فهم يتدربون أولا على المسئوليات في هذا النطاق الخاص، ثم يدعون بعد ذلك لاستخدام مواهبهم في نطاق أسمى، ألا وهو نطاق الشئون العامة.»
فاحترز التونسيون؛ لأنهم لم يجدوا في هذا الخطاب ما يوافق رغائبهم، ولكنهم أمسكوا أعصابهم انتظارا لتطور الحالة. أبدت الأوساط الفرنسية بتونس استياءها منه على ما فيه من ميوعة وغموض مقصود واستنجد ممثلوهم بباريس بأصحاب الفكرة الاستعمارية المتطرفة - وكثير ما هم - وقاموا جميعا بحملة عنيفة على وزير الخارجية وخاصة في مجلس الجمهورية، فاضطر «روبير شومان» للدفاع عن فكرته متقهقرا إلى الوراء، ناسيا ما صرح به في تيونفيل، ولكنه رغم تراجعه المبين أكد وجوب الإصلاحات الجوهرية وإنهاء الحكم الفرنسي المباشر بتونس، فخطب في ذلك المجلس يوم 19 يوليو 1950 قائلا:
وإنكم محقون أيضا في قولكم بأنه لا يمكن لنا أن نحتفظ إلى ما لا نهاية له بما يقوم به الفرنسيون بتونس من حكم مباشر، بل ذلك هو موضوع إصلاحاتها. ... ولكن لا يمكن أن نحرم تونس من كل إصلاح مدعين أنه ينبغي انتظار الهدوء في الأفكار؛ إذ رفض الإصلاحات نفسه سبب جديد لإحداث الحنق والاضطراب.
وينبغي لنا أيضا أن نوفق بين ما نريده من محافظة على المصالح الفرنسية وبين الرغائب الشرعية للسكان التونسيين، وستتجدد نفس المشكلة في جميع البلدان الراجعة مسئولية الحكم فيها إلينا، الآخذة في التطور وإن كان بطيئا، وقد رفعنا مستواها تدريجيا في الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية.
وذلك هو العمل الصعب الدقيق الذي يواجه البرلمان والحكومة الفرنسية.
وأريد في الختام أن أجدد تعهدي بأنه ليس في نيتنا إهمال أية مصلحة من تلك المصالح سواء أكانت فرنسية أم تونسية، بل نرى أنه في الإمكان - وإذن من الواجب - التوفيق بينها، ولكن لا يمكن - كما قلتم - أن تبقى في الجمود الحالي، وما رفض الإصلاحات في الساعة الراهنة - بأي عذر كان - إلا الجمود بعينه في أسوأ الحالات.
فجدد هكذا وزير خارجية فرنسا وعوده - وإن كان فيها شيء من التراجع - وتعهد بصفة رسمية بإنهاء الحكم الفرنسي المباشر في تونس والقضاء على الركود والجمود بمسايرة التطور وضمان مصالح التونسيين.
وكان الرأي السائد في مجموع الشعب التونسي ألا تترك الفرصة تمر من غير أن ينتهزها لكي توضع فرنسا أمام مسئولياتها؛ فإن وفت بوعودها فإن تونس تكون قد حققت رغائبها من غير كبير عناء وإراقة دماء وإضاعة وقت، وإذا نكثت تعهداتها تكون محجوجة أمام الرأي العام العالمي وأمام الرأي العام التونسي خاصة، ولم يبق إذ ذاك في إمكان أي تونسي أن ينتقد الحزب الحر الدستوري عندما يخوض معركة التحرير، بل يصبح الشعب بأسره - المعتدل منه والمتطرف - مقتنعا اقتناعا كاملا بألا مفاهمة ممكنة مع فرنسا وأن كل مفاوضة سلمية معها آيلة إلى الفشل.
واتصل جلالة الملك محمد الأمين الأول بالقادة الوطنيين وأصحاب الخبرة السياسية من أبناء الشعب ليطلع على رأيهم في الموضوع ودعاهم إلى تحمل مسئولية الحكم ومنحهم ثقته وألح عليهم في أن يكونوا أعضاده ومساعديه؛ لأن مصلحة الوطن العليا تتطلب منهم ضربا جديدا من التضحية سعيا إلى إنقاذ البلاد، فينبغي ألا يبقى جلالته وحده فريدا فيما سيجري من مفاوضات مع الحكومة الفرنسية، بل من الضروري أن يتقدموا إلى الصف الأمامي، ومن الواجب الحتمي عليهم أن يكونوا لسان الشعب الناطق، والمدافعين الرسميين عن حقوقه، والمعبرين الصادقين عن رغائبه، وجلالة الملك من ورائهم يعين ويؤيد التأييد الكامل المطلق، فيكون هكذا قد نزع الأمانة من عنقه ليضعها في عنقهم.
ولما وجد منهم أذنا صاغية واقتناعا بما رسم لهم من خطة كلف دولة السيد محمد شنيق - باتفاق مع ممثل فرنسا لويس بريليه - بتشكيل الوزارة الجديدة ، ثم وقع اختيار بقية أعضائها باتفاق أيضا مع المقيم العام ، فبعد مشاورات جديدة تألفت الوزارة في 17 أغسطس سنة 1950.
অজানা পৃষ্ঠা