استأجرنا للمدرسة منزلا من منازل البارون منشة، ويوم استأجرناه كان معي زوج رئيسة الجمعية، وحسب العادة المتبعة في مصر من تقديم الرجال على النساء، قدم إليه العقد فأمضاه، وقد شعرت بشيء من القلق من جراء ذلك، وكان رئيس الجمعية هذا كما أحب أن أسميه باختصار قاضيا بالإسكندرية، وكان الشيء الوحيد الذي يهددني هو أنه مستأجر المنزل، وبناء على ذلك يحق له أن يدعي ملكية كل ما فيه من أثاث، ولم يكن لي في ظاهر الأمر دخل في استئجار المنزل، وإن كنت أنا ساكنته، وصاحبة الأثاثات الموضوعة فيه.
ولم نعمل أكثر من ستة شهور حتى حدث ما كنت أتوقعه، فإن أعضاء جمعية «ترقية الفتاة» فكرن أن يحولن المدرسة إلى مشغل للخياطة، ولما عارضتهن في ذلك غضبن مني، وسحبن تأييدهن لي، ولكني لم أعبأ بهذا، وسرت في طريقي، ونقل رئيس الجمعية إلى قنا أو أسيوط، لا أتذكر، ولكن الحكومة انتدبته للعمل بالإسكندرية فأصبح نقله اسما لا معنى له، ودهشنا كلنا لهذا النقل والانتداب، فلم ألبث بعد هذا أن بلغني أن البارون منشة رفع دعوى على رئيس الجمعية بصفته المستأجر يطالبه بإخلاء المنزل، وبدفع تعويض قدره مائتا جنيه؛ لأنه غير معالم منزله، وظلت الدعوى بينهما مدة طويلة دون أن أعلم بها لأنه كان يعلنه بالدعوى في منزله الخاص، ولأن رئيس الجمعية لم يخبرني بشيء من ذلك، فلما بلغني الخبر ذهبت إليه ورجوته أن يعترف بوجودي، ولو كخصم ثالث؛ لأني أنا في الواقع التي أسكن المنزل، وقد وضعت فيه كل أثاث منزلي، كما اشتريت كثيرا من الأثاثات المدرسية؛ لأن ما اشترته الجمعية لم يكن يفي بشيء من لوازم المدرسة، ولو أن البارون نجح في دعواه، وأخذ حكما على رئيس الجمعية لاستطاع بهذا الحكم أن يبيع أثاث منزلي والمدرسة في وقت واحد، وما دام رئيس الجمعية هو المستأجر للمنزل، فليس لي أن أدعي ملكية شيء من الأثاث الموجود فيه .
شرحت للرئيس كل ذلك ، ولكنه رفض أن يدخلني في الدعوى، أو أن يجعل لي أية صفة فيها، وقال إن البارون يعلم أنه هو المستأجر، ولا يجوز لرجل في مركزه أن يقول إنه إنما أمضى العقد دون أن يكون هو المستأجر الحقيقي، وما كان لي أمام إصراره هذا إلا أن أرضخ لما أراد، وأن ألاينه في القول ما استطعت، ولكني في الوقت ذاته شعرت أني قادمة على خطر فقدان كل ما أملك، وأخذت أبحث عن منزل أستطيع أن أنقل إليه أثاثات منزلي والمدرسة قبل أن تنتهي القضية، وقبل أن يحجز على تلك الأثاثات، فلم أوفق إلى استئجار منزل يسع المدرسة بأكملها، ولكني وجدت المنزل الذي أملكه الآن، وقد نزعت ملكيته، وقدم للبيع بالمزاد العلني، ودخل المنزل في البيع ثلاث مرات فهوى ثمنه من 12 ألف جنيه إلى ثمانية آلاف وسبعمائة جنيه، وخشي صاحبه أن يباع بأبخس الأثمان، وقد كان مرهونا على مبلغ أربعة آلاف جنيه، وقد أراد الراهن بيعه بالمزاد ليستولي على دينه، ولكنه لما رأى المنزل لا يقدم على شرائه أحد، وقد هوى ثمنه في بضعة شهور إلى هذا الحد خشي أن يباع بأقل من الدين، فاتفق هو والدائن على تأخير البيع لعلهما يجدان شاريا.
وذهبت أنا واتفقت مع صاحب المنزل على شرائه بالثمن الذي رسا عليه المزاد، وهو ثمانية آلاف جنيه، كما اتفقت مع الدائن أن أحل محل صاحب المنزل في الدين على أن يمهلني ثلاث سنوات، فقبل الرجل، كما قبل المالك أن يأخذ مني أربعة آلاف وسبعمائة جنيه، وأن يبيع لي المنزل تاركا لي دينه، وعاد الدائن فرفض هذا الاتفاق، وقال إنه يريد دينه فورا، وهنا طلبت منه مهلة ستة شهور ريثما أستطيع رهن المنزل في بنك من البنوك، وساعدني حسن الحظ فاستطعت الاتفاق مع البنك العقاري، واتفقت مع البائع على أن أدفع له ألف جنيه عند كتابة العقد الابتدائي للبيع، وبعد 40 يوما أدفع له ألفا أخرى، على شرط أني إذا لم أستطع دفع ذلك الألف في ذلك الميعاد أصبح البيع لاغيا، وضاعت علي الألف الأولى ... شرط قاس ولكني تحملته؛ لأن ظروفي كانت أقسى منه، وكان لي منزل بالزيتون فسعيت في بيعه حتى استطعت أخيرا أن أبيعه بألف جنيه، وكان ذلك قبل حلول الميعاد بثلاثة أيام، وتصادف أن أقمت حفلة المدرسة الثانوية في اليوم السابق لحلول ميعاد كتابة العقد الرسمي كما اتفقنا، وكلمني محامي صاحب البيت بالتليفون ينبئني أن غدا ميعاد دفع مبلغ الألف جنيه وكتابة العقد الرسمي، قلت: إني مستعدة لدفع الألف جنيه صباح باكر. فقال: وهل معك 500 جنيه لدفع رسوم العقد؟ قلت: كلا، ليس معي ذلك المبلغ. قال: لقد ضاعت عليك الألف الأولى؛ لأن اتفاقنا كان على أن تدفعي الألف جنيه، وأن تكتبي العقد الرسمي، ورسوم العقد الرسمي 500 جنيه، فإذا لم تستطيعي ذلك فقد خالفت الشروط، وقد فسخ البيع، وضاع عليك العربون.
قلت: ولكني سأعطيك الألف التي تريدها أنت، وكتابة العقد الرسمي في صالحي أكثر منها في صالحك. قال: لا فائدة من الجدال في ذلك، ولا أقبل إنهاء البيع إلا بكتابة العقد الرسمي ساعة أن تدفعي إلي الألف جنيه. واحترت في أمري ماذا أفعل، وكانت الحفلة ناجحة، وقد أعجب بها الناس، واضطررت أن أترك التليفون لأشرف على الحفلة، وأقابل الزائرين، وكنت كعادتي أضحك باسمة لنجاح الحفلة، وإن كان في قلبي ما فيه من الخراب المحدق بي في اليوم الذي بعده؛ لأنه بلغني أن البارون قد كسب القضية ضد رئيس الجمعية، وأنه ينتظر استخراج صورة الحكم ليحجز على أثاث المدرسة، وكنت أود أن أنهي عقد المنزل لأستلمه، وأنقل أثاث المدرسة إليه، فأهرب من ذلك الخراب المؤكد، والآن وقد فسخ الرجل البيع، ولا سبيل إلى مبلغ 500 جنيه في تلك الليلة، أو في صباح الغد، فقد خسرت كل شيء؛ لأن الألف جنيه الأولى التي دفعتها ضاعت كما سيضيع جميع الأثاث الذي صرفت في شرائه كل ما أملك.
وكنت مع هذا التفكير والضيق الذي كنت أشعر به أقابل الناس بثغر باسم حتى أخذوا يتهامسون قائلين لبعضهم البعض إن كثرة المال تجعلها تتمايل طربا وسرورا بما نالت حتى لا تكاد شفتاها تنقطعان عن ابتسامات خارجة من قلب مسرور، وخرج الناس في تلك الليلة، ودخلت مكتبي فاعتمدت رأسي بين يدي، وأخذت أفكر في مصيري في الغد، وكيف أقابل تلك النكبات المتوالية، وبينما أنا على تلك الحال إذا بعمدة بلدتنا قد دخل علي، وكان الرجل قد باع قطنه بسعر القنطار 40 جنيها، وكان لي وسط أرضه عشرة فدادين سبق أن طلبها مني فرفضت بيعها، فلما أسعده الحظ ببيع قطنه بذلك السعر المرتفع، جاءني وبيده عقد بيع عرفي كتبه له مأذون الناحية بثمن خمسة آلاف جنيه لتلك الأفدنة، وكان الرجل ينتظر أن أرفض، فأخذ يرجوني ألا يخيب أمله وألا أرده إلى البلدة خائبا، وما كادت عيني تقع على النقود حتى ضحكت ضحكة من القلب لا تلك التي كنت أتظاهر بها منذ ساعات، وقلت له بلهفة: إنك ضيفي، ومحال يا سيدي أن أردك خائبا. فشكرني الرجل، وأمضيت له العقد، وسلمني النقود، وفي الساعة التاسعة صباحا كلمت محامي صاحب المنزل تليفونيا، وما كاد يسمع صوتي حتى أجابني بشدة قائلا: «لا فائدة من الكلام يا مدام إن لم يكن معك ألف وخمسمائة جنيه لدفعها اليوم.»
قلت: «إني إنما أكلمك لتضرب لي موعدا لنذهب معا إلى المحكمة لدفع ما تريد.» قال: «ومن أين أتتك الخمسمائة جنيه، وقد أكدت بالأمس أنه لا يوجد معك إلا ألف فقط؟» قلت: «ليس ذلك من شأنك يا سيدي في شيء.» وتم شرائي المنزل في ذلك اليوم، وهنا صدمتني عقبة أخرى، وهي أن المنزل كان يسكنه ست أسر كلها من الأجانب، وكان من الصعب أن أضطرهم إلى الخروج منه، وكان البارون على وشك الحجز على أثاث المدرسة إن لم أنقله منها، فأخذت أعد العدة لإخراج هؤلاء السكان بأي ثمن كان.
إخراج السكان من المنزل
عرضت على كل ساكن مبلغ خمسين جنيها نظير أن يخرج من المنزل فرفضوا جميعا، وأخيرا اتفقت مع ساكن فقير كان يسكن «البدرون» على أن أعطيه ثلاثين جنيها، وأستأجر له شقة صغيرة، وأنقله إليها، فقبل مني ذلك ، وبعد أن استأجرت الشقة، وأعددتها له، وجئت لأخذ منقولاته رفض؛ لأن باقي السكان حرضوه على ذلك، وكان صاحب المنزل يشغل غرفة مع ذلك الساكن فاستلمت تلك الغرفة، وقلت للساكن: إني أريد أن أنقل منقولاتي إليها لأسكن فيها معكم، فرفض ذلك، وقال: إن صاحب البيت ما كان يدخلها إلا من الشباك الخلفي. قلت له: ولكني لا أستطيع دخول الغرفة إلا من أبوابها. وحصلت بيني وبينه مشادة، وأراد أن يغلق باب الشقة ليمنعني من الدخول إليها، فأمرت فراشي المدرسة فخلعوا الباب وألقوه جانبا، وجن جنون الرجل إذ رأى ذلك، وتصور أني قد جنيت جناية، كما ظن ذلك كل السكان، فخرج مسرعا إلى القسم، وعاد بضابط، فلما رآني الضابط حياني، وسألني عن المسألة، قلت: إني مالكة هذا البيت، وإني أسكن في غرفة مع هذا الساكن، وقد أراد أن يمنعني عن غرفتي، فخلعت الباب حتى لا يغلقه، وحتى أتمكن من استعمال غرفتي، وأمن الساكن على كلامي، ولكنه طلب أن أستعمل الغرفة من شباكها دون أن أدخل الشقة. ورأى الضابط تعقد الحل فقال: إن هذه مسألة مدنية لا شأن للقسم بها. وحياني وانصرف.
وقام السكان جميعهم، وحرضوا ذلك الساكن، وكان فرنسي التبعة، حرضوه أن يذهب إلى قنصل فرنسا، وأن يشكو أمره إليه، وكان لحسن الحظ أن سبق أن قنصل فرنسا قد زار المدرسة، وأعجب بتعليم اللغة الفرنسية فيها، وقرر لها مبلغا من المال لإعانتها، فكلمته تليفونيا قبل أن يصل الرجل إليه، وقلت له إني مضطرة أن أنقل المدرسة إلى ذلك المنزل بأسرع ما يمكن، وإني عرضت على الساكن ثلاثين جنيها، وأجرت له الشقة التي ينقل إليها، فوعدني بالمساعدة، ولما ذهب إليه الساكن أمره بالخروج من الشقة وبأخذ المبلغ، ولكن الرجل كان عنيدا فأصر على رأيه، ولم يقبل الخروج، وصممت أنا أيضا على رأيي، وملأت الغرفة التي أسكنها معه بعدد من موائد الأكل كما ملأت الصالة أيضا بتلك الموائد، وعارض الرجل، وكان يعمل في مدرسة الراهبات التي بجوار مدرستي، فشكا أمره إلى رئيستها، فأرسلت إحدى الراهبات لإصلاح ما بيننا، فوجدتني واقفة، وقد اكتظت الصالة بنحو 15 فاعلا أجرتهم خصيصا لذلك، فسألتني: من هؤلاء وكيف يبقون في المنزل؟ قلت: إنهم خدمي، ولا بد من مبيتهم في تلك الغرفة، وإذا كان هو لا يقبل البقاء معهم فما عليه إلا أن يترك الشقة، ويقبل المبلغ الذي عرضته عليه.
অজানা পৃষ্ঠা