مُنىً كُنَّ لي أنَّ البَياضَ خِضابُ ... فيَخفى تَبييضِ القُرونِ شبابُ
قال أبو الفتح: يقول شيبي هذا كان لي منىً قديمًا. وإنما تمنيت الشيب ليخفى شبابي بابيضاض شعري. وآثر الشيب على الشباب لما فيه من الوقار.
قال أبو القاسم: ثاني هذا البيت يرد ما ذكره أبو الفتح من تمني الوقار وهو:
ليالي عندَ البيضِ فَودايَ فتنةٌ ... وَفخْرٌ وذاكَ الفخْرُ عِنديَ عابُ
وإنما المعنى أني مصروف الهمة إلى اكتساب المعالي والمآثر كقوله في عدة قصائد:
ضُروبُ الناسِ عُشّاقٌ ضُروبا ... فأعذَرُهم أشَقَّهُمُ حَبيبا
وَما سَكَني سوى قَتْلُ الأعادي ... فَهَل من زَوْرَةٍ تَشْفي القُلوبا
وقال في أخرى:
مُحبٌ كَنى في البِيضِ عن مُرهَفاتِهِ ... وبالحُسْنِ في أجسادِهِنَّ عن الصَّقْلِ
وبالُّمْرِ عن سُمْرِ القَنا غيرَ أنَّني ... جناها أحِبَّائي وأطرافُها رُسْلي
وقال المتنبي:
لو مَرَّ يركُضُ في سُطورِ كتابِهِ ... أحصى بِحافِرِ مُهْرِهِ ميمانِها
قال أبو الفتح في آخر تفسير هذا البيت: وشبه معها حافر الفرس بالميم وقد استقصيت ذلك في الفسر الكبير في شرح هذا الديوان.
قال أبو القاسم لأبي الفتح ثلاث علل اتخذها قواعد في شعر المتنبي إذا ضاق به الأمر: إحداهما أنه يحيل بالمعنى على الفسر الكبير، والثانية أن يقول بهذا أجابني المتنبي عند الاجتماع، والثالثة أن يقرن بالبيت مسألة في النحو يستهلك البيت واللفظ والمعنى.
وأما حافر الفرس فلا يشبه الميم في صورته. والمتنبي شبه حافر الفرس بالعين المفردة كقوله في سيف الدولة:
أول حرف من اسمه كتبت ... سنابكُ الخيلِ في الجلاميدِ
وقد شبه نعال الحوافر مسمورة بعض أهل العصر في عضد الدولة فقال:
لهمْ بِفناءِ البيتِ جُرْدٌ صَوافِن ... سِلاطٌ هواديها فَوَرْدٌ وَأَيْهَمُ
إذا أنعَلوها فالنَّعالُ أهِلَّةٌ ... وإن سَمَّروها فالمَساميرُ أنْجُمُ
وقال المتنبي:
تكبو وراءَكَ يا ابنَ أحمَدَ قُرَّحٌ ... لَيْسَتْ قَوائِمُهُنَّ من آلاتها
قال أبو الفتح: الهاء في آلاتها راجعة إلى الوراء لأنه مؤنثة وتصغيرها وريَّة.
قال أبو القاسم: الهاء في آلاتها عائدة إلى القُرَّح أي ليست قوائم هذه القرح من آلات مجاراتك في مآثرك أو مباراتك في مناقبك، ويريد بالآلات أفعالهم.
فتىً يشتهي طُولَ البلاد وَوَقْتُهُ ... تضيقُ بهِ أوقاتُهُ والمَقاصِد
قال أبو الفتح: أي يحب طول البلاد لتبعد سراياه، وطول الوقت ليتمكن فيه من أغراضه وتضيق ببعد همته أوقاته ومقاصده.
قال أبو القاسم: أي وقت سيف الدولة الذي هو فيه في الحال يستغرق مقاصد الأرض.
وقال المتنبي:
أبْرَحْتَ يا مَرَض الجُفونِ بمُمرض ... مرضَ الطبيبُ لهُ وعِيدَ العُوَّدُ
قال أبو الفتح: أبرحت أي تجاوزت. والممرض جفنها.
ومرض الطبيب له وعيد العود مثل ضربه ولا طبيب هناك ولا عوَّد ولكنه لما ذكر هناك ذكر المرض ذكر الطبيب معه والعوَّد.
قال أبو القاسم: قوله أبرحت معناه شددت يقال أمر مُبَرِّح ومُبَرَّح ومنه البرحاء لشدة الشوق، والممرض هو المتنبي نفسه يقول اشتدت يا مرض الجفون بمحب أمرضته في شدة مرضه، وهو لسقمه مرض معالجه وعيد عائده. وهذا المعنى متداول في شعر المحدثين لا يعد كثرة كقول أحدهم:
مَرَض بناظِرِهِ إذا ما مَرَّضَا ... يقضي على أحبائِهِ قبل القَضَا
وكقول غيره:
أسقَمَ جسمي سَقامُ ناظِرِهِ ... يا لَيتني خاطِرٌ بخاطِرِهِ
وقال المتنبي:
أُحادٌ أم سُداسٌ في أُحادِ ... لُيَيْلَتُنا المنوطَةُ بالتَّنادي
قال أبو الفتح: استطال ليلته فقال واحدة هي أم ستة واختيار الستة دون غيرها من العدد لأنها الغاية التي فرغ الله تعالى من جميع أحوال الدنيا. وصغر الليلة تصغير التعظيم كقول أوس:
فُوَيْقَ جُبَيلٍ شامِخِ الرأسِ لمْ تَكَدْ ... لِتَبْلُغَهُ حتى تَكِلَّ وَتَعْمَلا
والتنادي يريد التنادي بالرحيل وقود الخيل إلى الأعداء ألا تراه يقول فيما بعد:
أفكر في معانقة المنايا ... وقود الخيل مشرفة الهوادي
1 / 10