الفصل الخامس والثلاثون
ميثاق إيلول
كانون الأول 1862-إيلول 1864
وكان هناك مشاكل جمة تثقل كاهل المملكة الفتية وصعوبات تعترض سبيلها ، وقد كشفت وقائع أسبرومونته عن الجروح المميتة التي ولدتها البابوية وفرنسة في قلب روما، وأي حل قاس فرض على المملكة؟ فإما المخاطرة باصطدام مخيف مع فرنسة وإما ترك النار تحت الرماد لتؤججها الرياح وتقلبها إلى ثورة، ولو كان كافور حيا لاستطاع أن يتغلب على تلك الصعوبات، وكانت لا تزال أمام إيطالية صعوبات أخرى: صعوبة تخفيض قوة الجيش ما دامت فنيسيه خاضعة لحكم الأجانب؛ لأن الأزمة المالية التي نشأت من زيادة قوة الجيش وأخذت تشتد باستمرار كانت تهدد بالإفلاس، يضاف إلى ذلك خلل الإدارة في الجنوب والمنافسة بين بيمونته والأقطار الجديدة والفساد الذي دب في الحكومات القديمة.
وساءت السياسة الداخلية كثيرا حتى أصبح بوسع المرء أن يتساءل: أليس من الأجدر أن تترك إيطالية روما وفنيسيه مدة من الزمن وأن تتفرغ للإصلاحات الداخلية الاجتماعية؟ بيد أن هذا السؤال هو منطق نظري لأن العاطفة هي التي تتغلب دائما على المنطق حين يشتد الهياج، فسياسة ترمي إلى جعل فكرة التوسع القومي في المرتبة الثانية من الاهتمام مستحيلة التطبيق، وقد سعى «باسوليني» بعد سقوط رتازي وتلاه سان مارتينو؛ لتأليف وزارة إدارية بدون تمييز بين الأحزاب، ففشل مسعاهما، وكان كلما مر حين أو انقضى شهر يتجلى عظم الخسارة التي منيت بها إيطالية بفقدها كافور، وكان ريكاسولي ورتازي يدركان - على الأقل - بعض ما تحتاج إليه البلاد ويفهمان ما تتطلبه الكرامة القومية، ولكن الحكومة بعدهما غدت بأيدي أناس لا جرأة لهم ولا كفاية فيهم.
وكان الرئيس الأسمى في الوزارة الجديدة فاريني، إلا أن المرض ألجأه في شهر آذار إلى اعتزال الخدمة، فأصبح الرئيسان الفعليان في الوزارة منجيني وزميله ومنافسه بيروزي، وكان بيروزي قد اشتهر بالعبارة التي ابتدعها وهي: لا يمكن أن تحكم إيطالية من تورينو، وأصبحت إدارة وزارة الداخلية في إدارته وإدارة «سبافينته» مركزا لشرطة سرية سارت على أساليب ترجع إلى دور الاستبداد القديم، ولا يجوز أن تصدر عن حكومة حرة كقمع الصحافة أو فسادها بالخفاء واستخدام الرجال السريين من فاسدي الأخلاق، وكانت سياستهم قتل الوقت وكانت سياسة قتل الوقت في إيطالية تعني المصيبة.
وسارت مالية الدولة من سيئ إلى أسوأ، وأديرت صقلية ونابولي من قبل السلطات العسكرية، ولعل أشد ما اتهمت به وزارة منجيني تشجيعها فكرة مهاجمة زعماء بيمونته، وكان بعض البيمونتيين الذين اشتركوا في الوزارة قد شغلوا المراكز الثانوية، فانجرفت الوزارة إلى جانب عصبة الدسائس حتى شاع أنها أفسدت الصحافة بإقناعها بالدفاع عن موضوع نقل العاصمة إلى فلورنسة، وأصبح من السهل أن تتشرب السياسة بالتحزب، وكان عدد كبير من النواب قد تعلم في المنفى أو في حياة قضاها في المعارضة عادة جعلتهم يصلحون للحياة النيابية وراحوا يفضلون التنفيذ على القيام بواجبات التشريع، أما الأكثرية الكافورية القديمة فقد تجزأت وانقسم المجلس النيابي إلى جماعات صغيرة تستند إلى مصالح شخصية أو محلية أكثر من استنادها إلى المبادئ، مما جعل الحكومة لا تستطيع أن تعتمد على أكثرية مستقرة.
أما فضيحة السكك الحديدية في الجنوب، فقد أظهرت للعيان الروح الحزبية التي كانت تسيطر على المجلس النيابي، وتفصيل الأمر أنه كانت من أهم واجبات المملكة الجديدة تشجيع إنشاء السكك الحديدية ولا سيما في الجنوب، ومما قاله ريكاسولي في هذا الشأن «إن السكك الحديدية تعمل للقضاء على الشقاوة أكثر مما تعمله عشرة ألوية من الجند.»
وكان المجلس النيابي قد منح امتيازا بتمديد السكك الحديدية من الجنود إلى «باستوجي» أحد أصحاب المصارف من ليفورنه وزير المالية في وزارة كافور، وانتشرت في ربع سنة 1864 شائعات عن سوء استعمال في المشروع وبتحريض اليسار تألفت لجنة للتحقيق عن الفضيحة، ومع أن تقرير اللجنة اتهم باستوجي ونائبا آخر فإنه لم يتعرض للآخرين، وفي الحقيقة ظل رؤساء الوزارات نزيهين؛ إذ لم يتطرق الفساد إليهم، وكان جميع رجال الدولة في الثورة من الذين لا ثروة لهم وقد ماتوا فقراء، ومع ذلك ظلت الشائعات تتهم اللجنة بأنها لم تقم بواجبها بل تأثرت بالروح الحزبية، وكان بدهيا أن يشجع عجز الحكومة والبرلمان الحزب الثوري.
وظلت سياسة مازيني تستهدف فنيسيه قبل روما، وكان مازيني لا يعتبر المعركة لإنقاذ فنيسيه مجرد خطوة نحو إكمال كمال الوحدة الإيطالية فحسب ، بل إنها جزء من سياسة أوروبية ترمي إلى تجزئة الإمبراطورية النمسوية إلى أجزاء حسب القوميات التي تتألف منها، وكان يدعو إلى نجدة الثوار البولونيين بتحرير السلافيين من غاليسية، ويأمل في حمل الحكومة على خوض غمار الحرب للاستيلاء على فنيسيه، ولكنه كان يدرك تعذر طرد النمسويين من القلاع الأربع من دون الجيش، كما أنه كان مقتنعا بأن الحكومة لن تكون هي البادئة بالحركة.
অজানা পৃষ্ঠা