ذوائبه حتى يقال: غدير
بيتان ليس لهما رنين ولا بهرج، ولا بارقة من المحسنات وأفانين الأناقة؛ ولكنهما لا يدعان محسوسة واحدة من محسوسات حقل الكتان إلا وعياها وسجلاها والتهماها، كما يلتهم الفم الجائع ما يشتهيه.
فالصورة المرئية لها عناصرها التي تتم بها من جميع نواحيها: عنصر المنظر كله، وعنصر اللون، وعنصر اللمس، وعنصر الوقت الذي تراها فيه، وعنصر الموقع الذي تقع فيه من المكان، وعنصر الحركة.
ما من شيء يبقى في الصورة المرئية بعد استيعاب هذا، وما من شيء من هذا لم يستوعبه ذانك البيتان.
في كلمة «جلس» تمثيل للمنظر كله، اختارها ولم يختر كلمة حقل أو مزرعة أو ما شابه هذه الكلمات؛ لأنها تمثل المنظر تمثيلا لا يتفق لسواها.
وأخضر تذكرنا اللون، وناعم تذكرنا اللمس، والتوسن يذكرنا وقت الوسن وشعور الوسن في وقت واحد، وداني الرباب المطير يمثل لنا حواشي المكان حيث تحيط بذلك الكتان، واطراد الذوائب كاطراد الغدير يمثل لنا الحركة على أحسن تشبيه وأصدق محاكاة.
تمت الصورة على هذا النحو؛ لأن كل حاسة من حواس هذا الشاعر الخالد هي في جوعها إلى محسوساتها كالفم الجائع إلى الطعام الذي تقوم به الحياة.
زجاجة حساسة شاملة لا تخطئ شيئا مما يقابلها؛ وتصيبه لأنها حية حية، بالغة في الحياة، لا لمراعاة النظير ولا لتجويد المحسنات ولا لطرق الأبواب التي تقدم بطرقها الشعراء.
إذا قرئ ابن الرومي على هذا النحو عرف ابن الرومي شاعرا لا نظير له في آداب الدنيا، وإنما الطريق إلى قراءته على هذا النحو أن نحس كما أحس، وأن نعلم ما عنده لنبحث عنه، ونلتفت إليه ونظفر به حيثما وجدناه.
ولمن شاء أن يذكرني ما شاء من أبيات وصفه، أبين له ما فيها من عناصر الاستيعاب التي لم تتفق لغيره من الشعراء، فإنما وصفه لجلس الكتان نموذج قريب المتناول لسائر الأوصاف.
অজানা পৃষ্ঠা