أقول يا سيدي ثلاث جثث لا حراك بها، ولكن الحقيقة أنهما جثتان ميتان، وأما الثالثة فهي جثتي أنا التي كنت قد مت ثم بعثت حية كما تراني.
فقد غرق جيلبير وروبير، وكنت أظن أني سألحق بهما، ولكن أبى الله إلا أن يبعد عني الموت ليزيد في شقائي وتعذيبي، ولما أفقت من غشيتي وجدت نفسي في وسط إحدى السفن وحولي جماعة من الرجال يعتنون بأمري، وينبهون حواسي لأفيق من غشيتي وأمامي جثتان
هما جثتا ولدي المحبوبين وثمرة أحشائي وموضوع رجائي وعزائي، وهنا لا تطلب مني يا سيدي أن أشرح لك ما اعتراني من الذهول والجنون؛ فاحتملت هاتين الجثتين العزيزتين وطلبت إلى أصحاب السفن أن يسمحوا لي بالنزول إلى أحد جوانب هذه الجزيرة التي غرقنا فيها يكون الماء بعيدا عنه، فأجابوا طلبي بعد إلحاح طويل، وهناك دفنت ولدي المحبوبين بيدي وبللت قبرهما بدموعي الغزيرة، وأقسمت أن لا أنتقل من هذه البقعة التي ضم ثراها أعز الناس عندي وأحبهم لدي، ومن ثم أخذت أهيم على وجهي في هذه الصحراء، وقد كانت تأخذني نوبة من الجنون حينما أتذكر شيئا من ماضي حياتي التعيسة، وها أنا كما تراني يا سيدي منفردة في هذا الخلاء لا أنيس لي غير آكام البر وصخور البحر، ولست أسمع غير قصف الرعود ولا أرى إلا هطول الأمطار وتراكم الثلوج وتلاطم الأمواج، أتسول وأعيش من فضلات أهل الخير والإحسان، أنا التي ربيت في مهد العز والدلال، ومن الغريب أن كل هذه المصائب والنوائب انهالت على رأسي، ومع ذلك لم أزل حية أرزق إلى الآن.
قالت ذلك ثم التفتت إلى أمواج البحر المتلاطمة تحت الصخرة التي كانت مادلين جالسة عليها مع ذلك السائح المجهول وهي تقص عليه تاريخ حياتها، وهو ينظر إليها بقلب مفعم بعوامل الحزن والشفقة، وعند ذلك تأوهت وظهرت عليها علامات الانقباض والاكتئاب، ثم عادت فاستأنفت الحديث وقالت للسائح:
الفصل السادس عشر
والآن اسمع يا سيدي خاتمة قصتي؛ لتعلم أن المرأة المسكينة التي تراها الآن جالسة معك قدرت - مع شدة ضعفها وجبنها - أن تنتقم لنفسها وتأخذ بثأرها من ذلك الذي نغص عيشها وجلب عليها كل هذا الذل والهوان.
إنني بينما كنت أجول في أطراف هذه الجزيرة المقفرة لمحت على بعد شخصا نزل من إحدى السفن الراسية على مقربة مني وهو مقبل إلي يخطر بثيابه الرثة وأطماره البالية، أما أنا فظننته في مبدأ الأمر أحد السياح الذين تعودوا أن يتخذوا لهم زيا بسيطا ما داموا في الغربة؛ فبادرت إليه لأسأله الصدقة حسب عادتي، ولكني لما تفرست في وجهه اعتراني الانزعاج والاضطراب؛ لأني علمت أنه زوجي راعول أفضى به الحال إلى التجول في المدن والقرى يتسول مثلي الصدقة، ويطلب الإحسان، ولما نظرني لم يعرفني فظنني امرأة فقيرة جئت أسأله الصدقة، فقال: هوني عليك يا مسكينة، ولا تعللي نفسك بالمحلل؛ فأنا أشد فاقة منك وأكثر احتياجا إلى القوت الضروري، ثم تركني وذهب في حال سبيله.
أما أنا فتبعته واقتفيت أثره على بعد، وإذا به قد صعد إلى صخرة عالية يريد الجلوس تحت ظل شجرة فيها، وكان كلما تقدم إلى الأمام يلتفت فيراني أتبعه فيدنو مني ويسألني عن قصدي فلا أجيبه بشيء؛ فزاد حنقه وغيظه واقترب من طرف الصخرة التي كنا واقفين عليها وناداني بأعلى صوته: من تكونين يا هذه، وما شأنك؟ وماذا تريدين؟ أما أنا فلم أبد حراكا ولم أفه ببنت شفة حسب عادتي، وحينذاك صرخ راعول في وجهي متهكما وقد هز كتفيه وحرك رأسه بازدراء وقال: يظهر أنك يا هذه شبح لا حياة فيه أو صنم لا حراك به.
فعند ذلك نزعت الرداء الذي كنت أغطي به رأسي ودنوت من هذا الوحش الضاري فناديته بصوت جهير: أجل، أنا شبح زوجتك مادلين المنكودة الحظ، التي أوصلتها إلى هذه الحالة التعيسة بسوء تصرفك ودناءة سلوكك جاءت تطلب الانتقام وأخذ الثأر.
فلما سمع مني راعول هذا الكلام اعترته الدهشة والانزعاج، وكأن الأرض فتحت فاها لتبتلعه أو انشقت ميازيب السماء لتمطر عليه صواعق الغضب والانتقام، فأجفل ورجع إلى الوراء ولم يتمالك نفسه حتى سقط من أعلى الصخرة إلى الأرض، وفي اليوم الثاني أشيع بهذه المدينة خبر موته.
অজানা পৃষ্ঠা