قال ابن الإعرابي: هذا موجه يحتمل أن يكون دعا له أن يجنب الغارات وبعث الجيوش ويسقط الربيع بأرضه أكلًا للنعم والغنم، ويحتمل أن يكون دعا عليه بأن يبقى قرع الفناء خالي المراح لا تطمع الجيوش قفي قصده ولا يجنب مع هذا سقي السحاب فيكون اشد عليه لأنه إذا كان عشب جنابه ولم يجد رائعة كان أشد عليه وهم يقولون مرعى ولا أكولة وكلأ ييجع منه كبد المصرم قال الشاعر:
وَخَيْفَاء ألقَى الليثُ فيَها ذِرَاعَه ... فسَرَّت وَسَاءَت كُلّ مَاشٍ ومُصْرِم
أي سرت المكثر لسعة مراتع نعمه وساءت المقبل لوفور النبات وعدم راعيته.
وقال المتنبي:
منَافِعُهَا ما ضَرَّ في نَفْعِ غَيْرِها ... تَغَذَّى وَتَرْوَى أن تَجُوعَ وأنْ تَظْمَا
قال أبو الفتح: يحتمل هذا تأويلين: أحدهما أن يكون منافع جدته التي رثاها مستفادة عنده من الجوع والظمأ يريد عفتها وقلة مطمعها ومشربها فإنها مواصلة للصوم، والثاني ان يريد أن منافع الأحداث في الجوع والظمأ أي تهلك أهل الدنيا لأن ذلك من عادة الحوادث. ويشهد لهذا التأويل الثاني في قوله: كالمَوْتِ ليسَ لهُ رِيٌّ وَلاَ شِبَع قال أبو القاسم: معنى البيت مشهور في أشعار العرب والمحدثين وهو أنها تؤثر غيرها فترضى بأن تجوع لإشباع من سواها وتظمأ وتروى غيرها ومنه قول الأسعر:
لَكِنْ قعِيدَةُ بَيْتِنَ مَجْفُوَّةٌ ... بادٍ جَنَاجِنُ صَدْرِهَا ولَهَا غِنّى
أي تبسر غيرها بالزاد وتجفو نفسها بالإجاعة وأما استشهاد أبي الفتح بقول المتنبي: كالموت ليس له ري ولا شبع فايس بينهما علقة وإنما يعني أن سيف الدولة لا تنتهي مغازيه ولا فتوحه فكلما غزا بلدًا أو فتح صعقًا سار إلى غيره كالموت لا يروى من قبض الأرواح ولا يشبع، ومثله في بعض ممدوحيه:
لوْ نِيطت الدّنْيَا بأخرى مثلِها ... لعَمَمْتَهَا وَخَشيِتُ ألاَّ تَقْنَعَا
وقال المتنبي:
أنَا لاَئمي إن كنْتُ وقتَ اللَوائِمِ ... علِمْتُ بما بِي بين تِلْكَ المَعَالم
قال أبو الفتح: هذا كقولك: أنا مثلك إن فعلت كذا وكذا وهو في المبالغة اليمين في الوضع منه ومبالغة في سبه.
قال أبو القاسم: معنى البيت بحاله مستور ما فسر وإنما معناه أنا فاعل ما استحق اللوم عليه من الأفعال الذميمة إن علقت وقت لأمني اللوائم لما بي من الوجد والوله في منازل أحبتي وعزوب عقلي لفقد سكانها، ومثله:
إنْ كانْ ما بُلِّغْتِ عنِّي فَلاَمَنِي ... صَديقي وَشلَّتْ من يَدَايَ الأنامل
وقال المتنبي:
عيونُ رَوَاحلي إن حِرْتُ عَيْنِي ... وَكُلُّ بُغَامِ رَازِحَةِ بُغَامِي
قال أبو الفتح: حرت أي تحيرت، والبغام صوت الناقة المعيية وسألته عن هذا فقال: معناه إن حارت عيني فعيون رواحلي عيني وبغامهن بغامي أي إن حرت فأنا بهيمة مثلهن كما تقول إن قلت كذا وكذا فأنا مثلك، ومثله قوله أيضًا: أنا لائمي البيت.
قال أبو القاسم: قاعدة علل أبي الفتح إذا أعياه معنى البيت أن يسنده إلى المتنبي أو يقول: هذا حصلته عليه، أو يقول: بهذا أجابني وقت الاجتماع معه، والغريق يتعلق بما يرى. وإنما معنى البيت أن عيون إبلي تهتدي إلى الطريق وسلوكه لاعتيادها قطع الأسفار وإلفها سلوك المفاوز فكلما تحيرت فهن هادياتي وإذا ضللت كن مرشداتي، والبيت الأول يدل على ما قلت وهو:
ذَرَانِي وَالفَلاَةَ بِلاَ دَلِيل ... ووجهِي وَالهَجِير بِلاَ لِثَام
وقال أبو تمام يصف الإبل:
المُرْضِيَاتِكَ مَا أرغَمْتَ أَأْنُفَهَا ... وَالهَادِيَاتِكَ وَهْيَ الشُّرَّدُ الضُّلُلُ
وقال المتنبي:
هَوِّن عَلىَ بصرٍ ما شَقّ مَنْظَرُه ... فإنَّما يَقَظَاتُ العَيْنِ كَالحُلُم
قال أبو الفتح: شق بصر الميت إذا فارق الدنيا أي ليهن عليك الموت فغنما الحياة كالمنام.
قال أبو القاسم: معنى البيت انه أراد هون مناظر الأشياء الشاقة الهائلة فإن رؤية العين يقظة كرؤيتها منامًا وغنما يريد الاستهانة بالشدائد والاستخفاف بالمخاوف، وذهب في هذا البيت مذهب السوفسطائية، شق معناه أتعب وكد والهاء في قوله شق منظره راجعة على المنظور إليه وليس من حديث الميت في شيء حسب ما ذهب إليه أبو الفتح: وقال المتنبي:
1 / 20