أصبحت قضية فنيسيه بعد أن قطعت روما المفاوضات من القضايا اليومية، ولو منح النمسويون الحكم الذاتي عملا بأحكام فيلافرنكة لكان في ذلك احتمال إذعان فنيسيه لهم ولو على مضض، أما الذي وقع فعلا فهو أن النمسويين بذلوا جهدهم للقضاء على الحيوية الإيطالية بإملاء الإدارة بالموظفين الألمان وبنشر القوانين باللغة الألمانية، وقد قوبلت تصرفات النمسة من قبل أهل فنيسيه باشمئزاز وسخط تجليا بالمقاومة السلبية؛ إذ إنهم رفضوا الاشتراك في انتخابات النواب للمجلس النيابي الإمبراطوري، وأعلنوا إخلاصهم وولاءهم لفيكتور عمانوئيل غير هيابين.
وقد تألفت في جميع المدن لجان ثورية، وظلت عصابة صغيرة مواظبة على الثورة في الجبال في صيف سنة 1864، وفي خريفها انتهت الثورة بالفشل المحتوم، ولكن مازيني انتهز فرصة الشغب الذي حدث في بيمونته ودعا إلى مساعدة أهل فنيسيه، وأصبحت الاتصالات بين مازيني وبين بعض أعضاء الحزب الدائم في أوائل سنة 1865 نشطة جدا.
وقد أخذ رسله يثيرون الرأي العام، وانكبوا على جمع المتطوعين لنجدة الثائرين من أهل فنيسيه وكان منتظرا أن تشب الثورة في نيسان، بيد أن مازيني اعتبر بالوقائع الماضية، واجتنب زج نفسه في ثورة مبتسرة، ولما أدرك أن المواد غير كافية لإيقاد الثورة واستمرارها؛ أجلها إلى ربيع سنة 1866.
ولم تقتصر الرغبة في حسم قضية فنيسيه بالقوة على مازيني ورفقائه المتآمرين من الحزب الدائم فحسب، بل إنه كان حتى بين الذين اهتموا كثيرا بروما رجال كلانزا؛ يرتئون بأن طريق روما إنما يمر بفيرونه، وكان كثير من الوطنيين القلقين على مصير بلادهم يشعرون بأن الحرب تقوي الأمة وتحول دون التفسخ الذي أخذ يصيب البلاد، وكانوا ينتظرون - بفارغ الصبر - الساعة التي يطرد فيها النمسويون من إيطالية فتنصرف البلاد إلى الاقتصاد الممكن في النفقات وتستطيع تنظيم أمورها.
ويظهر أن لانزا كف عن سياسة وضع العثرات أمام استعدادات مازيني وأولى اللجان الفنيسية بعض رعايته، على أن خروجه من الوزارة أنهى علاقة الحكومة بالثورة، وكان رجال الدولة الإيطالية مجمعين على أن الثورة أمر ثانوي وأن المهم هو الحصول على حليف في الخارج يكون عدوا للنمسة، وكان الكثيرون من رجال الدولة يدركون ما لدى النمسة من قوة وبأس، ويعلمون أن تنظيماتها العسكرية تفوق تنظيمات الجيش الإيطالي الفتي، وكانوا يخشون أن تتحطم إيطالية مرة أخرى أمام القلاع الأربع.
وكان الرجاء في إمكان زج الإمبراطور في حرب جديدة ضعيفا، وأضعف منه رغبة الناس فيه، وقد لحظ رجال الدولة الإيطالية أن الحوادث تسوقهم إلى حليف آخر، ربما كان أقل قوة من حليفهم الأول ولكنه أقل منه مطالبة، وكانت بروسية مضطرة - عاجلا أو آجلا - إلى أن تشهر الحرب على النمسة؛ في سبيل الهيمنة على ألمانية، وكان تعيين الأمير ويلهلم وصيا زمن أخيه الملك فردريك ويلهلم الرابع في سنة 1858 فاتحة سياسة جديدة جريئة، وقد أخذ رجال الدولة الألمانية يرون - منذ سنة 1856 - أن بيمونته حليفة طبيعية، وقد أكد «شلايخ» في السنة ذاتها لمارامورا بأن بروسية لن تقوم بأي عمل يحول دون حسم قضية فنيسيه، وبعد انقضاء عشرين شهرا على هذا التصريح تقلد بيسمارك رئاسة الوزارة في بروسية، ولم تكد تقترب سنة 1862 من نهايتها حتى جس نبض وزارة منجيني بالنسبة لموقف إيطالية في حالة مهاجمة بروسية للنمسة، وكان كافور قد قال للسفير البروسي سنة 1859: «ستشكر بروسية ذات يوم لبيمونته ذلك المثل الذي أعطته إياها.»
وقد أتقن بيسمارك هذا الدرس، وكانت سياسته تقوم على اقتناعه بأن بروسية والنمسة لا تستطيعان البقاء معا في الاتحاد الألماني ولكنه كان وحيدا في رأيه؛ فالملك والبلاد كانت تعارض في نشوب أية حرب ضد شعب جرماني آخر.
ويضاف إلى هذا أن بلاط برلين كان غير موال لإيطالية، وأن النظرية القائلة بأن القلاع الأربع لازمة لأمن ألمانية، وأنه يجب أن تحتفظ ألمانية بها ما دام الإفرنسيون يحتفظون بروما؛ لا تزال قوية. وقد صرح بيسمارك - في أثناء أزمة شلزويج وهولشتاين - للسفير الإيطالي بأنه لم يستخدم النمسة إلا للوصول إلى أهدافه، وأن إيطالية هي الصديقة الطبيعية لبروسية.
وكانت وزارة الخارجية الإيطالية تضع فكرة محالفة بروسية نصب أعينها، وكان باسولين قد قال لبيسمارك سنة 1862 إن إيطالية تنضم دائما لجانب أعداء النمسة، وقد وجه لامارمورا نظره منذ قبض على زمام الحكم نحو برلين مع علمه بأن اتفاقا رسميا بين إيطالية وبرلين لا يزال بعيدا، ثم إنه كان يتوقع بأن تذعن النمسة فرضي ببيع فنيسيه أو باستبدال إيالة البوسنة تعويضا لذلك خشية اتفاق إيطالية مع أعدائها.
وربما كان يقدم على الاتفاق معها ومع فرنسة إذا قضى الاتفاق على التخلي عن فنيسيه، أما بيسمارك فانتهز فرصة المفاوضات لعقد معاهدة تجارية مع إيطالية، وسعى لأن يأخذ من لامارمورا وعدا بأن يساعده في حالة خلاف مع فينا، حتى إنه ارتاب في وقت من الأوقات من وجود ائتلاف بين فرنسة والنمسة، وكان لامارمورا يدرك بأن إيطالية لن تكون بالنسبة لبيسمارك سوى بيدق في لعبة الشطرنج.
অজানা পৃষ্ঠা