اللهم هذه دموعي، وهذه أمي، وأنا عبدك، وأنت أرحم الراحمين.
أرأيتم كيف كانت تقابل هذه العبارة الرقيقة الباكية لو قالها شاعر في حضرة أحد الملوك؟
وبكاء الشجر والمدر، ما رأيكم فيه؟
ستضيفونه إلى بكاء السباع والوحوش والهوام في قصة داود، وتجعلونها جميعا من الأساطير! ولكن أكل أسطورة خبل في خبل وضلال في ضلال؟
إن أمثال هذه الأساطير لها صلة وثيقة بفهم الصوفية لحقيقة الوجود، فهم لا يرون أنفسهم منفصلين عن عوالم الجماد والنبات والحيوان. هم يحسون كأن الدنيا تتوجع لهم وتشفق مما يعانون؛ ويتجسم هذا الإحساس فيريهم أن الشجر والمدر والسباع والوحوش تذرف الدمع حين يأخذون في البكاء.
وهذه الشطحات تستحق العطف؛ لأنها تصدر عن ناس فنوا فناء تاما في الحب الإلهي، وبدت لهم ذنوبهم أثقل من الجبال، وخيل إليهم أن رحمة الله لا تنال بغير الدمع والأنين.
والبكاء في ذاته نفحة من النفحات الشعرية؛ لأنه لا يكون إلا من فيض الوجد وقوة الإحساس، وهو من وسائل الإفصاح عن أوجاع القلوب.
صورة أدبية ليوم الحساب
وقد تقع في كتب الصوفية صفحات من الأدب النبيل، ولكنها تظل من الأدب المجهول؛ لأن الأدباء شغلوا بالمحسوس عن المعقول، وإلا فأي صورة أبرع من الصورة التي وضعها الغزالي للزهد حين قال:
إن الكاره للدنيا مشغول بالدنيا، كما أن الراغب فيها مشغول بها، والشغل بما سوى الله حجاب عن الله، وهو ليس في مكان حتى تكون السموات والأرض حجابا بينك وبينه، فلا حجاب بينك وبينه إلا شغلك بغيره، وشغلك بنفسك وشهواتك شغل بغيره، فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله، والمشغول ببعض نفسه مشغول أيضا عن الله، بل كل ما سوى الله مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق، فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حال اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه. ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه. فكما أن النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور المعشوق شرك في العشق ونقص فيه، فكذا النظر إلى غير المعشوق لبغضه شرك فيه ونقص. ولكن أحدهما أخف من الآخر، بل الكمال في أن لا يتلفت القلب إلى غير المحبوب بغضا أو حبا، فإنه كما لا يجتمع في القلب حبان في حالة واحدة، فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله، كالمشغول بحبها، إلا أن المشغول بحبها غافل وهو في غفلته سالك في طريق البعد، والمشغول ببغضها غافل وهو في غفلته في طريق القرب.
অজানা পৃষ্ঠা