قال أبو القاسم: أما استشهاد أبي الفتح في قول الله تعالى فليس من هذا الحديث في شيء لأن المتنبي ذكر الليل والشعراء يستطيلون ليالي السهر والفكر ويحيلون بتضاعف الغموم والهواجس فيها عليها وكذلك عند الأطباء أن الأمراض تشتد ليلًا لأن طبعه الضم والقبض والخشورة والجمود، وبالنهار تنفش البخارات عن البدن وتنحل أجزاء العلل. وليس بين الشعراء وبين الأيام تعلق في أمر ما يُسهر بل يقولون: إن المحزون والمغتم ينشرح صدره ويخف ما به لمحادثة الناس وملاقاة الأشخاص كما قال ابن الدمينة:
أُقَضّي نهاري بالأحاديثِ والمُنى ... ويجمعني والهَمَّ بالليلِ جامعُ
وقال الطرماح:
على أن للعينينِ في الصُّبْحِ راحةً ... لرميهما طرفيهما كل مَطْرَحِ
وقال النابغة:
كِليني لِهَمّي يا أُمَيمَةُ ناصِبِ ... ولَيلٍ أُقاسيهِ بَطيءُ الكَواكِبِ
تَطاوَلَ حتى قُلْتُ ليسَ بِمُنقِضٍ ... وَلَيسَ مَنْ يرعى النجومَ بآيِبِ
وأما إذا ذكروا اليوم فإنهم يذهبون به قصد الممدوح وطول نهاره على الأعداء كقول الكميت: وإذا اليومُ كانَ كالأيامِ وقال أبو تمام:
ورُبَّ يومٍ كأيام تركتَ بها ... متنَ القناة ومتنَ القرن مُنقَصِفا
وإنما معنى بيت المتنبي إن ذهبت به مذهب العدد فأضفت الواحد إلى الستة والمراد إلى الأسبوع فتكون استطالة الليلة الواحدة كاستطالة ليالي الأسبوع ووقف عند هذا الحد كقول بعض الرجاز:
إنِّي إذا ما الليلُ كانَ لَيلتينْ ... وَلَجْلَج الحادي لِسانين اثنينْ
فهذا جعل واحدة ثنتين، وأوس بن حجر جعل للثلاثة ثلاث ليال فقال: وَلَقَد أتيتُ بليلة كلَيالِ وكأنَّ تحتَ الجَنْبِ شَوْكَ سَيالِ والمتنبي جعل الليلة الواحدة ليالي الأسبوع طولًا ووقف عندها. وإن ذهبت بالبيت الواحد والستة مذهب الضرب ففيه معنى لطيف لأنك إذا ضربت الواحد في الستة رجع إلى الوراء وإذا ضربت الاثنين في الستة زاد إلى قدام فيكون المعنى أن هذا الليل يرجع إلى الوراء فلا يتصرم آخره كما قال الشاعر:
لَقَدْ تَرَكَتْني أم عَمرو وَمُقلَتي ... هَمَولٌ وَقَلبي ما تَقِرُّ بَلابِلُهْ
تَطاوَلَ هذا الليلُ حتَّى كَأَنَّما ... إذا ما انقَضى تُثْنى عليهِ أَوائِلُهْ
وأما قول أوس بن حجر واستشهاد أبي الفتح به وهو فويق جبيل فهو مختلف في تصغيره فبعضهم ذهب إلى أن كل جبل شامخ له نادر ويندر منه ويشخص فهو الجبيل، ومنهم من وفق أبا الفتح. والقاطع في تصغير التعظيم قول لبيد أنشده أبو عبيد القاسم بن سلاّم في الغريب المصنف:
وَكُلُّ أُناسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ ... دُوَيهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنها الأنامِلُ
وصفرة الأنامل من الموت وليس في الدواهي أعظم منه، قال ذو الرمة:
التَّرك القِرْنِ مُصْفَرًّا أنامِلُهُ ... يَميدُ في الرُّمْحِ مَيْدَ المادِحِ الأسِنِ
وقال المتنبي:
وَأبْعَدَ بُعْدَنا بُعْدَ النَّداني ... وَقَرَّبَ قُرْبَنا قُرْبَ البِعادِ
قال أبو الفتح: أبعد بُعدنا بُعدًا مثل بُعد التداني كان بيننا وقرّب قُربنا مثل قُرب البعاد كان بيننا أي قربني منه بحسب ما كان بيني وبينه من البُعد.
قال أبو القاسم: البيت مع استغلاقه واستبهامه في بيت الحماسة وهو:
فلله دَرّي أي نظرة ذي هوىً ... نظرتُ وأيدي العيس قد ركَّبَتْ رَقْدا
يُقَرّبن ما قُدّامنا من تَنوفةٍ ... وَيَزْدَدْنَ مما خَلْفَهُنَّ بنا بُعْدا
وقال المتنبي:
تَلِجُّ دُموعي بالجُفونِ كأنَّما ... جُفوني لِعَينَي كل باكيةٍ خَدُّ
قال أبو الفتح: فكلما بكت باكية فكأن دموعها تمر بجفوني كما تمر بخدها فلما أخلو من دموع وبكاء، قريب من قوله:
مالٌ كأنَّ غُرابَ البَينِ يرقبهُ ... فكلما قيل هذا مجتد نَعَبا
فإنما معناه أن هذا المال مجتمع لصاحبه فإذا جاء طالب جدواه تفرق ما بينهما كما قال في الأخرى يعني الدنيا ومن فيها:
أَبَني أبينا نحنُ أهلُ منازل ... أبدًا غُراب البينِ فينا يَنعَقُ
وقال المتنبي:
حَتَّى دَخَلنا جَنَّةً ... لَو كانَ ساكِنَها مُخَلَّدْ
حَمراءَ خَضراءَ التُّ ... رابِ كأنَّها في خَدِّ أغْيَدْ
1 / 11