فرفعت نظري إلى الجهة التي أشار إليها جيلبير فتأكدت أن كلامه صحيحا، لكني حمدت الله؛ لأن راعول كان لم يزل بعيدا عنا كثيرا وقد تأكد عندي أنه لم يرنا بعد، فحملت ولدي على ذراعي وبادرت مسرعة أطلب الفرار من وجه هذا الوحش المفترس؛ لأني كنت واثقة بأنه إذا قبض علينا هذه المرة فلا نعود نستطيع الخلاص من تلك الورطة الوبيلة، ثم عرجت من طريق آخر متجهة نحو قرية «سان سرفان» في بقعة جبلية مهجورة تعلوها الرمال والصخور، ولا يسكن فيها أحد من بني الإنسان، ولجأت إلى صخرة عالية فجلسنا تحتها، وقد أنهكنا التعب وعزمنا على أن نقضي يومنا كله في هذا الملجأ الحصين، حتى إذا أقبل الليل خرجنا نفتش على مأوى آخر في قرية «سان سرفان».
أما روبير وجيلبير؛ فقد كانا في ذلك الوقت في حالة يلين لها الجماد وتتفتت منها الأكباد من شدة ما قاسياه في هذه السياحة المشئومة من المشقة والعناء، فأدخلتهما إلى فوهة تلك الصخرة العالية، وفرشت لهما شيئا من الملابس فاضطجعا عليها وأخذتهما سنة النوم؛ فغرقا في بحر الكرى، وبقيت أنا أحرسهما حتى المساء، ثم تركتهما وخرجت إلى الخلا أريد استنشاق الهواء النقي وأتدبر في كيفية الوصول إلى القرية التي نقصدها في هذه الليلة قبل أن يداهمنا مصاب آخر لم يكن في الحسبان، ولكني ما كدت أصل إلى الخارج حتى دهشت اندهاشا عظيما، ولم أتمالك أن صرخت بأعلى صوتي يا للمصيبة العظمى، ويا للداهية الدهماء، لقد هلكنا لا محالة، فارحمنا يا الله ولا تتخل عنا.
وعند ذلك نهض ولداي من نومهما على إثر هذا الصراخ وبادرا إلي مسرعين وهما يناديان: ماذا جرى يا أماه، هل وصل والدنا إلى هنا يريد القبض علينا؟
قلت: حبذا لو صح ذلك؛ فإن هذه مصيبة أعظم وأدهى مما تظنان. قالا: وكيف ذلك؟
قلت: إن عدوا آخر أكثر بطشا وأصعب مراسا من والدكما يتهددنا الآن؛ فانظرا أمامكما وأنتما تعلمان حقيقة الخبر.
ذلك أن البحيرة التي كانت على مقربة منا حدث بها فيضان عظيم فجأة وانهالت على ما يجاورها من الآكام والصخور فغطت أغلبها، وأصبح الماء محاصرا لنا من كل الجهات، وقد كاد يغطي الصخرة التي كنا نأوي إليها أيضا.
وهنا لا حاجة لي يا سيدي أن أخبرك كيف كان حالنا وقد أحدق بنا الخطر من كل جانب، وصرنا ننتظر الهلاك بفروغ الصبر؛ فكيف ننجو وإلى أين نهرب وقد سدت في وجهنا كل المسالك، ولسنا نرى أمامنا سفينة أو قاربا حتى ننادي أصحابه فيأتون إلى إنقاذنا والأخذ بناصرنا، وساعة الموت تدنو إلينا بسرعة غريبة وقد عدمنا النصير وانقطع عنا كل رجاء، أما أنا فكاد عقلي يطير من شدة الهلع والجزع، ولم أكن أخشى الموت حبا في الحياة؛ لأنها أصبحت لدي بلا قيمة ولا اعتبار، ولكني أم ترى بعينها ما سيحل بولديها أمام عينها من الهلاك، وتعلم أنها هي التي جنت على نفسها وعليهما ولا تضيق في وجهها سعة الفضاء، فكنا نصرخ بأعلى أصواتنا طالبين النجاة والخلاص، ولكن صدى صوتنا كان يرجع إلينا فارغا والمياه تزداد انهيالا علينا، فاستفزتني عندئذ عوامل الحنان والمحبة الوالدية، فحملت ولدي على ذراعي وطفقت أتسلق على هذه الصخرة العالية لأحميهما من شر هذا الفيضان العظيم، ولكني كلما حاولت الصعود زاد الماء ارتفاعا حتى وصل إلى قمة الصخرة وغمر نصف قامتي وكاد يبتلعنا كلنا مرة واحدة.
فحملت ولدي على ذراعي.
وكنت أجول بنظري في ذلك الوقت يمنة ويسرة فلا أرى إنسانا ولا أنظر شبحا، ولا تقع عيني إلا على الجبال المقفرة والآكام العالية تحيط بها القبة الزرقاء التي كانت في ذلك الوقت متلبدة بالغيوم الكثيفة والسحب المظلمة، فطفقت أصرخ وأستغيث من فؤاد مجروح وقلب مكلوم، ولكن صراخي كان ينتشر في الفضاء ويذهب أدراج الرياح، وبينما أنا في هذا الموقف الحرج والحالة الفظيعة التي لا يستطيع أبلغ كاتب وأفصح خطيب أن يقوم بإيفاء وصفها لاحت مني التفاتة؛ فرأيت على بعد أشباحا هائلة تدنو إلينا، ولما اقتربت منا علمت أنها سفن تجارية، فرفعت ذراعي إلى السماء وأخذت أصرخ وأستغيث بصوت عال، ولكن من يقدر أن يوصل هذا الأنين الضعيف إلى آذان الذين نريد أن تصل إليهم أصواتنا وهم بعيدون عنا كل ذلك والماء يزداد فيضانا وارتفاعا حتى وصل إلى رءوسنا بعد أن غطى كل أجسامنا، أما أنا فأردت أن أحمل ولدي وأنهض بهما إلى صخرة أعلى من هذه يكون الماء بعيدا عنها، ولكن حينما حاولت القيام رأيت نفسي عاجزة عنه، إذ تشنجت أعصابي وخارت قواي ولم تقر أقدامي على النهوض، وبعد بضع ثوان غمرنا الماء ودفعنا تياره إلى قاع البحر، وهناك لم أر لولدي أثرا ولم أقف لهما على خبر، فغشي علي من شدة اليأس والذهول، واستسلمت لعوامل القنوط، وسلمت نفسي ليد المنون عن طيب خاطر؛ لأنه لم يبق لي مطمع في الحياة بعد هذا المصاب العظيم.
عند ذلك دنت تلك السفن، وقد شاهدتنا على بعد؛ فأتت تريد إنقاذنا، ولكن بعد أن نزل القضاء وحل البلاء؛ فأنزل بعض الملاحين قوارب صغيرة إلى الجهة التي غرقنا فيها، ونقلوا منها ثلاث جثث لا حراك بها.
অজানা পৃষ্ঠা