بد من سبب. - نعم.
وقصصت عليه أمر شقيقي كما هو مذكور في الوصية، وأني عازم على البحث عليه لكي يكون لي وأكون له عضدا وساعدا مساعدا. فلما سمع ذلك أطرق برأسه مدة من الزمن ثم رفع رأسه وقال: لا تذهب، وأنا أكلف مأمور الصرة الذي يذهب مع المحمل الشريف في هذه السنة أن يبحث على شقيقك، فربما يكون قد توفي، وكيف تذهب إلى هذه البلاد والإنسان لا يأمن فيها على حياته؟ فقلت له: إن حياتي لا تهمني، بل يهمني شخص ليس لي من الدنيا سواه، فإن حصلت عليه كان المراد، وإلا أكون قد قمت بالواجب علي، وإن مت أموت شهيد الشرف والمروءة.
فقال: تعجبني شهامتك وحسن مبدئك، ولكن دون مرادك خرط القتاد. - الصبر والثبات يذللان صعاب الأعمال، فلا بد من سفري وعلى الله الاتكال.
وما زال يعارضني وأعارضه حتى لان ووعدني بالمساعدة من مال وغيره، كل ذلك صار وسكينة واقفة على الباب تبكي وتنتحب، فلما سمعت تصريح والدها دخلت علينا وهي باكية، فقال لها والدها: ما لك يا سكينة؟ فقالت: بالله عليك يا والدي لا تصرح له بالذهاب؛ فإنني تربيت معه ولا قدرة لي على فراقه.
ثم جاءت والدتها فأعلمتها بالخبر فشددت علي بالبقاء، وأخذ الجميع يرجونني في تغيير عزمي فلم أغير فكري، فلما رأوا إصراري سكتوا جميعا، وعند ذلك قال البك: «إذا كان ولا بد من سفرك، فلا بد من ذهابي إلى الإسكندرية لأستعلم لك عن أوقات قيام البواخر وكيفية السفر؛ لتكون على بينة من أمرك، وآمل أنك إذا سافرت تعود في أقرب وقت، وأسأل الله أن يسهل لك السبيل وتعثر على شقيقك الوحيد. ثم قام للسفر.
أما أنا فبقيت مع سكينة ووالدتها مدة طويلة، تتكلم عن السفر وكيفيته وما يتبع ذلك من الكلام، وسكينة لا تتكلم، ولما طال الوقت هممت بالخروج إلى الحديقة، فسألتني سكينة عن مقصدي فقلت لها: إلى الحديقة، فقالت والدمع يغلب قولها: ألا تحب أن أكون معك لكي أتمتع برؤيتك قبل السفر؟ - ذلك ما أتمناه، إنما أرجوك بحق تربيتنا معا أن لا تستعملي رسول هواك في منعي عن السفر، فقد كفانا معارضة. - أنا لا يمكنني؛ لأن رسول غرامي ليس له تأثير عليك الآن، وإلا لكنت قبلت نصيحة والدي وبقيت معنا.
وفي أثناء الكلام وصلنا إلى الحديقة، ولما كنا نمر على محلات لعبنا ونحن طفلان، أو على محلات جلوسنا ونحن عاشقان ندير كئوس الغرام كنا نتنهد سوية، حتى وصلنا إلى مقعد هناك تحت شجرة كنا نألفها حتى لقد سميناه «ملتقى الأحباب»، ولما استوى بنا الجلوس قالت: يا فريد، أتذكر الأيام التي قضيناها تحت هذه الشجرة؟ - تسأليني؟ وهل أنسى أيام هنائي وسروري؟ ألا تعلمين أن أيام الصفاء هي كروضة يانعة زاهرة في صحراء الذاكرة؟ ومن العادة أن الأمور بضدها تعرف، ولكن سوف تنسين ذلك، تنسينني حينما تتزوجين برجل من درجتك في الثروة والمقام. - طالما قلت لك: إنك تجرح فؤادي بهذه الأقوال، وهل أتزوج بغيرك ولو ذقت المنون؟ - لا تتزوجين بغيري! ولم؟ هل تظنينني أتكدر؟ لا وأبيك، إن سعادتي هي سعادتك، فمتى كنت سعيدة ذات بعل يستحقك وأولاد متعلمين مهذبين فإني سعيد، وإنما لي نصيحة أحب أن تسمعيها فإذا عملت بها فإن فؤادي ولو على بعد منك يهنأ ويسعد. - وما هذه النصيحة يا فريد؟ - أحب أن لا تتزوجي إلا من كان متعلما مهذبا، يعرف الواجب نحو امرأته وعائلته.
فأرادت أن تقاطعني الكلام، فقلت لها: «تأني يا سكينة، إن ما أقوله لك صادر عن فؤاد مملوء بحبك.»
وإذا رزقت معه بأولاد، فبثي فيهم روح الفضائل من الصغر، ورأس الفضائل الدين وحب الوطن. وإذا مت غريبا عن بلادي فاذكريني لأولادك.
فبكت حين سمعت ذلك، فقلت لها وفؤادي يكاد ينفطر من الحزن: «لا تظني أن كلامي صادر عن جفاء أو عدم محبة، لا، فإنني أحبك حبا لا مزيد عليه، كنت أحبك حب خطيبة فصرت أحبك حب شقيقة، فاذكريني ولا تنسيني فإن ذكراك تنعش فؤادي إن حيا، وتسر روحي إن ميتا». - لا سمح الله بذلك! وإني أعاهدك على أن لا أتزوج بغيرك، فإذا عدت سالما كنت زوجي، وإلا فإني أعيش وأموت حافظة عهدك. - هذا الكلام تقولينه الآن كما يقوله أمثالك، نعم إنه صادر من صميم فؤاد، إلا أن طول الزمن يغير ما في الفكر، وهذا أمر أثبتته التجارب وأيدته الحوادث؛ «البعيد عن العين بعيد عن القلب»، وأنا بصفتي أخيك أحب سعادتك فلا تعلقيها على سعادتي فإني براء منها؛ فتكوني كمن يبني قصورا في الهواء.
ثم أخرجت لها من جيبي صورتى، وقلت لها: خذى هذه تذكارا لما كان بيننا، ولا تنسي أيام سرورنا. فقالت: سوف تعلم الأيام أني لا أخون حبك ولا أنقض عهدك ولو نقضته أنت، وسأضع هذه الصورة أمام عيني أتطلع إليها كل ساعة وإن كانت مرسومة في فؤادي، وسأعطيك صورتي قبل سفرك، وأحتمل المصائب في غيابك، وإن كنت تحبني فعد إلي.
وفي هذا الوقت جاء الخادم ودعانا إلى الذهاب لمقابلة البك، فأخذت بيد سكينة إلى أن وصلنا إلى قاعة الجلوس وهناك وجدنا والدها جالسا، فحين رآني أخبرني أنه استعلم عن قيام البواخر من السويس، وعلم أن إحدى بواخر الشركة الخديوية تقلع من المينا الساعة العاشرة صباحا من يوم السبت، وقد اشترى لوازم السفر من جعبة وملابس، ثم أعطاني ريفلفرا وعلمني كيفية استعماله، ووضع لي مبلغا من المال في سقط، وقال لي: «إن هذا المبلغ جميعه قد تركه والدك، وهذا الكتاب - وناولني إياه - هو وصية من أحد كبار المصريين إلى أمير جدة؛ ليوصلك إلى مكة سالما، وهذا كتاب وصية آخر إلى قبودان الباخرة. ومتى وصلت إلى مكة فاجتهد في البحث على شقيقك حتى تعثر عليه، وعندك من المال ما يكفيك سنين، وإذا احتجت لغيره فاكتب إلي وأنا أرسل لك بأية طريقة كانت، وداوم على إرسال الخطابات فإن القليل منها يصلنا، والله خليفتنا عليك.
الفصل السادس
وقائلة لما أردت وداعها
حبيبي أحقا أنت بالبين فاجعي؟!
فيا رب لا يصدق حديث سمعته
لقد راع قلبي ما جرى في مسامعي
وقامت وراء الستر تبكي حزينة
وقد نقبته بيننا بالأصابع
تسلم باليمنى علي إشارة
وتمسح باليسرى مجاري المدامع
كان ميعاد قيام الباخرة الخديوية يوم السبت فعزمت على السفر من الرمل يوم الخميس، ثم أرسلت كتابا إلى صديقي في المدرسة، الذي أرسل إلي تلغرافا يعزيني في والدي وكتابا يسألني فيه عما إذا كنت عازما على الرجوع إلى المدرسة، وكتبت له أن ينتظرني يوم الخميس بمصر حيث إنني عزمت على المبيت فيها ليلة الجمعة ومبارحتها إلى السويس في الصباح. فلما كان يوم الأربعاء صباحا جاءني منه كتاب يسألني في السفر إلى مصر يوم الأربعاء ليمضي معي يومين بدل يوم واحد، فشاورت سكينة في ذلك - ولعمري ولقد رأيتها بعيني وهي تذبل كالوردة المقطوعة من فرعها - فقالت: أتفضل إخوانك علينا؟ ألم يكفني سفرك القريب حتى تحرمني من يوم أتمتع فيه برؤيتك؟ فيا حبيبي، إننا أحوج إلى دقيقة بل ثانية نتمتع فيها بمرأى بعضنا، ولا تعجل الفراق.
والهم يأتي لا تعجل قربه
فلنشرب المعسول قبل الصاب
فأجبتها: «يا سكينة، بالرغم عني أن أبعد عنك لحظة واحدة، ولكن ما قدر لا بد من وقوعه، فإن لم أسافر اليوم فسأسافر غدا»، وما انتهيت من عبارتي حتى أخرجت صندوقا صغيرا وأعطتني منه صورة حسناء، قائلة: «خذ هذه ولا تنس صاحبتها»، فتأملت الصورة، فرأيت محاسنها تكاد تتكلم عن جمالها الفتان، ثم أعطتني منديلا مطرزا بيدها منقوشا عليه اسمي واسمها، فطويت الصورة فيه ووضعتها في جيبي، ثم أخذت بيدها وسرنا إلى الحديقة نمر على محال جلوسنا ومرتع أنسنا التي قضينا فيها ساعات طوالا، نتناشد أحاديث الغرام، وندير كئوس الهوى، وكلما مررنا على محل تتناثر الدموع وتخفق القلوب وتلتهب نار الصدور، وعلى مثل تلك الحال ذهب النهار بنوره وجاء الليل بظلامه وخيالاته، ولقد قضينا ردحا من الليل ونحن جلوس في الحديقة، لا رقيب سوى القمر الساطع ولا نمام سوى النسيم العليل، نتذاكر الماضي بأسف زائد، وننظر إلى المستقبل بفؤاد واجف، حتى شعرنا بالبرد فتركنا الحديقة وذهبنا إلى المنزل وذهب كل منا إلى حجرة نومه، فلم يكن من نصيبي إلا السهاد وأنا أفكر في السفر، وطال الليل حتى خلت الصباح ليس بآت، ولسان حالي يقول:
يا ليل طل أو لا تطل
لا بد لي أن أسهرك
ثم غفلت عيني قرب الصباح ولم أستيقظ إلا وسكينة بجانبي، فسألتني عن نومي فقلت لها: «إني لم أنم إلا قرب الصباح»، فقالت: «أنا لم أنم أبدا». وبعد أن لبست ملابس السفر أمرت الخادم بالذهاب إلى المحطة قبل الميعاد، ثم جاء والد سكينة وقدم لي كيسا مملوءا من النقود الذهبية وحزمني بالحزام المملوء من الذهب، وبعد ذلك قال لي: أنا ذاهب إلى المحطة، فلا تتأخر بعد أن تودع من في المنزل.
فلما خلت بنا الحجرة قبلت سكينة في جبهتها لأول مرة ولآخر مرة في حياتي، وودعتها الوداع الأخير ما بين زفرات تتصعد ودموع تتحدر، فكان المنظر يذيب القلوب ويفتت الأكباد، وكلما هممت بالخروج تمسكني وتتوسل إلي أن أتأخر ريثما تطفئ بعض أشواقها فخفت أن يفوتني القطار، فقلت لها: صبرا يا سكينة صبرا.
يود الفتى في العيش نيل مراده
ولكنها الأيام في حكمها تجري
فيا من هواها لا يغيره النوى
أعدي لبعدي ما استطعت من الصبر
فقالت ولآلئ الدموع تتناثر على خدها:
وهل صبر لبعدك يا حبيب
ولوعات الغرام لها لهيب؟!
ولم نزل على هذه الحال، أنا أهم بالخروج وهي تمنعني، حتى جاء الخادم قائلا: هلم بسرعة؛ فلم يبق على القطار إلا عشر دقائق.
فلما سمعت كلماته ودعتها الوداع الأخير، وخرجت كالسهم لا أعي ولا أسمع ما تقول، فوصلت إلى المحطة والدموع ملء عيني وأنا أتذكر أيام صباي في تلك البقعة وأني راحل عنها في مثل ما تزيد الحسرة ويولد الأكدار. وبالاختصار، ركبت القطار مع والد سكينة حتى محطة سيدي جابر، وفارقته عند سير القطار الذاهب إلى مصر بعد أن زودني بنصائحه المفيدة. ولما خلوت بالعربة وتذكرت أول مرة سافرت إلى المدرسة ومعي المرحوم والدي هملت الدموع من عيني، والتفت إلى الرمل والقطار ينهب الأرض نهبا، وخاطبت تلك البقعة الزاهية الزاهرة:
عليك سلام الله أيها الموطن العزيز السعيد، موطن صباي ومرتع شبيبتي، ليت شعري أيسمح الزمان بالعودة إلى شقيقي الوحيد أم يضن بهذه الأمنية؟ آه، ما كان أسعدني حين كنت طفلا صغيرا! ألا ليتني لم أكبر وليت الزمان لم يتحول:
يا رجاء نأي مكانا قصيا
وهناء ما عشت فيه مليا
لهف ذاك الرجاء قد كان نبتا
قد سقته مدافع العين ريا
هصرته يد القضاء وأذوت
ذلك الغصن حين كان طريا
أف لدهر لم يصف يوما إلا تكدر في الثاني، دهر شأنه الغدر بكل حر! وأنت يا حبيبة الروح، لا تنسي أياما قضيناها في هذه الربوع، واذكريني فإن ذكرك يخفف بلواي على بعد الديار وشط المزار، إن قلبي ليتفطر حينما أرى نفسي مبعدة عن ديار تمتعت بهوائها وربيت بخيرها وحظيت فيها بأويقات السرور، إلى ديار لا أعرف فيها إنسانا.
وما زلت غارقا في بحار هذه الأفكار حتى وصل القطار إلى محطة مصر، فوجدت صديقي مع بعض التلامذة في انتظاري، وبعد التسليم والتعزية شكرتهم على حسن تعطفاتهم، وركبنا عربة ولم أشأ أن أذهب إلى نزل كديفيال فإنه يجدد أحزاني، بل أمرت السائق بالذهاب إلى نزل آخر. ولما وصلنا جميعا واستوى بنا الجلوس في إحدى غرف النزل، سألني صديقي عن عزمي، فأخبرته بالأمر من أوله إلى آخره، فلما سمعوا قصتي أسفوا لفراقي، وقال أحدهم: «بودي لو أتمكن من مساعدتك بأية طريقة كانت، وكنت أحب أن تتمم معنا دراستك، ولا شك أن أساتذتك يتكدرون لفراقك لما كانوا يعهدونه فيك من الاجتهاد، ويأملونه منك لخدمة البلاد»، فأجبته: «إني أشكرك يا صديقي على مثل هذه العواطف الشريفة، وأشاركك في الأسف لفراق وطن ربيت فيه وتمتعت بهوائه وأظلتني سماؤه، وإن قلبي ليقابل الخطر المحدق بي بكل ثبات وعزيمة، عالما بأن ما كان سوف يكون، ولكنما يزيد أسفي فراق الذين أحبهم ويحبونني من الإخوان والأصدقاء، ولعدم تمكني من خدمة بلادي معكم في مثل هذا الوقت، وأنا معيد عليكم ما سمعته من البك ...، صديق والدي، فقد قال لي: «إن تقدم بلادكم مرتبط بكم، وأنتم زهرة مصر فانشروا رائحتها الزكية، يشمها الداني والقاصي، ولا تتكاسلوا أو تتهاونوا في أمرها استخفافا بأنفسكم أو استصغارا لقدركم، ولا إخالكم إلا تعرفون عن شبان أوروبا ما أعرفه وزيادة. وليكن في علمكم أن تأخر بلادكم تسألون عنه كما يسأل أكبر الكبراء وأثرى الأغنياء وأفقر الفقراء والقوي والضعيف؛ فكونوا في أمتكم بمثابة الخطباء المذكرين بمجد أجدادهم، حاثين على اتباع الفضائل ونفي الرذائل، وبذلك تقوى عصبيتكم وتجدون من أهل بلادكم من ينشطكم على أعمالكم، فأنتم أحوج إلى التعاون والتضافر منه إلى الشقاق والتنافر، «ولا تفرقوا فتذهب ريحكم»، ودونكم تاريخ الأندلس وكيف تفرقوا شذر مذر، كأن القوم ما كانوا حين انقسموا طوائف طوائف ودبت فيهم روح حب الرئاسة، وتركوا الدين وراء ظهورهم ففتك بهم الغير بما تشق له المرائر وتتفتت له الأكبدة، كما قال شاعرهم يمثل حالهم:
فطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت
كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة
والعين باكية والقلب حزنان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
وهذا مثل تتمثلون به، وتلقنونه لأخدانكم وأولادكم، وانظروا إلى كتب الفرنسويين الابتدائية كيف أنهم يكتبون أول جملة فيها: «الألزاس واللورين أخذتها ألمانيا. يجب على كل فرنسوي أن يردها إلى بلاده»، ومثل ذلك من العبارات الوطنية؛ ليغرسوا في قلوب الناشئين حب بلادهم والسعي وراء استعادة ما أخذ من حقوقهم. وانظروا إلى الأمم التي نجحت في رفع شأنها، ولا تستبعدوا الطريق فمن جد وجد ومن سار على الدرب وصل.» ولقد نبه فكري إلى أشياء كثيرة بعباراته الرقيقة، فلا حرم منه الوطن ولا حرمت منه الإقامة. فقال صديقي: أما أنا فكما تعهدني لا أدع فرصة تمر علي دون أن أنشط إخواني وأحثهم على اتباع طرق الفضيلة، ويسوءني أن أرى بعض أولاد الأغنياء منكبين على الملاهي، عاكفين على الملذات البهيمية، طارحين العمل وراء ظهورهم، غير ذاكرين واجب بلادهم، وذلك نتيجة عدم بث روح الكمال وحب الفضائل فيهم من الصغر، ولكن الحال أحسن من ذي قبل، والشبان في دور يبعث على الأمل في النجاح، وفقنا الله لما فيه الخير والفلاح! ولكن إذا كنت مسافرا غدا فلا بد من الذهاب إلى المحافظة لأجل الحصول على جواز السفر، وإني أتشرف بالقيام بهذه الخدمة فإن لي في المحافظة قريبا يساعدني. - إني أشكرك يا صديقي، فإني حصلت على جواز السفر من الإسكندرية. - وكتبك التي بالمدرسة لمن تتركها؟ - خذها ووزعها على إخواني وأصدقائي، واكتب على كل كتاب «هدية من فلان إلى صديقه فلان»، واكتب تحت ذلك «حب الوطن من الإيمان».
فقال أحد الحاضرين: «حيث أبقيت لنا تذكارا يدل على شرف مبدئك، فأرجوك أن تأخذ مني صورتي دليلا على ودادي»، فقال صديقي: «وأنا كذلك»، فشكرتهم جميعا على حسن تعطفاتهم، وأخذت صورتيهما. ثم أشاروا علي بزيارة المدرسة قبل السفر فوافقتهم وإن كان ذلك يجدد الأحزان. وبعد أن وصلنا إلى هناك وكان قبل الغروب بساعة، قابلني بقية التلامذة، وعزوني على موت والدي، ومثلهم حضرات الضباط الكرام، ثم درت في أنحاء المدرسة حتى وصلت إلى شجرتي المحبوبة التي كنت أمضي أغلب أوقاتي ليلا تحتها، وهي بجوار السور الغربي المحيط بسكن الناظر المفضال، ولما وقفت تحتها ذرفت دمعة، لم أشعر لها إلا وهي تسيل على خدي، فأسرعت بالمنديل لمسحها، فلمح ذلك صديقي، ومسك يدي قائلا: «الصبر». ثم تركنا ذلك المكان الذي يجدد الأحزان، وسرنا إلى محل المذاكرة، فلما وصلت إلى محل جلوسي قعدت قليلا متفكرا فيما جرى وفيما سيجري، وفتحت الدرج فوجدت مكتوبا على ظهره:
إذا تذكرت أيامي التي سلفت
أقول بالله يا أيامنا عودي
وعلمت أن كاتبه صديقي، كتبه ليذكرني به، فشكرته على حفظه العهود، ثم سرنا إلى محل النوم، وهناك جلست على سريري الذي أمضيت عليه ليالي عديدة، لا فكر لي غير سكينة. وبعد أن جبنا أطراف المدرسة:
ودعتها ودموع العين تنهمل
والقلب من شدة الأحزان مندمل
والقلب غاب وضل الفكر أجمعه
حتى تخيل أني ساكر ثمل
الفصل السابع
أودع أوطانا ربيت بخيرها
وأتركها مني على غير رغبتي
وليت مسيري كان فيه تقدم
لشأن بلادي أو لرفعة أمتي
وعار على الإنسان يترك قومه
يسيرون خلفا وهو يهنى بعيشة
ما قرب الوقت المعين لقيام الباخرة إلا وقلبي يخفق خفقانا زائدا، وفؤادي يتلهف وعيوني تتزود من البلاد بنظرة، وفكري يجول في إمكان العودة وعدمها. والقارئ لو يشاركني في حالتي وأنا مغادر بلادي العزيزة التي أحبها كما أحب نفسي التي بين جنبي إلى بلاد يقال بتوحش أهلها، وساع وراء مقصد لست متحققا من نجاحه، وتارك ورائي حبيبة تذرف الدموع لبعدي وأذرف الدماء لبعدها؛ فإنه لا شك يشفق علي. كل ذلك كان يتمثل في مخيلتي وأنا على ظهر الباخرة التي بقي على ميعاد قيامها ساعتان، وإذا بأحد سعاة المركب يسأل المسافرين عن شخص اسمه أمين فريد، فلما سمعت اسمي قلت له: «ما تريد منه؟» فقال: «لدي كتاب أحضرته من البوسطة له»، فقلت له: «أنا هو»، فناولني كتابا، نظرت في عنوانه فعرفت أنه خط سكينة، وعلمت أنه مرسل من الرمل، وهاك عنوانه:
السويس
المحترم أمين أفندي فريد، يوجد على ظهر الباخرة الخديوية التي تقلع من المينا الساعة 10 صباحا.
ففضضت ختامه وقرأت:
حبيب فؤادي
حذار من القرطاس عند استلامه
ففيه شواظ من جوى الوجد تلهب
وما كان عمدا وضعها فيه إنما
تنفست جمرا حينما كنت أكتب
أكتب إليك هذا الجواب والدمع يمحو ما أكتبه، ويدي ترجف فلا تقدر على الكتابة، وحالي تسر العدو وتسيء الحبيب، وقد تركتني وأنا في حالة يرثى لها، وقيل لي إنه غشي علي مدة تداركوني فيها بالطبيب، وقد عرفوا مقدار حبي وظهر مستور سر الغرام، وزاد بي الوجد والهيام، فكتبت إليك هذا ولم أعرف كيف أرسله، فتذكرت قيام الباخرة وكتبت عنوانه كما ترى، فإذا وصلك فلا تنس أن تكتب لي رده، واعلم أنني أموت محافظة على ودك، فلا تنس مجروحة الفؤاد.
حبيبتك سكينة
فذهبت توا إلى محل الجلوس، وكتبت لها ما يأتي:
تحمل إليها يا كتاب تحية
من المغرم المسكين والعاشق المضنى
ألا ليت شعري يسمح الدهر باللقا
وأصبح منها قاب قوسين أو أدنى
أكتب إليك هذا وبيني وبين مفارقة وطني ساعة زمانية حيث وصلني جوابك فزاد الوله من جهة وخفف المصائب والأحزان من جهة، فما دمت تحافظين على ودادي وتدومين على عهدي فإن قلبي على البعد يستريح، وتخفف بعض الهموم عن فؤاد الجريح، فإن عدت لمصر كنت سعيدا برؤيتك، وإلا فأذكريني وارحمي شبابك وتزوجي بمن تحبين من الشبان المتحلين بالفضائل والآداب. وفي الختام، أهديك سلاما لا أتعرض لوصفه؛ فإنه يتصور أكثر من أن يوصف، وقبلي لي أيادي والديك، واشكريهما على حسن تعطفاتهما نحو حبيبك.
أمين
وبعد ذلك تذكرت أني لم أعط صديقي صورتي، فأخذت ورقة وكتبت له:
أكتب إليك هذا وأنا على وشك مفارقة أوطاني المحبوبة التي أذكرك بواجبها، وهذه صورتي تذكارا لما كان بيننا من الوداد، فربما تأتي منيتي في تلك البلاد. وسأكتب لك من زمن إلى آخر بما ألاقيه إذا سمحت الفرص. وأسألك أن تهدي وافر تسليماتي إلى أصدقائي جميعا، وعليك ألف سلام من صديقك.
أمين
ثم كتبت على ظهر الصورة هذين البيتين:
تركت روحي لمن أهوى بمصر كما
شاء النوى فاستكانت وهي محصورة
وهذه صورتي سارت إليه لكي
تكون بين يديه الروح والصورة
وبعد كتابة عنواني الجوابين أعطيتهما للساعي وأوصيته بتوصيلهما إلى بوسطة المينا وكافأته على ذلك. وبعد قليل من الزمن أقلعت الباخرة، وسارت تمخر عباب الماء وتتهادي كالعروس على بساط أزرق، بسم الله مجراها ومرساها، وأنا لا أزال واقفا على ظهر المركب أنظر النظرة الأخيرة إلى مصر، والدمع يسيل على خدودي، والناس وقوف بجانبي يشيرون بالمناديل إلى إخوانهم وأقاربهم، وبالطبع لم يكن لي بينهم من يشير بمنديله سوى قلب حبيبتي في باخوص وقلوب بعض إخواني في المدرسة وهم بين أساتذتهم يتلقون الدروس، فإنها كانت كما أظن تخفق ردا على خفقان قلبي، كأنها مناديل تشير لبعضها وتتماوج في الريح. ثم خرجت المركب من الميناء وصارت تبعد عن مصر حتى لم نعد نرى إلا أطراف الأشجار، وبعد قليل اختفى كل شيء عن أعيننا، وحقا لا يعرف الإنسان مقدار محبة الأوطان إلا عند الفراق، ولطالما قرأت عمن ارتحلوا عن أوطانهم وذكروا لواعج البعاد، ولكن بلاغة كلامهم لم تؤثر علي أو تعرفني شغف الإنسان ببلده وحبه لمسقط رأسه بعشر معشار ما شعرت به عندما غاب عن عيني منظر البلاد، فنزلت إلى حجرتي في الدرجة الثانية أبكي بكاء مرا متذكرا والدي وحبيبتي ومربيتي والرمل والمدرسة والتلامذة، وابتدأت أشعر بدوار في رأسي ظننته لحزني ولكن ظهر لي أنه من اهتزاز المركب، حيث لم أركب البحر إلا في قوارب الإسكندرية قصد الفسحة، ثم تقايأت وسقطت مغشيا علي؛ فجيء بالطبيب ووضعوني في الفراش، وغلب علي النعاس فلم أفق إلا في اليوم التالي، فقصدت ظهر المركب بعد تناول الإفطار فوجدت المسافرين في صحة جيدة يتمتعون بهواء البحر النقي، فأخذت في المشي ذهابا وإيابا، وكانت الباخرة مسافرة إلى سواكن ومعرجة على جدة. وبعد أن تمشيت قليلا وعقلي مملوء بالأفكار، جلست على مقعد هناك بجوار رجل يبلغ نحو الأربعين من عمره يظهر عليه أنه هندي الأصل، فلما جلست قال لي: أظن حضرتك مصري الأصل لأنه يظهر عليك. - نعم يا سيدي. - ألم تركب البحر قبل هذه المرة؟ - كنت أركب القوارب الصغيرة للنزهة وأنا في إسكندرية. - هل أنت من سكان الإسكندرية؟ - أي نعم، وإنما نقيم في الرمل. - أهل الإسكندرية عندهم نشاط أكثر من سكان القاهرة، ويحبون البلاد أكثر من غيرهم، ويظهر أن روح الحرية دبت في نفوسهم. - صدقت يا سيدي، وهل كنت في إسكندرية؟ - أي نعم يا ولدي، وإني هندي الأصل، إلا أني أحضر في هذا الوقت إلى مصر لشراء بعض بضائع منها، آخذها إلى مكة لتشتريها الهنود والأفغانيون والجاويون وغيرهم، كما أني أحضر من تلك البلاد ما تشتريه الحجاج المصريون. - وإلى أين تسافر الآن؟ - إلى مكة. - ما أسعدني يا سيدي! فإني مسافر أيضا إلى مكة. - مكة؟! ولم تسافر الآن؟ ولأي سبب؟ هل تقيم هناك حتى موسم الحج؟ - لا، ولكن لي هناك مهمة إذا قضيتها رجعت حالا، وإلا انتظرت لقضاء فريضة الحج الشريف وعدت إلى مصر إذا تحققت من عدم نجاحي. - لولا أنك ذكرت لي أنك مصري لما ظننتك كذلك، ولا إخالك إلا صادقا كما يظهر عليك. وهل يترك مصري مصر ويسافر إلى خارج بلده؟! وكثير منهم لا يعرف سوى الجلوس على القهاوي طول النهار، وفي محال الملاهي في الليل، ولا يعرف أحدهم السفر ولا لذته، بل قد سمعت مع العجب أن شبان القاهرة لا يرون إسكندرية وبالعكس، حتى إنهم لا يعرفون عن بلادهم وآثارها إلا من كتب السياح والمؤرخين والجغرافيين. - صدقت يا سيدي، فذلك من عيوب شباننا، لا يعرفون للمنتديات العلمية فائدة، ولا يقبلون على الجمعيات الأدبية، ولا يعرفون إلا اليسير عن جغرافية بلادهم حتى يضعها الغريب أمام أعينهم، وهذا ما يجعلني أعتقد أن السفر إلى الخارج بالنسبة للشبان المصريين لا يفيد الأمة، فالأولى أنهم يتجولون في بلادهم لا لكي ينظروا الآثار فقط بل لكي يعرفوا القرى وعوائد الفلاح المصري في الوجهين القبلي والبحري؛ ليكونوا على بصيرة من أحوال أمتهم ودرجتها في الهيئة الاجتماعية والعالم المتمدن، ليضعوا أمام أعينهم رفع شأنها بالطرق المفيدة لها، وأنا أؤكد لك أن بعض الشبان الذين حازوا الشهادات العالية في المدارس لا يعرفون كيف يزرع القمح ولا القطن، بل لا يعرفون محصولات بلادهم ونحو ذلك، مع أنك لو سألته عن محصولات مملكة أجنبية لذكرها لك وعدد لك شهرة كل مدينة وتعداد أهلها وإذا رأى فلاحا مصريا هزأ به وظنه بهيما، مع أن ذلك الفلاح العاري الصدر والقدمين هو عماد البلاد ومنه تتكون معظم الأمة، حتى إن بعض هؤلاء الشبان يظن أن الأمة المصرية هي الفئة التي تجلس على القهاوي؛ تدخن النرجيلة وتلعب النرد والشطرنج والورق وتقرأ الجرائد وتتكلم في السياسة، لكن مع ذلك فأنا أبشر حضرتكم أن الوقت آخذ في التحول، وأن بعض الشبان عرفوا واجب بلادهم وتولد عندهم حب العمل والنشاط اقتداء بأميرهم والناس على دين ملوكهم. - ولكن يمكنهم أن يعيدوا سالف مجدهم؟ - «طول العمر يبلغ الأمل»، وإنا على أي حال لا نيأس ما دامت بلادنا مفتوحة للمدنية، ونحن نجاهر بما نفتكر والجرائد تبعث في الأفراد حب العلم وتبث روح العلم والتعليم، وكل شيء آخذ في التقدم، ولا بد من يوم تتعلم فيه الأمة وتقف أمام العالم تطالب بالحقوق المهضومة. - إذا كان في بلادكم من أمثالك عدد يسير، فإن ذلك يبشر بالنجاح. - يوجد عدد غير يسير، وأنا أقل إخواني الذين تعلموا التعليم المنبثة فيه روح الوطنية والاتحاد. - لقد أفرحتني وأعجبني كلامك أيها الشاب المهذب، ولكن ألا تخبرني بأشغالك بمكة؟
فأخبرته بأمر شقيقي فقال لي: إني لأعجب من بسالتك وإقدامك أيها الشاب، فليت من أمثالك في مصر والشرق كثيرين، أتحب أن تقيم عندي في مكة وتشتغل في التجارة حتى تتمكن من معرفة أخيك؟ - إني أقبل ذلك شاكرا مروءتك، آملا أن أخدمك بصداقة. - لا أحتاج لدليل سوى ما يظهر عليك من شرف المبدأ، فإن ما قلته دليل على حسن تربيتك، واعلم يا ولدي أن ليس لي أولاد ذكور وليس عندي إلا ابنة واحدة، فكن كابني مدة إقامتك معنا حتى تحصل على مرادك، وسأساعدك بكل جهدي لتعثر على شقيقك، وعلى ظني أنه يجب على كل شرقي أن يعضد أمثالك، فإنكم خلاصة الشرق وبكم وبأولادكم يرجع الشرق إلى سالف مجده.
فشكرته على حسن عواطفه، ثم سألني عن اسمي فأخبرته إياه، واسمه سيدي الحاج علي. ولقد كنا نجتمع كل يوم ونتباحث في موضوعات شتى، فظهر لي من عبارته أنه رجل خبير حنكته التجارب وأرضعته الأيام أفاويق الحكم، وأن له ثروة واسعة ومقاما كبيرا بين تجار المشرق، حرا في أفكاره، كريما في أمواله، تقيا في دينه، وكان ذا قامة معتدلة وعينين ضيقتين سوداوين ولحية سوداء يتخللها بعض شعرات بيضاء، وهو يلبس العمامة الهندية ويتزيا بزي الأعجام ، ويتكلم العربية والإنجليزية والهندية، وله تجارة في مكة والمدينة وبمباي، وكان معه من الخدم اثنان، وأخبرت أن عائلته تقيم في مكة.
وفي اليوم الرابع من مبارحتنا السويس وصلنا إلى جدة، فلما نزلنا البر ذهبنا إلى نزل هناك، وبتنا تلك الليلة وأنا في حالة اندهاش وذهول لوجودي في بلاد جديدة وديار بعيدة، غير أني شممت ريح «شريف» فعادت لي الآمال ومثلت لي اجتماعي به وعودتنا إلى مصر، فيا لها من آمال لو تحققت!
وفي الصباح أخبرت الحاج عليا أن معي كتابا من أحد كبار المصريين إلى أمير جدة وأحب أن أوصله له، فأرسل معي خادما يعرف محل الأمير، ولما دخلت عليه وجدته رجلا تظهر عليه المهابة والإجلال، تحيط به الخدم والحشم، فقدمت له الكتاب، وحين قرأه قال: تفضل، على الرحب والسعة، متى جئت يا ولدي؟ - أمس على الباخرة الخديوية. - وأين أمضيت ليلة أمس؟ - في خان لا أعرف له اسما، مع سيدي الحاج علي الهندي. - وهل وصي عليك الحاج علي من مصر؟ - لا، ولكنا تعارفنا ونحن بالبحر. - أنت ولا شك سعيد يا ولدي لا تحتاج لوصية مثلي؛ فإن لسيدي الحاج علي نفوذا في هذه البلاد ولا نفوذ الأمير نفسه؛ لأنه رجل طيب السريرة خالص النية حسن الأخلاق، يساعد الناس بكل ما في جهده، فاحمد الله على ذلك. ومتى تسافرون إلى جدة؟ فأجبته: «غدا، إن شاء الله»، فقال: «سأرسل معكم بعضا من الحرس لتوصيلكما آمنين، وما دمت مع سيدي الحاج علي فلا تخف من شيء.»
ثم أحضرت القهوة، وسألني عن أحوال مصر فأجبته بقدر ما وصلت إليه معرفتي، مع الاحتراس من الزلل، فاستحسن كلامي، وقال: «إن شاء الله، إذا عثرت بأخيك فلا تنس أن تمر علينا أثناء ذهابك لأرسل معك هدية إلى ...» وذكر اسم رجل لا أتذكره الآن يقول إنه من كبار المصريين.
ثم استأذنته في الانصراف فأذن لي. ولما وصلت الخان وجدت الحاج علي في انتظاري، وقد ظهر أنه أحبني كثيرا لما كان يظهر من اعتنائه بأمري. وفي ثاني يوم ركبنا بغالا سريعة المشي فوصلنا مكة بعد العشاء لكن بعد عناء طويل، ولم نسترح في الطريق إلا ريثما تناولنا الغداء، وقد أنجز أمير جدة وعده بإرساله جماعة من حاشيته ليوصلونا إلى مكة، ولما وصلنا إلى هناك ذهبنا إلى منزل سيدي الحاج علي، وهو منزل من أحسن منازل هذه المدينة، في الجهة الشمالية منه تحيط به بعض أشجار كثيرة، وهو على الشكل العربي الذي نراه في البيوت العتيقة بالقاهرة، وله حوش مكشوف بمشربيات وأثاث من أحسن مصنوعات الهند والعجم، والمنزل على العموم من الطرز الشرقي الذي يتمنى الأوروبي رؤيته لما احتوى عليه من الزخرفة العربية والهندية والفارسية والتركية، ولقد أعد حجرة لنومي وخادما نبيها تحت أمري، وأنا أستغرب وأصور في نفسي ماذا كان يحصل لي لو لم أتقابل مع هذا الرجل، وكيف تكون معيشتي، وكيف أقيم، وكيف أدبر أمري ونحو ذلك. وبعد تناول العشاء الفاخر قال لي: لا شك أنك في غاية من التعب لأنك لم تتعود على مثل هذا السفر. - أي نعم، وإني لمحتاج إلى الراحة.
فأمر الخادم بتوصيلي إلى حجرة نومي، فوجدت سريرا بديع الصنع مفروشا بأحسن الفروشات العربية؛ فحمدت الله على نعمائه وجزيل آلائه، وصليت فروض اليوم، وما وضعت رأسي حتى نمت من شدة التعب العظيم، ولما أفقت في الصباح وجدت خادما على باب الحجرة فارشا سجادة للصلاة ومعه إبريق وطشت من النحاس الأصفر، فتوضأت وصليت الصبح، وبعد ذلك قال لي الخادم بكل احترام إن سيده ينتظرني، فذهبت معه إلى محل متسع لمقابلة الضيوف، فوجدت الحاج علي جالسا في صدر المجلس يدخن نرجيلة ومعه بعض أشراف مكة المكرمة، فسلمت عليهم فردوا السلام وقوفا، ثم دعاني الحاج علي للجلوس بجانبه، وقدمني لهم بصفة نجل أحد أمراء مصر، وأنا في نفسي أتفكر في حالتي إذا لم أكن تعرفت بهذا الرجل الكريم، وما ذلك إلا ببركة دعاء والدي وتقواه لأن التقوى تنفع الذرية.
الفصل الثامن
منظر جديد
ألا إنما الدنيا كمثل رواية
تمثلها الأحوال والقول والفعل
فترفع أستارا وتبدي عجائبا
يحار لها من كل ممتحن عقل
ونحن كأشباح نمثل دورنا
كما شاء كتاب الرواية من قبل
مضى علي شهر في مكة، وأنا أستنشق أخبار شقيقي، وأتوسم في كل شاب رائقة ملامح المصريين، مرة أقول هذا ومرة أقول ذاك، فلما أعيتني الحيل وخفت من ضياع الوقت بدون فائدة وتاقت نفسي إلى العمل، قلت لسيدي الحاج علي: إني أحب أن أفتح محلا تجاريا، وسألته أن يسمح لي بالإقامة خارج المنزل؛ فقد طالت مدة الضيافة وعزمت على تأجير محل أقيم فيه، فقال: لسنا يا ولدي في مصر وإنما نحن في بلاد العرب بلاد الكرم، ولا إخالك لا تعرف عوائدهم التي توارثوها عن أجدادهم، ولسنا كذلك في أوروبا حيث يترك الولد بيت أبيه حينما يتزوج ويصبح الولد وأبوه لا علاقة بينهما، فتلك عوائدهم وهذه عوائدنا، وهل تستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! ولقد رأيت في بلادكم ميلا لعوائد الأجانب، وياللأسف عوائدهم الفاسدة التي لا تلائم بلادنا، وهذا التقليد الأعمى هو من أدواء الشرق المعضلة! فهلا قلدتموهم في حب بلادهم وغيرتهم على إخوانهم وحب الاستقلال والسعي وراء المنفعة العمومية والعمل والنشاط! فليكن في علمك يا ولدي أني أحببتك لما فيك من الخصال الحميدة والفضائل التي يمدح عليها الشبان، ووجودك في منزلي لا يزيد مصاريفي ولا يقلل ثروتي، فربما دل طلبك هذا على بخلك أو كرهك لمعاشرتنا. - حاشا يا سيدي أن أقابل معروفك الذي أسرتني به بغير الشكران، وإني ما قصدت بطلبي إلا محبة السعي وراء معيشتي وخدمتكم. وأما أمر تقليدنا للأوروبيين فإني مع الأسف أوافقك على ما تقول، فإن هذا التقليد الأعمى منذر بفقد الاستقلال ومضعف لعصبية الأمة، ومهما قلد المقلد فإنه لا يزال معتبرا عند الأوروبي شرقيا، وهي كلمة تدل عندهم على الجهل وعدم أحقية الاعتبار، ولكن لو قلدناهم كما تقول في حب بلادهم والمطالبة بالحقوق المهضومة وثبتنا على ذلك، عرفوا أن الشرقي ليس هو ذاك الجاهل المحتقر، بل هو إنسان مثلهم له ما لهم وعليه ما عليهم. - تعجبني أفكارك السامية، أكثر الله من أمثالك!
وحيث إني مسافر إلى الهند لإحضار البضائع فسأجعلك رئيسا لحسابات محل تجارتي، واعلم أن ثقتي بك عظيمة فحققها بأعمالك، وأنا أسأل الله أن يوفقك للاجتماع بشقيقك الذي تكبدت لأجله كل هذه المشاق. - بهذه الطريقة تلقي على عاتقي تبعة لست كفئا لحملها، ولكن أود أن أوجد لي محلا صغيرا أبيع فيه وآخذ البضائع من عندكم كما تشتري التجار، ويكون مكسبي وخسارتي راجعين علي، فماذا ترى في هذا المشروع؟ - لا بأس به حيث أردته.
وبعد مضي خمسة أيام كنت في خلالها أذهب إلى المخزن العمومي لانتقاء البضائع وتثمينها، فتحت دكانا، وأرسل لي الحاج علي عاملا يقوم بخدمة المحل ومساومة المشترين، وكنت أجلس كعادة التجار على مقعد مفروش بالحشايا، وكانت البضائع من أبسطة عجمية وفضيات حجازية وكشامير هندية، وما شاكل ذلك من الزخرفة الشرقية، وجعل لي الحاج علي محلا في منزله أجد فيه ما يلزمني من مطعم ومشرب.
ولا بد أن أذكر هنا أن بيت الحاج علي ينقسم إلى قسمين: أحدهما للحريم، والآخر للرجال، وكلاهما منفصل عن الآخر كمال الانفصال، ولكل خدم وحشم مخصوصة، وقد بلغني أن زوجة الحاج مكية الأصل، ولذلك تقيم دائما في مكة، وله زوجة أخرى من بومباي، وقد ولدت له المكية بنتا يضرب المثل بجمالها في مكة، أما امرأته الهندية فلم أسمع عنها لأن الذي كان يخبرني بذلك خادم أمين نبيه للغاية، يقرأ ويكتب ويطالع في كتب الأدب، وله إلمام ببعض العلوم العربية، ولقد أحبني كثيرا كما أحببته لأنه كان سميري في وحدتي وأنيسي في غربتي، وكنا نتحادث كثيرا ونتسامر طويلا، وهو يعتني بأمري جدا. ولقد أحسنت باتخاذي محلا للتجارة؛ لأني تمكنت من معرفة عوائد البلد وأحوال أهلها، وكلما جاء أحد لشراء شيء، سألته عن أمر شاب لا يعرف له أب وغير ذلك من الأسئلة، فمضت مدة تنيف على ثلاثة شهور ولم أسمع عن شريف شيئا فزاد ضجري وكدت أيأس من لقياه.
ففي ذات ليلة جاءني ذلك الخادم النبيه فوجدني جالسا وبيدي كتاب أقرأ فيه، فقال لي: ألا تعرف ما سيحصل الليلة في منزل الحاج علي؟
فأجبته أني لا أعرف شيئا، وسألته عن مقصده وماذا سيحصل فقال: ربما فقدت حياة شريفة بجوارك، حياة بريئة من الذنوب، ولا من يرحم ولا من ينصف المظلوم. - حياة تفقد بجواري لا ذنب لها! ما هذا الكلام؟! وما السبب في قتلها؟! - تقتل حفظا للشرف وصيانة للعرض كما يقولون. - إذا فصاحبها مدنس للشرف، هاتك للعرض، ومثله لا يعد بريئا عندنا، فهل يعد بريئا عندكم؟ - وهل في الحب ذنب أو عار يا سيدي؟ فلو أحببت في عمرك أو عرفت ما هو الحب لبرأت ذلك المسكين الذي يروح ضحية التمسك بالعوائد القديمة. - أما الحب فقد عرفته وذقت مرارته، ولعمري إن قلبي ليشفق على كل عاشق أودى به الغرام إلى ركوب ما لا تحمد عقباه، ولكن ما دخل العوائد في مسألة هذا العاشق الذي يقتل الليلة؟ وما السبب في قتله؟ أفصح لأن قلبي يكاد يتفطر من ذكر القتل. - تعلم أن عادة بلادنا تمنع الإنسان أن يزوج ابنته إلا إلى رجل يمكنه أن يسلسل نسبه إلى فلان المشهور، ولم يبق عليهم إلا أن يقولوا إلى القمر أو يكون ابن أحد أغنياء البلد وسراتها، ولا يلتفت إلى حب الفتاة لخطيبها ورغبتها في زواجه. - هذه العادة موجودة عندنا توارثناها عن أجدادنا، وبعضها مستحسن عقلا وعادة، وباقيها مستهجن حسا ومعنى، أما أنا ففي اعتقادي أن المحافظة على الأنساب وعدم زواج الابنة إلا لمن كان طيب العنصر كريم الأصل والأخلاق أمر واجب، ولكن تحتم زواجها بأحد الأغنياء غلط فاحش ورأي فاسد؛ لأن الأغنياء ليسوا جميعا ذوي أصول عريقة في الحسب والنسب، وإن كان الاعتقاد عندنا أن الغني هو الكريم الأصل وأن الفقير هو الدنيء، حتى إن الغني لا يزوج ابنته إلا لابن من يماثله في الثروة بدون أخلاق وآداب ذلك الابن أو سيره الخارجي، وبدون وجود أدني محبة بين العروسين، وهذا من أعظم الأسباب في فساد أخلاق كثيرين من الفتيان والفتيات، وما ظنك بشاب تعود على السهر في محال اللهو ومغازلة بنات الهوى يتزوج بفتاة لم يتوطد بينه وبينها حب طاهر، ولم يعرف قيمة الزواج وواجب العائلة؟ لا شك أنه يمضي مع عروسه بضع أيام يتمتع فيها باللذة البهيمية ثم يتحول الحال ليعود لسابق عادته، ومن شب على شيء شاب عليه. وأما الفتاة فمتى رأت بعلها يتركها ولا يعود إلا وهو يتمايل سكرا، فهيهات وألف هيهات أن تسلم في عرضها، والشباب والجدة مفسدة أي مفسدة! ولكنا أضعنا الوقت في الكلام وتركنا ما يجب علينا عمله نحو هذا العاشق المعرض للقتل، في حكايته؟ - إن محادثتك يا سيدي تنسي الإنسان نفسه، وتجذب فكره كما يجذب المغناطيس الحديد، وأما حكاية هذا العاشق فإنه شاب نبيه من أعقل شبان مكة وأشجعهم، وقد أحب ابنة الحاج علي وأحبته، ويشهد الله أنها تحبه أضعاف ما يحبها فهي الجانية عليه. - ومن الذي يود قتله؟ هل يحبها أحد سواه؟ - لا، إن الذي يود قتله هو سيدي الحاج علي؛ لأنه لا يرغب أن تهوى ابنته هذا الشاب أو تتزوج به. - إذا كان شابا نبيها عاقلا ويحبها وتحبه، فلم لا يتزوجها؟ - قلت لك يا سيدي إن الاعتبار عندنا بالنسب وهذا الشاب لا يعرف له أب ولا جد، وإنما يقال عنه إنه حفيد مولاي شرف الدين الذي اعتنى بتربيته، وبعضهم يقول إنه ابن خادم كان عنده، وبعضهم يقول إنه مملوك اشتراه من أحد تجار الشام، والحقيقة مستورة، إنما يظهر من طباعه أنه كريم العنصر؛ لأنهم يقولون: «إذا خفي أصل الفتى دل عليه فعله.»
أيها القارئ، هذا شعاع أمل بدا من سم خياط، خفق له قلبي ورقص له فؤادي طربا وسرورا، ولا إخالك ألا تفهم عواطفي في مثل تلك الساعة التي سمعت فيها من الخادم عن ذلك الشاب، فليت هذا الشعاع أخرجنا من الظلمات إلى النور! - أين يكون هذا الفتى؟ لا بد أن أنقذه من مخالب الموت؛ حيث تقول إنه شاب مهذب نبيه. - لقد أمر سيدي الحاج علي رجلين من أعوانه بالكمون وراء سور الحديقة، حتى إذا جاء هذا الفتى لمقابلة حبيبته كما يفعل أغلب الليالي فتكا به ونقلا جثته إلى الجبل، وقد بلغني من مصدر يوثق به أنهم أغروا خادمة أسما - ابنة الحاج علي - بالذهاب إلى ذلك الشاب برسالة من أسما تدعوه للمقابلة، وأمر الحبيبة لا يخالف. - ولم لم تخبرني بهذا حتى كنا سعينا في خلاصه قبل هذا الوقت وأنذرناه بسوء العقبى، هل تعرفه جيدا؟ - أعرفه جيدا لأني أحبه كثيرا. - هل تعرف لنا طريقا لخلاصه؟ - الرأي عندي أن نذهب خارج السور، ومتى رأينا شبحا قادما وتحققنا أنه شريف و ...
فقاطعته قائلا: «وهل اسمه شريف؟» فقال: «نعم».
فما كان أفرحني عند ذلك! فقال الخادم: ومتى تحققنا أنه شريف أخبرناه بسر المسألة، ولكنا نخاف على أنفسنا. - يقولون عنكم إنكم لا ترهبون الموت، فممن تخاف؟ وهل يجبن الإنسان عن القيام بعمل شريف مثل هذا؟ هيا بنا ودع الجبن.
ثم قمت ولبست عباءة سوداء، وتقلدت سكينا وريفلفرا، وكانت الساعة الخامسة بعد الغروب. وبعد ذلك خرجنا في الظلام الحالك وكنا في آخر الشهر، ولما وصلنا باب البيت فتحه الخادم بسهولة، وحين صرنا خارج البيت قلت للخادم: هل أنت مستعد للدفاع عن نفسك؟
فقال: وهل تظنني أخرج بدون سلاح؟ ومع ذلك فإن سلاحي لا يفارقني أبدا. - إني أخاف أن يكون ذلك الشاب قضى نحبه بأن تعجل في المجيء إلى المنزل؛ فإن العاشق يعد الثواني متى كان بينه وبين حبيبته ميعاد، وربما ذهب قبل حلول الوقت بزمن طويل. - لا تخف من ذلك؛ فإن عادته أن يأتي لها في منتصف الليل، حيث ينام من في المنزل، ويكونان هما على مأمن من الرقباء، ومن عادتهما أن يمضيا الوقت في كوخ تسكنه الخادمة التي أغروها على دعوته، ولا شك أنه لم يأت للآن، ولكن لا بد من السرعة خوفا من فوات الفرصة.
وكنا نسير في ذلك الوقت ونحن لا نكاد نرى بعضنا، والبرد قارس لأن مكة في سهل معرض لهواء الشمال، غير أن المسافة لم تكن بعيدة؛ لأن منزل الحريم وراء منزل الرجال، ولكن توجد بيوت تمنع الإنسان من الإتيان إلى منزل الحريم إلا بعد دورة حولها. وبعد أن سرنا قليلا قال الخادم: هنا سيدي فلنقف لأننا بقرب الباب الموصل إلى الحديقة، ولكن البرد قارس. - لنصبر قليلا فإننا قاربنا على منتصف الليل، ولا يبعد أن يأتي ذلك الشاب. ولكن هل تعرفه إذا رأيته؟ - أعرفه تمام المعرفة. - هل يمكنك أن تشرح لي هيئته، وتذكر لي عمره؟ - عمره ما بين الثامنة عشرة والعشرين، معتدل القامة، جميل الطلعة، أسود الشعر والعينين، أقنى الأنف، له خال على خده الأيمن، يجذب العقول بسحر ألحاظه وبلاغة ألفاظه، وعلى العموم فلم يره أحد بمكة إلا أعجب بآدابه وأخلاقه، حتى إنهم استدلوا بطباعه على شرف أصله، ومما يقال عن أصله إن مولاي شرف الدين وجده طفلا ملقى على قارعة الطريق، فأخذته الشفقة عليه وأخذه إلى منزله وأحسن تربيته، وهو يحبه كثيرا لما له من الخصال الشريفة، وأنا أقول لك إنه أشبه الناس بك.
فخالج ضميري أن ذلك الشاب لا شك شقيقي؛ لأن عمره كما أخبرتني مربيتي يكون تسع عشرة سنة، وله خال على خده الأيمن كما يستدل في وصية والدي، وجميع أوصافه تطابق أوصافي. وعند ذلك التصور خفق قلبي لقرب رؤيته، وكلما هب النسيم تنسمت فيه ريح شقيقي والأمل ملء قلبي، ولكن كم تحت طيات الزمان خفايا!
فبينا نرى الآمال والسعد مقبلا
وتبصر نجم الحظ مبتسم الثغر
أفلاك تفتر السعادة سيرها
ويكشر ناب الدهر عن مقبل الشر
بينما كنت أعد النفس بلقيا شقيقي وأبني قصورا في الهواء، على رأي العرب، وقلاعا في الجو، على رأي الإنكليز، وقصورا في إسبانيا، على رأي الفرنسويين؛ وإذا بشبح ظهر من وراء السور، ولما تمعناه وجدنا رجلين يحملان شيئا فاختفينا قليلا وراء حائط صغير حتى قرب منا الرجلان، وسمعنا أحدهما يقول بصوت منخفض: لولا أنك تداركتني لقتلني هذا اللعين، شكر الله غيرتك، ولكنك لم تطعنه كما طعنته في جنبه طعنة كانت القاضية عليه.
فقال الآخر: لعن الله الفقر، أما والله لولا المعيشة وخوفي من الحاج علي لما مسست هذا الفتى الطاهر الأخلاق الغريب البلاد، ولو كان له أقارب يأخذون بثأره ما طلع النهار علينا، سر بنا لندفنه في الجبل بملابسه الملوثة بالدماء، ولا كفن ولا صلاة ولا مأتم، وارحمتاه عليك أيها الشاب الذي قتل شهيد الظلم والاعتساف!
وما جاء على آخر عبارته إلا وفؤادي يتقطع إربا والخادم يصيح: «قتل الشاب»، فلما سمعته صرخت بالرجلين دون روية: أنا قريبه، أنا أخوه، لا طلع النهار عليكما، لبيكما، لبيكما.
واندفعت لا أعي ولا أفقه، وصوبت الريفلفر نحو أحدهما فخر قتيلا يتخبط في دمائه وهرب الثاني في الظلام تاركا ما يحمله على الأرض، فدنوت منه وأنا كالقصبة في الريح العاصف وكان الظلام حالكا والبرد قارسا فلم أر شيئا، والتفت للخادم فلم أره بجانبي فخفت من مكيدة ووقفت باهتا أنتظر الموت والبلاء والسخط والهلاك. وليعلم القارئ أني تربيت في مصر كتربية أغلب شبانها؛ لا نعرف استعمال السلاح ولا المدافعة عن أنفسنا بغير شقشقة اللسان والسباب اللذين نستعملهما للمدافعة عن الشرف وما شابه ذلك، ولم أوجد خارج منزلي بعد الساعة اثنين من المساء حتى ولا كما يفعل إخواني الشبان المصريون في السهر في المراقص ومحال الفجور بين الأنوار الكهربائية والغازية حتى الصباح، فهذه كانت أول مرة وقفت فيها في الظلام الحالك منتصف الليل، ولا أنيس معي سوى قتيلين أحدهما ملتف في عباءة والآخر ملقى بجانبه يعالج سكرات الموت.
فاعتراني ذهول وتشنجت أعصابي وإذا بنور مصباح ضعيف يجري على بعد، فخفت أن يكون الرجل الذي فر عاد ومعه بعض أناس ليقتلوني، وتخيلت في فكري أن الخادم أغراني على ذلك ليقودني إلى المحاكمة، ونحو ذلك من التخيلات، وأنا لا أقدر على التحول من مكاني كأني تمثال من الصخر لا حراك بي، وإذا به الخادم جاء بمصباح من المنزل لكي نتمكن من معرفة القتيلين، ولما عرفته جرى الدم في عروقي وتجلدت أمام المصاعب، «آه! إن ذكرى ذلك الموقف تقشعر لها الأبدان، وتجلب لي الكدر والأحزان.»
فقلت للخادم: أين كنت؟ فقال: أحضرت مصباحا لنرى ماذا جرى. ثم دنونا من القتيلين فوجدنا شابا ملفوفا في عباءة ومطعونا في جنبه ، فوضعت يدي ما بين الضلع السادس والضلع السابع فشعرت بضربات قلبية خفيفة آخذة في الانقطاع، وحينما وقعت عيني على وجهه ورأيت ملامحه في المصباح شبه علي وجه والدي محتضرا على فراش موته؛ فاضطرب فؤادي وقلت في نفسي: ليت شعري، هل أنت شقيقي؟ وهل تكون نتيجة أسفاري وفراق حبيبتي وأوطاني أن أراك قتيلا مضرجا بدمائك وأدفنك في بلاد العرب، أم تعيش وتكون حياتك على يدي؟ ولقد دلني النبض الخفيف على أن لا تزال فيه بقية من الحياة، فأخذت عمامة الخادم وربطت بها الجرح لأمنع نزيف الدم ولففته في العباءة وأملت فيه الحياة، وأما الرجل الثاني فقد تحققت أن الرصاصة كانت القاضية عليه، ولكن بعد ذلك وقفت باهتا وحرت في أمري: أأنقل الجثة إلى بيت الحاج علي وهناك البلاء، أم آخذها إلى منزل مولاي شرف الدين فيتهمني بقتله، أو يقع بينه وبين الحاج علي ما لا تحمد عقباه؟ كلاهما أمران أحلاهما مر، وفي ذلك الوقت عدمت كل صوابي وصرت:
كريشة في مهب الريح طائرة
لا تستقر على حال من القلق
فشاورت الخادم فزاد الطين بلة بأن أكد لي أن الحاج علي سوف يتكدر مني ويعمل على قتلنا لأننا عرفنا أنه السبب في قتل الشاب، ولا سيما أن مولاي شرف الدين سيقوم ويقعد لهذا النبأ، وبعد مضي ساعتين تفكرت فيهما فيما أعمل، ويعلم الله أن تينك الساعتين كانتا كسنتين شاب فيهما شعر رأسي ولعمري إن ذلك الموقف يجعل الولدان شيبا، ولكن خطر على بالي أن الحر من تجلد عند مقابلة الخطوب ومحاربة الزمان ولا سيما في مثل ذلك الوقت، فلذلك تجلدت وقلت للخادم: هل لك محل تسكن فيه؟ أو هل تقيم دائما في منزل سيدي علي؟ - لي كوخ خارج المدينة، أذهب إليه بعض الليالي لأرى والدتي العجوز. - فلنذهب إلى هناك ولنأخذ معنا الجثتين، فنرمي جثة الرجل بالجبل ونحفظ جثة الشاب في الكوخ ونعالجه لعل الله يرد فيه الحياة، حيث لا يمكننا الآن أن نذهب إلى منزل الحاج علي، وكذلك لا يمكننا أن نأخذ شريفا على منزل مولاي شرف الدين لئلا تقوم قائمة العدوان بين الأخير والأول ونكون نحن السبب، ولا يخفاك أن سيدي عليا له علي مكارم لا يجحدها إلا اللئيم، وحاشاي أن أقابل حسن معاملته بالضد بأن أوقعه في تهمة القتل الفظيع، فما رأيك؟ - رأي حسن، وسأحمل هذا الرجل فهل تقدر على حمل الشاب؟ - لا شك أقدر، هلم بنا.
ثم حملت الشاب على صدري وكأن الله أعارني قوة عجيبة في تلك الساعة، ولقد وضع رأسه على كتفي كأنما أحس قلبه أنه على صدر شقيقه الوحيد في هذا العالم فاطمأن، وسرنا في نور المصباح الذي ربطه الخادم في ذراعه. وتفكر أيها القارئ في حالتنا وكلانا يحمل قتيلا أو شبه قتيل والظلام حالك والبرد قارس، وليت شعري إذا مت أو قتلت هل أجد من يحملني كما حملت ذلك الشاب أو أروح فريسة الطيور والوحوش؟
الله يعلم فالأيام قد طويت
طي البساط على الأسرار والحكم
الفصل التاسع
أظمتني الدنيا فلما جئتها
مستسقيا مطرت علي مصائبا
وصلنا إلى الكوخ بعد الجهد والعناء فوضعنا حملنا ودق الخادم الباب بشدة حتى فتحت العجوز، وحين دخلنا وجدت الكوخ محلا مكونا من شبه حجرة مسقوفة بالأعشاب كائنة في سفح الجبل، ولما استقر بنا المكان قالت العجوز: يا ولدي، ما هذا؟
فقال لها: اسكتي ولا تفتحي فاك، وأنت يا سيدي فابق هنا حتى أعود إليك، وإذا غبت فلا تستبطئني. ثم حمل القتيل وخرج مسرعا، أما أنا فاعتنيت بشأن الشاب وكشفت عن جرحه، فلما رأتني العجوز أخذتها الشفقة وشرعت تسألني عن سر المسألة، فلم أجبها بشيء سوى أن ذلك الشاب أخي وقد ضربه اللصوص بمدية وأنا أخاف أن يموت، فقربت منه وأخذت تجس نبضه ثم قالت: «إنه حي، وسيعيش.» - ولكن الجرح بليغ يا أمي، وهيهات أن يعيش! - الأمل بالله يا ولدي، هو الذي يحيي العظام وهي رميم، ولكن أين ذهب ولدي؟ وماذا كان يحمل؟ - لا تخافي عليه فسوف يعود حالا.
ثم سألتها أن توقد نارا لتدفئة المحل ففعلت، كل ذلك والشاب لا يبدي أدنى حراك حتى قطعت الأمل من حياته، ولم يوجد هناك طبيب يدعوه الإنسان ليتدارك الأمر، وللأسف لم أتمم دراستي فأعرف ما يجب علي اتخاذه فحرت في أمري وقلت في سري: ربما كان عندهم في تلك البلاد من يعرف الطب، فسألت العجوز فقالت إن فلانا وأم فلان تعرف مداواة الأمراض، ومع علمي أن معرفة تلك النساء ليست إلا من باب الدجل سألتها أن تدعو لي امرأة في الصباح تثق بمهارتها وكتمها للسر، وصدق المثل المصري «الغريق يستند على القش»، ولبثت على أحر من الجمر أنتظر عودة الخادم وأحسب في نفسي ألف حساب إذا علم سيدي الحاج علي بأني أنا الذي قتل أحد أعوانه، وأنا الذي خلص غريمه، وأنا الذي اكتشف سر المسألة، وأنا الذي أحسن إليه وأكرم وفادته، وأنا الذي يقابل جميله بمثل هذه الفعال، ولكن كان يقف أمام تلك الأفكار العديدة فكر واحد وهو أني خلصت أخي وأخذت بثأره، وإن لم يكن الجريح أخي فإني عملت ما توجبه علي الذمة والمروءة وحب الإنسانية، رضي أو غضب بكر.
وبينما أنا غارق في بحار التأملات والجريح بجانبي لا يبدي حراكا وإذا به قد تنهد وحاول أن يقوم فلم يقدر، فلما رأيت ذلك دنوت منه ومسكت يده، وكان نور الفجر قد ملأ المكان وقاربت الشمس على الشروق، فلما رآني ورأى المحل ظهر كأنه منذعر لوجوده بين قوم لا يعرفهم وفي مكان لم يره، وكنت قد ضمدت جراحه، ثم قال بصوت منخفض متقطع: «أين أنا؟ أين أنت يا أسما؟ يا حبيبتي يا أسما»، فمددت له يدي وأسندت رأسه على ذراعي، وتأملت وجهه فوإن كان مصفرا خائر القوى إلا أن ملامح الجمال كانت بادية عليه وعذرت التي هوته ولقد شعرت نحوه بمحبة لم أشعر بمثلها أبدا، وحين وقعت عيني على عينيه شعرت بتيار كتيار الكهرباء يسري في مفاصلي حتى إني لم أتمالك نفسي وكدت أسقط على الأرض، لولا تذكري بأني قمت بواجب لا بد من القيام به خير قيام وأنه يجب علي أن أشد عزيمتي وأتجلد أمام الخطوب حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وإذا بطارق يطرق الباب بعنف، فقلت في سري: ماذا جرى؟ وهل هذا الخادم أم رجال الشرطة؟
فقامت العجوز لتفتح الباب، وبينما هي تمشي مشيا وئيدا دق الباب بعنف زائد، فانزعجت العجوز وصرخت بصوت يتخلله خوف قائلة: ما هذا الطبل؟ ما هذه الغوغاء؟
ثم فتحت الباب، وإذا بخمسة من الرجال يصيحون: أين القتيل؟ اقبضوا عليه.
فقرب مني أربعة شداد غلاظ قبضوا علي وشدوا وثاقي وتركوني، وذهبوا للتنقيب في أركان الكوخ لكي يبحثوا عن رجال آخرين، ولما لم يجدوا شيئا ظهرت عليهم علامات الاستغراب وقالوا: أين الرجال الآخرون؟
فقالت العجوز: إني لم أر شيئا.
وأخذت تولول، فقال رجل يظهر أنه زعيمهم: اسكتي وإلا أخذناك مع هذا الأثيم، وأشار إلي.
بالله أيها القارئ الكريم، ماذا تفتكر في حالة مسكين مثلي؛ ترك بلاده وحبيبته وإخوانه ليجد أخا له، وما وصل إلى هذه البلدة إلا بشق النفس والعناء ومكابدة الأهوال وركوب الأخطار، وتراه الآن لم يجن ذنبا سوى الأخذ بثأر من يظنه شقيقه؟ فليت شعري ماذا تكون النتيجة؟ وكيف تنتهي الحالة؟ رويدا رويدا أيها القارئ، سوف أضع أمام عينيك ماذا تم وماذا جرى؛ لترى أن الدنيا كلها أكدار وأحزان، ما صفت لإنسان قط، وإن كانت صفت لغيري ساعة فلم تصف لي دقيقة، أقول لك هذا لكي لا تتمسك بأسباب الحياة الدنيا، ولكي تسعى في عمل الخيرات فهي الطريق الموصل إلى العالم الذي لا يفنى، والعالم الذي ينال فيه عامل الخيرات جنات تجري من تحتها الأنهار لا يرون فيها أكدارا ولا أتعابا.
فيا دهر، هل بيننا ثأر أو عداء قديم حتى صوبت نحوي أسنة سهامك وأنا بريء طاهر الذيل؟! اللهم لا أمل لي إلا رحمتك وجنتك، وإني لأتمنى الموت قبل أن تنسب إلي جريرة القتل ظلما لعباد الله.
رب إن الموت خير
من حياة الذل عندي
وفي الحال، حمل اثنان منهما الجريح وأمسك بي اثنان، وما زالوا سائرين بنا والشمس على وشك الشروق حتى أوصلونا إلى منزل تظهر عليه هيئة منازل الأمراء والحكام؛ فظننت أننا وصلنا إلى منزل أمير مكة أو المحكمة، ولكن عرفت بعد ذلك أننا في منزل مولاي شرف الدين، وتحقيق الخبر أنهم استبطئوا شريفا فتوجسوا خيفة وأرسلوا في طلبه والبحث عليه الأربعة الرجال المتقدم ذكرهم، ولعلمهم أن شريفا يذهب ليلا إلى منزل الحاج علي لزيارة حبيبته تلصصوا هناك، وبينما هم يدورون وإذا بهم رأوا خادم الحاج علي يحمل قتيلا ويسير به عدوا فهجموا عليه وأمسكوه، ولكنهم رأوا أن القتيل لم يكن «شريفا» وإنما هو رجل آخر فاستفسروه فأبى الاستفسار حفظا لكرامة سيده، وحينما يئسوا منه أخذوه إلى منزل مولاي شرف الدين وضربوه ضربا عنيفا لكي يقر بأمر القتيل؛ لأنهم فهموا أن ذلك القتيل لا بد له من دخل في أمر غياب شريف، فسألهم شرف الدين عن منزل الخادم، فأورى أحدهم أنه يعرفه فأمرهم بالمسير إليه وتفتيشه، وكان ما حصل وتقدم ذكره.
ولما أدخلونا المنزل ورأى مولاي شرف الدين «شريفا» مجروحا وحالته تنذر بالخطر، لم يلتفت إلى من جاء معه من الرجال بل انحنى على شريف وقبله بين عينيه وأجهش في البكاء، وجاء كل من في المنزل يبكون ويندبون ومولاي شرف الدين لا يعي لنفسه، كل ذلك وأنا موثق الكتاف ملقى في زاوية من زوايا المحل يضربني الخدم بالنعال ولكنني أبكي لبكائهم وهم يظنونني أبكي من ألم الضرب ووددت لو انشقت الأرض وابتلعتني، وعند ذاك أحضر طبيب فكشف عن الجرح وفحصه ثم قال إن السكين وصلت إلى قلبه، وهيهات أن يعيش!
فلما سمع شرف الدين هذا الجواب قال: علي بخادم الحاج علي، أما والله لو اتخذ قاتله نفقا في الأرض أو سلما في الجو ما خلص مني ولو كان هو أمير مكة نفسه.
فقال له أحد الذين أحضروني: يا مولاي، ها هو القاتل. وأشار إلي. فلما سمع ذلك شرف الدين التفت إلي بنظرة توقف الأسد عن التقدم لفريسته، وقال: أهذا الذي قتل شريفا؟ قطعوه إربا ولا تبقوا له أثرا، لا عشت أيها النذل الخائن ولا عمرت بك بلاد أيها القاتل الغادر.
فلما سمعت ذلك أيقنت بالهلاك وودعت الدنيا ومن فيها وسلمت نفسي لأمر الله، ولكن خطر ببالي أن أسأل شرف الدين عن المقتول عما إذا كان ابنه أو متبنيه، فقلت له بشهامة البائس: تأن يا سيدي، فلم أقتل شريفا وإنما أنا أنقذته ممن قتلوه، فأرجوك أن تتمعن في الأمر وأن تشفق على غريب ترك دياره ليبحث عن شقيق له، ولم يرتكب جناية سوى أنه خلص نفسا زكية قتلت بغير ذنب، فإن رأيتموني مذنبا في خلاص ولدكم فاقتلوني ونفسي راضية، وإن وجدتم أني عملت عملا شريفا فلا أسألكم عليه أجرا سوى أن تجاوبوني على سؤال واحد.
ولقد قلت ذلك ومولاي شرف الدين مصغ إلي بعين تنظر نظرة الممتحن، فقال بصوت هادئ: لو كانت براءة المذنبين بناء على أقوالهم فهم أطهر الناس وأبعدهم للذنوب وأشرفهم في كل شيء، ولكن على أي حال إن لم تكن القاتل فلا بد أنك تعرف القاتل. - نعم أعرف القاتل، وإنما أسألك أن تفك وثاقي وأن تعدني وعدا صادقا أن تجاوبني على سؤالي بما تفرضه الذمة قبل أن أخبرك بالقاتل. - تلوح على عينيك البراءة، ولكن ربما كنت واهما، فكوا وثاقه.
فقرب مني اثنان وفكا وثاقي بعد أن أخذا الريفلفر مني وتحققا من عدم وجود سلاح آخر، ثم جلس مولاي شرف الدين على مقعد مرتفع وقال لي: «تكلم»، فوقفت باحترام ورجلاي لا تكادان أن تحملاني، وقلت: إني لم أقتل شريفا وإنما خلصته من أيدي الذين قتلوه وأخذته إلى محل الخادم لأعالجه، ولكن جاء رجالك وأحضروني. - ومن إذن القاتل هو؟
فقلت له: القاتل هو الرجل المقتول الذي أحضره رجالك مع الخادم. - ومن قتل هذا الرجل؟
فقلت: أنا.
فقال: ولم ذلك؟
فقلت: لأخلص شريفا ولآخذ بثأره. - وأنت من أين عرفت شريفا؟ وكيف تأخذ بثأره؟ هل أنت من عائلة شرف الدين؟ - أنا لست من عائلة مولاي، ولست من هذه البلاد، وأريد أن أسألك كما سألتني؛ هل هذا الشاب ابنك أو من عائلتك حتى تود أن تأخذ بثأره وتبحث عن قاتله؟
فلما سمع ذلك امتقع لونه وقال بصوت غضوب: ماذا تقول؟! أليس هو ابني وحشاشة كبدي؟! اسكت يا قاتل.
فجاوبته بلطف: يا سيدي، أنا سألتك بحرمة البيت الحرام أن تخبرني بالصدق لأن ذلك يخفف عني متاعب الدنيا.
فأجاب مغضبا: ماذا تقول؟ وما هي متاعب الدنيا التي تتخلص منها بإخبارك عما إذا كان هو ولدي أو غير ولدي، «أسفا عليه، فلا يفيد بكاء»؟ - سيدي، بالله ألا ما أخبرتني بالحقيقة فقد بلغني أنه ليس ابنك، وكن واثقا أن الذي أمامك رجل شريف المبدأ لا يبوح بالسر. - وماذا يعنيك إن كان ولدي أو غير ولدي؟ - يعنيني كثيرا، فإنه إن لم يكن ولدك فإنه شقيقي.
فلما سمع هذه العبارة قال لحاشيته: اذهبوا خارجا، والتفت إلي بعد صمت استغرق زمنا طويلا، وقال: أنا أستغرب أمرك أيها الشاب، ويظهر لي صدق ما تقول لأن ملامح وجهك تشابه شريفا تمام المشابهة، فأخبرني شيئا عن أمرك قبل أن أخبرك بأمري.
فقلت له: أما أنا فشاب مصري.
فاستغرب جدا وقال: مصري؟!
فقلت: نعم مصري، ولقد حضرت هنا للبحث عن شقيق لي تركه والدي صغير السن في سنة 1295، ومضت علي ستة أشهر بحثت في خلالها عنه فلم أهتد إليه، ففي الليلة الماضية جاءني الخادم وأخبرني أن شابا يدعى شريفا يقتل هذه الليلة بواسطة بعض لصوص تآمروا عليه، فسألته عن ذلك الشاب المسكين فقال إنه ابن مولاي شرف الدين والناس تقول إنه ليس ابنه بل تبناه، ولما وصفه لي وقال إن له خالا على خده الأيمن، تحركت في عواطف المحبة الأخوية وعزمت على إنقاذه ولو عدمت حياتي، ومن تعاستي وسوء حظي لم أره إلا مقتولا بيد هؤلاء الأشقياء - لا بارك الله فيهم - فلم أتمالك أن قتلت أحدهم، ويعلم الله أنها أول مرة ارتكبت فيها جريمة القتل، ولما وقع نظري عليه في ضوء المصباح حدثني قلبي أنه شقيقي، فهل أنا مصيب في ظني يا سيدي؟
فلم يجب، بل جلس مفكرا نحو ساعة كنا نسمع فيها عويل النساء وبكاء الأولاد ولم نتمالك من البكاء، ثم قلت له: يا سيدي، أسرع بالجواب لأودعه الوداع الأخير، فإن فؤادي ينفطر من هذه الحالة.
فقال ودموعه تسيل على خده: اسمع يا ولدي، إن شريفا ليس ابني وإنما هو ابن رجل مصري تركه عند مرضعة ولدي الصغير الذي مات في ذلك الوقت فأخذت شريفا منها وربيته أحسن تربية، فإذا صدق ظني فأنت شقيقه لا محالة.
فلما سمعت هذه العبارة طفح البكاء وتزايدت ضربات القلب، وقمت مسرعا لا أعي وخرجت كالمجنون، وما فتحت الباب حتى أمسكني الخدم وشرعوا يضربونني ضربا عنيفا ظنا منهم أنني قمت هاربا من أمام مولاي شرف الدين، وزاد الضرب من كل الموجودين الذين كانوا يظهرون مرارة الحزن بشدة الصفع والضرب فوقعت مغشيا علي منهوك القوى لا أعي ولا أفقه ولم أدر بعد ذلك ماذا جرى، وقد علمت فيما بعد أن مولاي شرف الدين لبث غارقا في بحار الهموم ساعة من الزمن كنت فيها أتحمل الضرب العنيف، ولما قام ليرى شريفا ورآهم يضربونني صرخ بهم، وجاءوني بالمنعشات حتى فتحت عيني، وسألتهم رؤية شريف فحملوني إليه ولما وقعت عيني عليه لم أتمالك من البكاء، وشرعت أقبله بين عينيه قائلا: هذه قبلة والدك الذي كلفني بتوصيلها إليك وهو يعالج سكرات الموت.
وفيما أنا أقبله نزلت نقطة حراء على خده فشعر بها وفتح عينيه، وقال بصوت منخفض جدا: إلي يا والدي.
فأخذته على صدري، وصحا صحوة الموت الأخيرة، والتفت نحوي وقال: من أنت الذي يعتني بي هكذا، إني حلمت أني رأيتك في منامي - يشير بذلك حين كلمني في كوخ الخادم - أنت كريم يا هذا، هل أنت ملك أرسلت لي؟
ثم سكت، وبعد قليل قال: أسما، آه يا أسما! حرام يا أسما! قتلي حرام يا أسما! ماذا جنيت؟ هل الحب ذنب؟ أنا عارف يا أسما، أبوك يكرهني لأنه يظنني غير شريف الأصل، لا يعرف لي أب ولا أم ولا ولا، ولكن الوداع يا أسما، الوداع الوداع يا دنيا، الوداع الوداع يا والدي، لا، لست والدي إنهم يقولون ، الوداع الوداع أيها الشاب المعتني بي، آه! ليتني أقدر على مكافأتك، ليس لي من يبكيني بعد موتي، ليس لي أقارب ولا أم ولا أب ولا أخ.
إن ذلك المنظر يذيب الحجر، فكيف بقلبي الضعيف الذي تحمل المصائب لإنقاذ هذا الشاب وأراه أمامي يعالج سكرات الموت؟ (آه! ما أصعب هذه الذكرى!)، وفيما هو يتكلم كان فؤادي يتقطع وكلما حاولت أن أنطق خنقتني العبرات، ومولاي شرف الدين لا ينبس ببنت شفة، وحوله امرأته ونساء عائلته، وفرق بين الأم والمربية فرق عظيم.
ولما سمعته يقول: ليس لي من يبكيني بعد موتي، ليس لي أقارب، ولا أم ولا أب ولا أخ، تمالكت نفسي وخاطبته: أنا أخوك فلا تحزن.
فالتفت بعينه، ثم قال: هل أنت أخي؟ لا، ليس لي أخ، أنت كريم أيها الشاب، الله يكافئك عني.
فأجبته، والقارئ يتصور حالتي أولى من شرحها: أنا ورب الكعبة أخوك الوحيد، وأنت أخي الوحيد في هذا العالم، فيا ليتني لم أعرفك ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا!
فنظر إلي نظرة وداع تفتت الأكباد، وقال لي بصوت منخفض للغاية: لا يعتني بي هذا الاعتناء إلا أخ شقيق، فإن لم تكن شقيقي في النسب فأنت شقيقي لحسن معاملتك.
وما أتم هذه العبارة حتى رأيته وجه نظره نحو باب الحجرة وأبرقت أسرته، فتأملت لأرى من الداخل فرأيت فتاة تخجل البدر ذات قوام كالغصن الرطيب وشعر كالليل الحالك وعيون سوداء بأهداب طويلة وخدود كالورد زادت في احمرارها شدة الحزن وزاد بهاءها اللؤلؤ المتناثر على عقيق خدها، وعلى العموم كانت طلعتها تسلب اللب وتجذب قلوب الناس وهي في ملابس سوداء كالقمر في الليلة الليلاء، ولما وقع نظره عليها قال لها بصوت أعلى كأنما يحاول الرجوع إلى الحياة: يا مرحبا يا مرحبا يا أسما، جئت لتزوريني؟ جئت لتودعيني؟ يا مرحبا يا مرحبا.
فرمت نفسها على قدميه وأخذت تبكي بكاء الثكلى وهي تقول: بأي وجه أقابلك وأنت مقتول بذنبي؟ فلمن تتركني يا حبيبي؟ لا بقاء لي بعدك، آه من القاتل الظالم! قتلك وقتلني بعدك.
فقال لها: اسمعي يا أسما، إن كان القاتل قد قتلني بسببك فلقد وديتني بزيارتك هذه، قبليني قبل موتي ثم اذهبي لمنزلك لئلا يغضب عليك والدك، واذكريني واشهدي أنني مت شهيد حبك الطاهر واشكري هذا الفتى على اعتنائه بأمري.
فأجابته: إن هذا الفتى شقيقك وليس غريبا، وقد أتى مع والدي من مصر للبحث عنك، فأكرم وفادته وأحسن إليه، ولكن، ولكن ...
وسكتت من شدة البكاء. - إن يكن والدك أحسن إليه فهو بريء من ذنبي؛ لأنه أحسن إلى من أحسن إلي، فالوداع يا أسما، الوداع يا شقيقي، بلغ تحيتي لوالدي إن كان حيا.
بماذا أجاوب؟ وبماذا أرد؟ لم يمكن الكلام، وخرست عن النطق، وغاب رشدي حين أغمض عينيه وفارق الحياة.
من بعده يا دهر فافعل ما تشا
عيشى وموتى بعده سيان
الفصل العاشر
لكل اجتماع من خليلين فرقة
وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي واحدا بعد واحد
دليل على أن لا يدوم خليل
كتب الكتاب من أول الزمان، يذكرون مصاعب الموت وخطبه الجسيم، نعم، إن ما نراه من تجرع مرارة الموت ومنظر الميت من الكآبة وبكاء أهله وخلانه وسواد الملبس وانهمال الدموع على الخدود وتقريح الجفون والعيون؛ يجعل الموت في أعيننا هولا عظيما وخطبا جسيما تشمئز منه النفوس وتخافه القلوب، ولكن لو نظر الإنسان إلى متاعب الحياة الدنيا وفناء لذاتها وانقضاء أيامها، وطوح بنظره إلى أصحاب القبور الذين ينامون نوما هنيئا، لا حسد ولا منافسة ولا نميمة ولا شحناء ولا بغضاء ولا فقر ولا مرض ولا عناء ولا سهاد ولا بلواء ولا ذل ولا استعباد ولا طمع ولا شره ولا غدر ولا قتل، بل راحة نوم عميق لا تتخلله أحلام مزعجة ولا تصورات مفزعة بما سيأتي به النهار وبما ولى به الأمس، والهدو والسكينة اللذين يرفرف جناحهما على مساكنهم؛ يجد أن الموت راحة كما قال أبو العلاء:
ضجعة الموت رقدة يستريح ال
جسم منها والعيش مثل السهاد
نعم، إن خطب الموت يكون أخف وطأة إذا كان الميت من كان ينتظر موته في كل آن ولحظة، لكنه خطب هائل عند فراق من لا ينتظر فراقه، ولا سيما شاب في نضارة عمره ومقتبل شبابه وزهرة حياته:
من شاء بعدك فليمت
فعليك كنت أحاذر
أنت كنت زهرة حياتي، وأنت كنت محط آمالي، وأنت كنت قصدي ومرادي، لأجلك كان سفري، لأجلك كان تعبي، لأجلك كان فراق وطني، لأجلك رغبت في الحياة، فلا حول ولا قوة إلا بالله! ولا خير في حياة ذلها طويل وشقاؤها كثير، وما هي الحياة؟ إن هي إلا أنفاس تردد ودقائق تعد وتحسب، تنتهي كما ينتهي كل شيء، فأي طمع بعد ذلك في الحياة؟!
أنلهو وأيامنا تذهب
ونلعب والموت لا يلعب؟!
لما فارق شريف الحياة اسودت الدنيا في عيني وحرت في أمري، ولقد كان منظر أسما وهي مغشية عليها بجانب شريف يذيب القلوب، وكلما أفاقت ونظرت إلى وجهه المصفر وعينيه المقفولتين بأهدابهما السوداء؛ ناحت وبكت بكاء الثكلى، ولم أر في حياتي مثل ذلك المنظر، ومن عرف الحب ولو قليلا يمكنه أن يتصور حالة هذه المسكينة التي حين بلغها خبر موت شريف وحكايته من الخادم الذي أطلق سراحه رجال شرف الدين، تركت بيتها ولم تسأل عن لوم أبيها وأمها. ومما زادني حزنا وقطع حشاشتي طفل صغير ابن أحد خدم شرف الدين كان يحبه شريف ويلاطفه كثيرا، كما بلغني، جالس بجانبه يبكي ويقول لمن حوله: لم ينام سيدي هكذا ويتركنا نبكي عليه؟ فمتى يستيقظ يا ترى من نومه؟
فقالوا له إنه نام ولن يستيقظ أبدا، فمد يده وأمسك بيد شريف وشرع يقبلها والدموع تسيل من عينيه عليها. وبعد تغسيله وتكفينه:
ساروا به والكل باك خلفه
صعقات موسى يوم دك الطور
وبعد ذلك اليوم لم يصف لي عيش ولم تهنأ لي الإقامة بمكة وعزمت على الرجوع إلى مصر، ولكن فضلت البقاء إلى موسم الحج؛ لأعود مع الحجاج المصريين، ولم أرجع إلى منزل الحاج علي الذي حينما بلغه أن شريفا كان شقيقي أسف أسفا لا مزيد عليه وسافر من مكة إلى الهند دون أن يقابلني وأرسل لي كتابا يعتذر، ولكن هل ينفع العذر؟ وهل ينفع البكاء؟
ولقد اتخذت لي محلا أقيم فيه مع الخادم الذي لم يشأ أن يتركني، وقابلت ذلك منه بالشكران وجعلته كأخ لي.
ومضى بعد ذلك شهران، ولم يبق على موسم الحج إلا زمن يسير، وبينا أنا جالس ذات ليلة وإذا بالخادم دخل علي وأعطاني ورقة ملفوفة في منديل مزركش بالذهب، وقال: هذه أعطتنيها وصيفة لأسلمها لك، ففتحتها وظهر لي قبل قراءتها أنها رسالة غرام، فقلت: هل نحن في سرور أو في غرام أو في أحزان؟! لكل شيء زمان، فقرأت ما يأتي:
أيها الشاب الجميل
قضى الله الذي خلقك جميلا أن تمتلك قلوب البرايا، وإنني أحببت أخاك كما كان يحبني، ولكن المقادير فرقت بيننا وتركتك خليفة له وملكتني لك، فمنذ رأيتك هويتك، وهؤلاء شبان مكة لم يعجبني أحد منهم كما أعجبتني أنت وأخوك، فإن تعطفت علي بقبول محبتي عددت نفسي سعيدة ومت تحت أقدامك، وإن أردت أن أسافر معك إلى بلادك فإني طوع أمرك. فبالله، ارحم فتاة يحييها وصلك ويميتها هجرك.
أسما
فلما قرأت ذلك الجواب قلت: ما أضل هذا العالم! وما أفسد أبناءه!
وتذكرت بكاءها وعيونها تهمل الدموع، ومودتها الصادقة التي كانت تبديها فقلت: صدق والله من يقول:
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها
فليس لمخضوب البنان يمين
ثم أخذت القلم وكتبت:
أيتها الغادة الجميلة
إن فؤادي لم يبق خاليا ينتظر غرامك، وليس في وسعه أن يجمع بين اثنين، ولست ممن يغدرون بالعهود، وأنا على يقين أن حبيبتي تموت لأجلي لا أن تعشق غيري، وأنا أول من يحبك إكراما لشقيقي. فإن كنت تحبينه كما كان يحبك ومات لأجلك وبسببك، فتكرمي على أخيه برقعة من خطه سواء كان جوابا أو غراما أو غيره، واعلمي أني لا أبوح بالسر مهما عشت، ولا أنسى الدموع على منظر خدك الوردي. وفي الختام، أهديك أزكي التحية، والسلام.
شقيق عاشقك شريف
أمين فريد
ثم وضعت الجواب في منديل من عندي، وأعطيت الرد للخادم وأوصيته بتوصيله إليها وانتظار الرد، فلم ترد علي بل أرسلت جوابا كان أرسله شريف لها، وكتبت على ظهره هذه الجملة:
إني أحببتك لمحبة أخيك، فلا تظن ذلك عدم وفاء بعهده.
فقلت في نفسي: ذلك لا يهمني، إنما يهمني الجواب الذي رأيت عبارته بديعة السبك، وخطه لطيف الشكل، وهو كما يأتي:
حبيبتي أسما
إن فؤادي طوع أمرك، وقلبي في إرادتك، وهنائي في محبتك؛ فلا تحرميني من رؤية طلعتك. ولقد ذهبت بالأمس لأراك فلم تسمحي لي باللقاء ولم أدر لذلك سببا، أجفاء وما عودتنيه، أم دلالا والمحبة لا ترتضيه؟ فارحمي حشاشتي يرحمك الله، واضربي موعدا للقاء كيما أطفئ نار أشواقي بنظرة منك ترد الروح للجسد. وأهديك سلام محبك الخاضع.
شريف
وما فرغت من تلاوته حتى تناثرت الدموع على خدي، وقلت: لعمري:
ليذهب من يشاء فلست أودي
على من مات بعدك «يا شريف»
والآن، أحفظ هذا الجواب بين أوراقي التي كلما غلب علي الشوق أمر عليها، فمن جوابات حبية ونحن في عهد الصبا والهموم بعيدة، ومن جوابات أصدقاء أصفياء، ومن ... ومن ... قضى كل ذلك، وأصبحت فريدا وحيدا، لا من يسأل عني من الأحياء أو الأصدقاء، وهكذا الأيام دأبها الفتك بالأحرار:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم لها حال ولا شان
ولقد حملت علي بكل ما يمكنها من المصائب، ولم تدع في جسمي محلا إلا رشقته بسهامها. ولا بد أن أذكر هنا أن الدنيا تغيرت أمام عيني كثيرا، فلا عاد يخطر لي على بالي هناء ولا سعادة ولا آمال ولا ... ولا ... كأنني أبو العلاء حيث قال:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قيس
بصوت البشير في كل ناد
تعب كل الحياة فما أعجب
إلا من راغب في ازدياد
وأنا الآن أمضي أغلب أوقاتي في كتابة هذا التاريخ ومطالعة الكتب الدينية والأدبية، وآمل أن أعود لمصر بعد موسم الحج.
الخاتمة
وكل له يوم يتم به العمر
بينا أنا جالس في منزلي أطوف على سفينة تاريخ الزمان فكري في تقلبات الأيام، خطر ببالي ذلك الصديق الذي فارق بلاده وهو في ريعان الشباب الغض، واقتحم الأخطار الشديدة، وجاب الأقطار البعيدة، لا سعيا وراء المال بل وراء ما يجلب الشرف والفخار، وأي فخار أكثر من مخاطرة الإنسان بحياته وراء البحث على شقيق لا يعرف إن كان على قيد الحياة أو قصفت غصن شبابه المنون؟ وأقول ولا أخشى لومة لائم: إنه يندر وجود مثل ذلك الشاب في ثباته وعدم مبالاته بالأهوال، فاشتقت لمعرفة أخباره؛ لأن الصداقة تحتم علي أن أعرف أحوال من ارتضعت معه أفاويق الوفاق وأمضينا زمن التعليم في سرور وصفاء.
فكتبت جوابا لسعادة ... بك بالرمل، وسألته عن أمر فريد، فجاءني الرد قائلا إنه لم تصل لهم أخبار عنه منذ سفره، فحرت في أمري، وسألت الله أن يرد صديقي سالما.
ثم مر على تلك المراسلة شهر، وفي ذات يوم من أيام الصيف الماضي بينما كنت جالسا مع بعض أصدقائي في منزلنا وإذا بقارع يقرع الباب، فقابلته ولكن لم أعرفه ولم أتذكر أني رأيته في حياتي، ثم سلم علي وقال: هل أنت فلان؟ فأجبته بالإيجاب، وسألته أن يتفضل بالدخول، وبعد التحية وشرب القهوة قال لي: أظنك لا تعرفني. فقلت: صدقت، ولكن أتشرف بمعرفة حضرتكم.
وكان ذلك الرجل مصريا لابسا زيا عربيا، يبلغ من السن نحو الثلاثين، ولقد خطر بفكري أنه أحد أصحاب أخي أو من معارف عائلتنا، ولكنه قال: إنني لست من هذا البلد، وإنما أنا من مدينة الزقازيق، ولدي وصية كلفت بتوصيلها إليك، وهذه الوصية هي سلام فتى مات شهيد المروءة والشرف وخدمة الإنسانية. فأردت أن أقاطعه فقال: تأن وثبت جأشك.
إن ذلك الفتى - رحمه الله - يهديك سلامه الأخير وهو يعالج سكرات الموت وسط القفار، ولا قريب ولا حبيب ولا صديق ولا شفيق ولا رفيق، ويسألك أن لا تنساه ما عشت، فإن ذكراك له بقاء لاسمه الذي قصفت غصنه المنون في شبابه الغض.
فسألته عن اسم الفتى، فقال: إن اسمه أمين فريد.
فقلت باندهاش عظيم: وارحمتاه، واصديقاه! مات أمين! إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقال ذلك الرجل: أما والله لو رأيته وهو طريح بين الأحجار مضرجا بدمائه، لوددت الموت قبل رؤية ذلك المنظر المحزن، وإني ما عشت لا أنسى صورته ورأسه موضوع على حجر والدم يسيل من جنبه وخدوده صفراء وثيابه حمراء.
فسألته: وهل قتل؟ وكيف كان قتله؟
وهنا ابتدأ أن يقص علي حكايته حتى وداعه الأخير: ذهبت إلى مكة لقضاء فريضة الحج الشريف مع أهل بلدتي، ولما وصلنا إلى مكة أخذت في البحث على محل أقيم فيه بواسطة المطوف، الذي قال لي: إن هناك شابا مصريا يود أن يقابل مصريا، وذهب بي إليه ليسأله على محل، فلما تقابلنا به وجدت شابا جالسا في دكان يبيع فيها من الحراير والأقمشة ما يلزم الحجاج، وحين رآني وعرف أني مصري سلم علي باحترام وقابلني بإكرام ثم سألني عن بلدي، ولقد وقع حبه في قلبي لأول نظرة، ثم سألته عن أمره فأخبرني أولا أنه جاء الأقطار الحجازية لسبب أخبرني به فيما بعد. وفي ذلك الوقت ابتدأت صداقتي معه، ثم ترجاني أن أقيم معه حتى نعود سوية إلى مصر، وشرع في بيع ما في دكانه إلى الحجاج المصريين، الذين أحبوه للطف أخلاقه وجميل معاشرته وحسن معاملته، وفي تلك المدة عرفت قصته من رسالة كتبها عن نفسه قبل مقابلتي بزمن يسير، وهذه الرسالة معي سأعطيكها الآن كما أوصى بذلك.
ومما كنت أستغرب له صبره العظيم وسكونه التام وعقله الذكي ونباهته على صغر سنه، وأنه كان يظهر على وجهه أنه أكبر مما كان سنه؛ لما كان كابده من الهموم والمصائب التي سوف تراها في هذه الرسالة.
ولا أطيل الكلام، بعد قضاء فريضة الحج، عزمنا على زيارة قبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فباع ما عنده وودع من كانوا يودونه بمكة، وأعطى خادمه مبلغا عظيما فتح له به دكانا يبيع ويشتري فيها، وسرنا في قافلة مسافرة إلى المدينة المنورة، ولا يخفى عليك أن السفر في تلك الأصقاع محفوف بالمخاطر، فإذا اشتدت الهاجرة وضعنا رحالنا ونصبنا في خيامنا وأقمنا بقية يومنا.
وكنت تراه يدور في القافلة يتصدق على الفقراء ويساعد الضعفاء، ونحو ذلك من الخدم التي يندر أن يقوم بها شاب في سنه، وكان يتأخر عني عند سير القافلة، أعني بعد الغروب، ساعة زمانية، فأسأله أين كنت، فيجيبني أنه كان يساعد النساء اللواتي لا يقدرن على الركوب، وأنه كان يشتري للفقراء خبزا يفرقه عليهم لعشائهم، ونحو ذلك من الأعمال المبرورة. وبعد أن سرنا خمس ليال متوالية نزلنا بواد تحيط به الجبال من كل جانب، وبعد نصب الخيام وتناول قليل من الأكل خرج كعادته حاملا خبزا وطعاما وبقسماطا ليفرقها على الفقراء، أما أنا فجلست للمحادثة مع حاج مصري من مدينة طنطا، ودار بنا الحديث على أخلاق ذلك الشاب المرضية وكرم نفسه وشهامته ومساعدته للضعفاء، وقال كل منا في حقه ما يستحقه من الإطراء والإعجاب به، حتى جاء وقت القيلولة وكان الهواء حارا والعرق يسيل كالماء من جبهة الإنسان، فنمت ونام ذلك الرجل كما هي العادة، ولما استيقظت عند صلاة العصر سألت عن أمين فلم أجده، فانتظرته قليلا فلم يأت، فداخلني قلق عليه وأحس قلبي بشيء؛ إذ خفت على حياته من الجمالين الذين يفتكون بالأغنياء طمعا في سلب أموالهم، لكن فؤادي كان مطمئنا من تلك الجهة لأن الجمالين كانوا يحبون أمينا كثيرا؛ لأنه كان يواليهم بالعطايا ويتصدق عليهم بالخبز والبقسماط ونحو ذلك، ولما سألت جماله عليه أخبرني أنه خرج منذ الصباح ولم يعد، فذهبت للبحث عليه فلم أجده أبدا، فحرت في أمري وكلما سألت واحدا يخبرني أنه لم يره، إلى أن قال لي واحد إن أمينا سمع صوت صارخة تستغيث فذهب مسرعا لإنقاذها لكن لم يعد بعدها، ما سمعت هذه العبارة حتى جمد الدم في عروقي واعتراني ذهول وداخلني خوف على حياته، فذهبت إلى خيمتنا وأيقظت صاحبنا وأخذت جمالينا وذهبنا إلى الجهة التي أشار لنا إليها ناقل الخبر، وبعد أن سرنا مسافة بين الهضاب والأكمات بقلوب واجفة، رأينا وراء الأكمة ما وراءها:
ها جريح لا أنيس بقربه
بعيد عن الخلان في موطن قفر
توسد في تلك المهامه صخرة
ودمع فراق العيش من عينه يجري
فحين وقعت عيناي عليه وهو بتلك الحالة مطعونا في قلبه بسكين والدم يحيط به من جميع جهاته كأنما هو نائم على حرير أحمر، ووجهه مصفر من كثرة ما نزف من الدم؛ فصرخت من فؤاد مجروح: وافريداه! وارحمتاه! وامصيبتاه!
ودنوت منه أناديه وأقلبه، ولكن متى يسمع الميت النداء؟
وهنا بكى الرجل وبكينا بكاء شديدا، ثم قال: ولما عرفت أنه فارق الحياة وأن وقت مسير القافلة صار أقرب من قاب قوسين، أرسلت الجمالين ليحضروا لنا فأسا نحفر بها قبرا، ولما ذهبوا نظرت يمنة فوجدت ورقة ملوثة بالدماء ساقطة بقرب الحجر الذي توسده فتأملتها، وإذا هي صورة فتاة جميلة الطلعة باسمة الوجه، والظاهر أنه أخرجها من جيبه ونظر لها قبل مماته النظرة الأخيرة، وتأمل محاسنها ثم سقطت منه، ولما نظرت إلى ظهر الصورة رأيت فيها كتابة حمراء، ظهر لي أنه كتبها بعود أملاه من دمه، وهيئة الكتابة كما ستراها تدل على ارتجاف أعضائه، وسأعطيك هذه الصورة ترى رأيك فيها. وعند ذلك جاء الجمالان بفأس فأمرتهما بالحفر بينما صليت عليه مع رفيقي وفتشت ملابسه فوجدت منديلا مطرزا بالحرير داخل قميصه كأنما جعله أقرب الأشياء إلى قلبه وعليه كتابة إفرنجية لا أعرفها، ولم أجد حزامه الذي كان يحمل فيه النقود، ويظهر أن القتلة المجرمين الذين لا يرحمون صغيرا ولا يوقرون كبيرا ولا يشفقون على الأرواح الطاهرة الزكية، سلبوا ذلك الحزام بما فيه من كثير النقود، وفي الحال واريناه التراب بلا كفن بل بثيابه الحمراء كما تدفن الشهداء، ودموعنا تسيل مدرارا وأفئدتنا تتقطع إربا، ثم بحثنا على حجر كبير وضعناه قرب رأسه وحفرنا عليه بالسكين:
شهيد المروءة والشرف أمين فريد المصري.
وقد أقبل الظلام يجر ذيوله السوداء ولم يبق على مسير القافلة إلا زمن يسير، وكلما رغبت في تركه أمشي قليلا وأرجع للوراء وأقول: السلام عليك يا أمين، السلام عليك يا أمين إلى يوم القيامة.
وهنا بكينا بكاء مرا، وذرفنا الدموع الحرى.
وبالاختصار أيها الصديق، رجعنا إلى القافلة وما انتشر خبر موته حتى علت الضوضاء، وناحت الفقراء، وبكت الضعفاء، وتأسفت الأغنياء والأقوياء، وتأخر مسير القافلة نحو ساعة زمانية ذهب فيها بعضهم لرؤية مدفنه، وبعد ذلك سرنا نطوي القفار طي السجل، وأنا غائب عن هذا العالم الدنيوي، وصورة ذلك الشاب مرسومة في مخيلتي فلم أنسها ولن أنساها ما عشت، وكلما غلب علي الشوق أنظر ورائي في ضوء القمر الساطع، وأطوح بنظري إلى الوراء، وأتصور في مخيلتي قبره ومقتله، فأذرف الدموع وأردد الزفرات، حتى وضعنا رحالنا في الصباح وعزاني من يعرفه في القافلة، وناحت الفقراء والمساكين قائلين: من لنا بعدك يا أبا الفقراء، ومعين الضعفاء؟!
والموت نقاد على كفه
جواهر يختار منها الجياد
وهذه هي الصورة.
وناولني ورقة ملوثة بالدم المصفر، فنظرنا إلى الصورة فرأيت أنها مصورة بالإسكندرية، وعرفت أنها ولا شك صورة حبيبته، ثم رأيت في ظهرها ما يأتي مكتوبا بعود مداده دم مصفر كلون الزعفران:
آه من سفر بغير إياب!
آه من حسرة على الأحباب!
آه من مضجعي فريدا وحيدا
فوق فرش من الحصى والتراب!
تفقدت من يبكي علي فلم أجد
سوى صورة المحبوب بين يميني
الوداع يا روح، الوداع يا دنيا، الوداع يا سكينة، الوداع الوداع.
لقد قتلني من لا يرحم ولا يخاف الله بينما كنت أخلص منه فتاة فتك بها، وموعدي وإياه يوم القيامة، الله يخلص لي منه! الله عالم، الله خبير. إذا بحثت علي يا حاج إبراهيم ورأيت هذه الورقة، فاهد سلامي الأخير إلى صديقي الذي ذكرته لك كثيرا، وأعطه ترجمة حياتي. ومني عليك السلام إلى يوم ... م القيام ...
ولقد حفظت هذه الصورة وترجمة حياته، وأرسلت ما بقي من ممتلكاته إلى ... بك بالرمل، وأخبرته بالقصة في جواب، ولم أدر ماذا جرى عندهم، ولا شك أن حبيبته التي يذكرها في ترجمة حياته سفكت الدموع ورثته رثاء بفؤاد مجروح.
أما أنا فأقول لمن يطلع على هذه الرواية من الإخوان الذين عاشرونا مدة المدرسة، أن لا يتعبوا أفكارهم في الوقت على الحقيقة، ومن هو اليتيم، ومن هو الصديق، ومن هو العاشق، ومن هو المعشوق، فإن الأسماء مستعارة، والرواية تحت طلسم لا يعلم غامضه إلا الله وواضعها، وإذا قال الإخوان إنه يقصد بذلك فلانا، ويقصد بذلك نفسه، ونحو ذلك؛ فإنما يرجمون بالغيب ويشغلون أفكارهم فيما لا فائدة فيه، فالأولى بهم أن يعملوا بنصائحها ويتشبهوا بصاحبها، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وأرجو من يطلع عليها أن يغض الطرف عن الهفوات والزلات، فجل من لا يسهو وجل من لا ينسى، وأول الغيث قطر ثم ينسكب، وأسأل الله أن يوفقني وإياهم لما فيه النفع للعباد والبلاد آمين.
অজানা পৃষ্ঠা