أرسل إلي أديب يسألني وجهة نظره في رأيه هذا: ... ولست أدري لماذا تصرون على أن تكون هناك علاقة بين الأدب وقيادة الجيوش، أو بينه وبين انجذاب أهل الطريق، ففي رأيي أن لا علاقة هناك إلا علاقة الطموح، والرغبة في نعم الشهرة المنعقدة فوق جبين الكثيرين ... فطموحكم من مطالع صباكم هو الذي حبب إليكم أن تكون شيخا يحيط بكم ما كان يحيط بمشايخ حيكم من احترام وتبجيل في بيئة كالتي نشأتم بها، والتي يبدو لي أنها كانت شديدة التقوى كثيرة الاحتفاء بالدين ورجاله، ثم تحولت الأنظار إلى الجيش المصري والإنجليزي الهابطين من السودان، وكثر الحديث عنهما وعن قوادهما في بلدكم، فتحولت «بوصلة» الطموح عندكم إلى هذا القطب الجديد. هذا رأيي الذي أظنه الصواب، وقد جربت مثل ذلك بنفسي، وتمنيت وأنا في المدرسة الابتدائية أن أكون لاعب كرة يحيط بي من تصفيق الطلبة وإعجابهم ما يحيط بمشاهير اللاعبين، ثم تمنيت من أول دراستي الثانوية أن أكون محاميا، وأنتم تعلمون شدة اهتمام الجمهور بقضايا عهد صدقي باشا السياسية.
ورأيي أن الطموح تفسير وليس بتفسير.
فالناس يشتهرون بألوف الأشياء، ويظهرون بين أقوامهم بكثير من المزايا التي تكفل لأصحابها الوجاهة، وارتفاع الصوت والصيت: بالمال والمنصب والهيبة الدينية أو الدنيوية، وبالعلم على اختلاف أبوابه وتعدد مناحيه، وبالنبوغ في الألعاب والفنون التي يدركها الجمهور بداهة، أو يدركها محاكاة لمن هم أرفع منه في المنزلة والمعرفة، وكلهم طامح، وكلهم محقق لما تمناه من الطموح.
فليس بتفسير أن يقال: إن هذا الشاعر العظيم بلغ مكانه من الشهرة الشعرية؛ لأنه طامح، وأن هذا المهندس العظيم بلغ مكانه من الشهرة العلمية؛ لأنه طامح، وأن هذا الغني العظيم بلغ مكانه من الثراء واليسار لأنه طامح، وأن كل عظيم طمح فاشتهر لأنه تعلق بالطموح.
كلا، ليس هذا بتفسير فيما أرى.
وليس هذا بالحقيقة فيما أعلم من شأن نفسي، وفيما أعلم من شأن البواعث التي حفزتني إلى معالجة «الدروشة» والكرامات الدينية، وحفزتني إلى قيادة الجيوش والغلبة في القتال، وحفزتني حيث استقر بي المطاف إلى المضي في طريق الأدب والكتابة دون كل طريق.
فلو كانت المسألة طموحا وتطلعا إلى الحفاوة لكان الأولى بي أن أطمح إلى جمع المال والتوسع في التجارة؛ لأنها قبلة الأنظار في بلد له في التجارة تاريخ عريق، حتى قيل: إن اسم الإقليم مستمد من اسم السوق.
بل لو كانت المسألة طموحا إلى الحفاوة التي يلقاها رجال الدين لكان الأولى بي أن أطمح إلى مكانة القضاة، الذين يخرجون بين الحراس والحجاب، ويتقدمون على رجال الحكم ورجال الجيش حيثما اجتمعوا معا في مكان حافل أو مأدبة حكومية، أو لكان الأولى بي أن أطمح إلى منزلة كمنزلة أستاذنا الفقيه الأديب الأستاذ أحمد الجداوي - رحمه الله - وكانت له حلقة دينية أدبية يتردد عليها أعاظم القوم، ويجلسون بين يديه جلسة الخشوع والتوقير، وكانت له إلى جانب ذلك مساجلات أدبية يحج إليها المعلمون والمتعلمون، ويتندر بفكاهاتها وطرائفها من يدرسون ومن لا يدرسون.
أما حياة «الأسرار» الدينية فلم تكن محل ظهور ولا وجاهة بين الناس، ولم يكن أحد ممن يقتدى بهم في هذا المجال على مظهر يشوق الطفل الناشئ أن يحكيه، أو يعيش على غراره: مظهر مسكنة وحرمان وشظف وانقطاع.
وأدل من هذا على خطأ التفسير بالطموح في هذا الصدد أن الظهور وطلب الكرامات والأسرار نقيضان كما تنبئنا أول صفحة من أول كتاب في مناقب الصالحين.
অজানা পৃষ্ঠা