ولكن الرجل استمر في عناده، وصمم أن يبيت في غرفة نومه، وعادت الراهبة من حيث أتت، واشتريت لهؤلاء الفعلة عشرة أرطال من اللحم الضأن سلقتها على ثريد، وأمرتهم أن يتعشوا باللحم والثريد، وأن يقيموا حفلة ذكر لنبارك بها المنزل الجديد، ثم يناموا بعد ذلك في الغرفة، وضج المكان بصوتهم في حفلة الذكر، وانزعج السكان الأجانب جميعا؛ لأنهم لم يألفوا تلك الحالة، وأخيرا اضطر الساكن أن يأخذ زوجته، وأن يبيت بها في أحد الفنادق، وفي الصباح قبل مني المبلغ الذي عرضته عليه، وأخذ منقولاته، وما كاد يخلي الشقة حتى أحضرت فيها كل ما استطعت من أدوات المدرسة، وكان يسكن نصف البدروم البحري والشقة التي فوقه ساكن إيطالي، عرضت عليه أن يخرج من الشقة على أن يأخذ مقابل ذلك خمسين جنيها، فرفض وقال: أمامك المحاكم. وأردت مضايقته فاشتريت مترين من الجير وعشرة أمتار من الرمل، ووضعتها على ربوة كانت في الفناء أمام شبابيك الإيطالي، واستأجرت فاعلين بمهزتين، وأمرتهما أن يجلسا، فإذا رأيا أن شبابيك الإيطالي قد فتحت قاما بعملية الهز، فيضطر الرجل إلى إغلاق شبابيكه، وهي الشبابيك البحرية بالمنزل، وهكذا مكث العاملان مدة أسبوع، فتضايق الرجل، وقال لي: إني أجنبي كما تعلمين؛ أي في حماية. قلت: نعم! ولكنك لا تكون في حماية إلا إذا ضربت غيرك، أما إذا ضربت أنت، فأنت كأفراد المصريين، وأنت ترى معي من الرجال العدد الكثير الذي يستطيع أن يمزقك إربا بأظفاره من غير سلاح.
وخاف الرجل من هذا التهديد، كما ضايقه الجير والرمل اللذين أتلفا منقولاته، فقبل التعويض وترك المنزل، أما الساكن الذي كان أمامه في نفس الدور الذي يعلو البدروم، فقد كان مدينا لصاحب المنزل بمبلغ ثلاثين جنيها ، وحكم لصاحب المنزل بالمبلغ، وحجز على المنقولات حجزا تنفيذيا، فلم يكد يسمع مني تنازلي عن كل شيء في نظير خروجه من المنزل حتى أسرع بالخروج، وبذلك خلا البدروم والدور الذي فوقه مباشرة، أما الدور الثاني فكان يسكن في نصفه طبيب أجنبي، وفي النصف الثاني سيدة غنية كانت مغنية فيما مضى، وهنا استلمت الدور الأول والبدروم، وطلبت من الطبيب الخروج من المنزل فرفض، فقلت له: إني أغلق بابي الساعة السابعة مساء، فإذا تصادف وتأخر هو عن ذلك الميعاد فعليه أن يحضر معه نجارا ليكسر له الباب، وهكذا كان كلما عاد في المساء وجد باب المنزل مغلقا، وظل خارج الباب في أخذ ورد ونقاش إلى الساعة الحادية عشرة، أو ما بعد ذلك، وأخيرا اضطر أن يقبل التعويض، وأن يترك المنزل.
أما الساكنة الأخيرة، وهي السيدة المغنية، فلم أطلب منها الخروج، ولكني نقلت المدرسة، وجعلت الجرس تحت شباك غرفة نومها، وأمرت أحد الخدم أن يدق الجرس في الساعة السادسة صباحا من كل يوم دقا عنيفا يستغرق ربع ساعة، كما أمرت خادما آخر أن يستلم خطاباتها التي ترد من البوستة، وأن لا يسلمها إليها إلا في الساعة السادسة والنصف صباحا، فكانت المسكينة لا تكاد تخلص من دقات الجرس الشديدة حتى تسمع قرع باب شقتها قرعا شديدا متواليا، فلم تستطع البقاء على ذلك أكثر من أسبوع، وخرجت من المنزل دون أن تأخذ شيئا، أما الساكن الذي كان يشغل الإسطبل التابع للمدرسة، وكان هو أيضا أجنبيا، فلم أتعب في إخراجه، بل خرج على أبسط صورة بعد أن تنازلت له عن بعض الإيجار الذي كان متأخرا عليه، وهكذا أخرجت ستة من السكان في مدة شهر واحد، وابتدأت في أن أنقل باقي المدرسة لهذا المنزل، وكنت أعلم أن البارون قد كسب القضية المرفوعة، وأنه على وشك الحجز، فأخذت أنقل في السر دون أن أخبر التلميذات، حتى إذا تم نقل كل شيء في الخميس والجمعة، عادت التلميذات يوم السبت فوجدن المدرسة في بنائها الجديد، وأسرعت العيون الموضوعة علي فأخبرت أولي الشأن بما جرى، فاستعجلوا المحضر يوم السبت، ولكنه لم يستطع الحضور إلا في يوم الإثنين؛ لأن الأحد عطلة رسمية للمحاكم المختلطة.
حضر المحضر يوم الإثنين في منزل البارون فوجد الباب مغلقا، وسأل من الجيران عن المكان الذي نقلت إليه المدرسة، فدلوه علي، فجاءني في منزلي الجديد، وهنا تذكرت فجأة أن سيارات المدرسة الكبيرة كانت لا تزال في فناء منزل البارون، وخشيت أن يفطن المحضر لذلك فأجلسته في مكتبي، وقلت له: إني لا علاقة لي بمنزل البارون، ولم أكن مستأجرة له، ولكن المستأجر صديق لي، وأستطيع أن أحضر منه المفاتيح بكل سرعة، وأجلسته في مكتبي، وأغلقت باب الشقة حتى لا يستطيع الخروج، وأسرعت إلى منزل البارون، فأخرجت السيارات بكل سرعة، وأرسلتها إلى فناء المنزل الجديد، وعدت إلى المحضر، وأعطيته مفاتيح منزل البارون، فذهب إليه، ولم يجد به شيئا يحجزه، ورفع دعوى علي أنا شخصيا، وأوقع حجزا تحفظيا على منقولاتي، ولكن المحكمة المختلطة رفضت دعواه؛ لأني لم أكن مستأجرة للمنزل، ولا علاقة رسمية بيني وبين البارون، واشتد الغيظ بالبارون، وحجز على منزل زوج رئيسة الجمعية؛ لأنه هو المستأجر الرسمي، وجاءني يقول لي كيف يحجز على منزله في مشكلة تتعلق بالمدرسة التي أستغلها أنا؟ فقلت له: إني آسفة لذلك، ولو أنك أدخلتني في الدعوة كما طلبت منك لأدافع عن نفسي لما حصل شيء من هذا، ومع ذلك فإني مستعدة أن أدفع المبلغ المحكوم به، على شرط أن تبيع لي الجمعية الأدوات، وإلا فللجمعية أن تستلم أدواتها، وأن تعطيني إيصال الاستلام، وتتصرف في بيع تلك الأدوات لسداد المبلغ المحكوم به، أما هو فقد فضل أن يعطيني الإيصال الذي أخذ علي باستلام الأدوات، وأن يأخذ مني المبلغ المحكوم به، ومقداره 200 جنيه.
وهكذا انتهت تلك المشكلة.
مناورات
انتهت مشكلة المنزل، وسكنت المدرسة في منزلي الخاص، وكنت ولا أزال أعتقد أن البارون منشة، وهو صاحب المنزل القديم قد حرض على ما فعل، ولا زالت اليد المحرضة تعمل ضدي، فإني ما كدت أعمل في المنزل الجديد أربعة شهور حتى زارني أحمد بك كامل، وكان في ذلك الوقت مراقبا مساعدا لتعليم البنات، فرحبت به اعتقادا مني أنه جاء ليزورني، ولكن شد ما كان أسفي عندما أخبرني أنه جاء ليحاسبني عن مال جمعية ترقية الفتاة، فقلت باسمة: وما قرابتك يا سيدي لجمعية ترقية الفتاة؟ قال: إن وزارة المعارف مسئولة عن الأموال التي تجمع باسم التعليم. فأبنت له أن المدرسة لم تصرف من مال الجمعية شيئا، ولم يصلها من الجمعية إلا أدوات مدرسية كانت قد تركتها وديعة، وأخذت بها إيصالا، ثم عادت فأخذت مني مبلغ 200 جنيه ثمنا لتلك الأدوات، وردت لي الإيصال، أما شروطي مع الجمعية، فقد كانت تمنع الجمعية منعا باتا من التدخل في مال المدرسة. أظهرت له الشروط، قال: وكيف قبل عدد من القضاة أن يكتبوا معك شروطا كهذه؟ قلت: لأني كنت مصممة عليها، ولأن إرادتي - والحمد لله - قوية لا يقف أمامها شيء. قال: فليس لنا إذن ما نحاسبك عليه. وحياني، وانصرف.
وأخذت اليد المحرضة ضدي تحرض إنجليز وزارة المعارف على محاربتي بدعوى أني ضد الإنجليز، وإني أكرر ثانية وثالثة أن التهمة كانت باطلة، وإني أنا شخصيا لم أعمل في السياسة، بل وجهت كل جهودي إلى تعليم البنت، ولا أدري أكان الإنجليز يجهلون حقيقة الأمر التي لم يكن فيها من ريب أو شك، أم أنهم كانوا غير راضين عن طريقتي في تعليم البنت، فكانوا يحاربون المبدأ لا شخصه، وعلى كل حال فقد كانت الحرب مستمرة، والقائمون بها - ولا شك - أقوياء، ولم تكن مدرستي خاضعة لتفتيش الوزارة؛ ولهذا لم تكن وزارة المعارف تعطيني إعانة، وقد عرض على كثير من وزراء المعارف محاربة المدرسة، وكان منهم المغفور له أبو السعود باشا، وجعفر والي باشا وغيره، وكنت في ذلك الوقت قد حولت مرتبي إلى بنك مصر فرع الإسكندرية، وكنت أنتظر من يوم لآخر أن تفصلني الوزارة، وتمنع صرف المرتب، ولكن الوزارة كانت متجهة إلى إغلاق المدرسة لا إلى فصلي منها؛ ولذلك كانت تحاول إعادتي بكل الوسائل، وكنت أنا أرفض، ولكي يصل أعدائي إلى إغلاق المدرسة عرضوا على صاحب المعالي المغفور له أبو السعود باشا أنهم في حاجة إلى جهودي، وأنه يجب ردي إلى العمل بأي ثمن كان، ولم يكن المغفور له يعرف نواياهم، وكان رجلا ذكيا نزيها لا يعرف التواء، فعرض علي الأمر، وطلب مني أن أقبل العودة إلى العمل، فأفهمته ما يحاك ضدي من الدسائس، وقلت له: لا أود بحال من الأحوال إغلاق مدرستي؛ لأني غير واثقة من حسن نية رجال وزارة المعارف، خصوصا الإنجليز منهم، بعد ما تركهم المرحوم المستر دانلوب، وقلت له: إني مع ذلك لا أتأخر عن العمل بالوزارة إذا عينتني مفتشة للتعليم الأولي بالإسكندرية وضواحيها، وفي الحال صدر أمر معاليه بذلك، وأرسلت نشرة إلى المدارس بذلك التعيين، ولم أشأ ترك مدرستي فنقلت كاتب التفتيش إليها، وأخليت له غرفة منها بدون أجر طبعا، وهكذا لم تستطع الوزارة نقلي إلى مقر وظيفتي بالقاهرة، فنقلت الوظيفة إلى منزلي بالإسكندرية.
علمت المدارس الأولية بتعييني، وكانت المعلمات بالطبع يعرفن شدة حرصي على الأخلاق، فأخذن يصلحن من زيهن، ولم أزر المدارس إلا بعد 15 يوما من تعييني لأعطي لهن الوقت الكافي للاستعداد بلبس محتشم، وكنت أعلم أن الكثيرات كن يذهبن إلى مقر مفتش التعليم الأولي بلبس خارج عن الكمال والحشمة، أما أنا فلم تزرني إحداهن في مقر وظيفتي؛ لأني أظهرت لمن زارتني منهن أول مرة عدم رضائي عن تعطيل أعمال المدارس، وهكذا انقطعن عن زيارة مقر التفتيش، وانصرفن إلى أعمالهن بالمدارس، وزرت المدارس بعد ذلك فلم أجد في لبسهن إلا الحشمة والكمال، وأتذكر أني لم أؤنب واحدة منهن عن خروجها عن الكمال في ملبسها، بل كنت إذا رأيت إحداهن تلبس ما لا أريده، وجهت كلامي إلى زميلتها المحتشمة، فامتدحت حشمتها، وأطريت كمالها، وقلت إن ذلك الكمال قد زادها جمالا وهيبة، فكان ذلك يدفع زميلتها المتبرجة إلى الكمال والحشمة سعيا وراء رضائي، واقتناصا لمدحي وإطرائي، وهكذا انتظم لبس المعلمات دون أخذ ولا رد، وشعر كل أهالي الإسكندرية بذلك التغيير، فاستدعاني المغفور له أبو السعود باشا، وأثنى علي فيما وصلت إليه المعلمات من الكمال في زيهن، وضايق ذلك رؤسائي من رجال وزارة المعارف، فاستمروا في محاربتي ليظفروا بما يريدون.
انتقلت الوزارة في صيف ذلك العام إلى الإسكندرية، وكان أحد كبراء الوزارة معروفا لدى المعلمات بمسلكه وميله إلى المجون واللعب، فأخذ بعضهن يذهب إليه خفية دون علمي، وذهبت يوما فوجدت إحدى معلمات المدارس الأولية وهي جالسة أمام مكتبه، وقد تبرجت تبرجا معيبا مزريا، وما إن دخلت الغرفة حت ارتعدت الفتاة، وارتعد ذلك الكبير أيضا، وقام ليحييني فضغط على يدي، وغمز بعينه يريد أن يلفتني إلى تبرج الفتاة، وإلى أنه غير راض عن ذلك، فنظرت أنا إلى المعلمة، وقلت لها: إن سعادته يضغط على كفي مظهرا عدم رضائه عن زيك، مع أنه كان جالسا يحدثك، فكأنه يا ابنتي يغرر بك، وأنت أيها الرئيس لم تظهر عدم رضائك الآن بعد أن جلست معك مدة؟ أما كان الواجب عليك أن تظهر لها عدم الرضاء ساعة دخولها عليك؛ لترشدها إلى السبيل السوي لا أن تلاينها وتمازحها، وتدعي أمامي أنك غير راض عن تبرجها، وتركت الفتاة الغرفة مسرعة بالخروج، وبقي هو وقد تلجلج فلم يستطع أن يرد جوابا.
অজানা পৃষ্ঠা