وهكذا أيدت السفور عمليا لا بالقول، وكنت أعلم أن في التعليم ما يفي بالغرض الذي أريده دون نقاش أو مجادلة، ولقد صدق ما كنت أتوهمه، وأسفرت نساء مصر الآن حتى أصبح الرجال يطعنون على عقلية المحجبات، نعم تم ما كنت أرجوه، ولكن على شكل لم أكن أريده، فقد صحب ذلك السفور تبرج معيب كنت أربأ بفاضلات المصريات عن أن يتدهورن إليه خصوصا المتعلمات منهن، ولكن ما يدرينا! فلعلها مرحلة انتقال، ننتقل منها إلى السفور الكامل المحتشم.
دخولي البكالوريا
تعينت كما قدمت معلمة بمدرسة عباس الأميرية بمرتب ستة جنيهات، بينما كان مرتب خريجي المعلمين العليا من الرجال اثني عشر جنيها شهريا، فساءني أن تعاملنا الحكومة ونحن نعمل معاملة الوراثة؛ أي نصف الرجل، لا أنكر أن الوراثة قد تكون على حق؛ لأنها ليست من مجهود أحد، أما أن تعمل الفتاة ما يعمله الرجل، ثم تتناول نصف مرتبه فهذا ما لا يعقل؛ لهذا ثارت ثائرتي.
لقد كنت أدرس كما يدرس الفتى، ولم يكن للحكومة مدارس ثانوية كثيرة، فكنا جميعا ندرس للمدارس الابتدائية، فلماذا تميزه الوزارة عني لا بجنيه ولا بجنيهين بل بضعف مرتبي؟! لقد كنت أعمل جاهدة في أن تساوى المرأة بالرجل في الوظائف، وفي كل شيء، وكان رأيي كما قدمت أن أصل إلى تقرير ما أريده بالعمل لا بالقول؛ فقد قررت السفور لا بمقالات منمقة وآراء شيقة، بل بخروجي سافرة، إذن لم لا أقرر المساواة بين الفتاة والفتى في التوظف لا بشيق المقالات ولكن بالعمل الذي لا يقبل الجدال؛ ولهذا طلبت من الوزارة أن تسوي بيننا وبين الرجال في المرتب، فأجابتني الوزارة بأني وزميلاتي لم ننل شهادة البكالوريا، وإن كنا قد تعلمنا من فنون التربية والتهذيب ما تعلمه طلبة مدارس المعلمين العليا حرفيا، ولكنا مع ذلك تنقصنا الثقافة العامة؛ ولهذا لا يمكن مساواتنا بهم، قلت لقد تعلمت من طرق التربية ما لم يتعلمه الرجال، وإذا كان ما ينقصني عنهم هو مرحلة الثقافة العامة؛ أي نيل شهادة البكالوريا فإني سأدخلها وسأنجح فيها حتى لا أترك لوزارة المعارف عذرا في عدم مساواتي بالرجال.
اطلعت من ذلك اليوم على منهج البكالوريا، وملأت استمارة دخول امتحان البكالوريا في الميعاد الذي حددته وزارة المعارف، وأرسلتها إلى الوزارة، فضج رجال الوزارة لهذا الحادث، وكان حديثهم في روحاتهم وغدواتهم، واستعظموا على فتاة لم تتعلم في مدرسة ثانوية أن تدخل الامتحان، وهي لم تستعد له، فجاءني المستر دانلوب في مدرسة عباس وبيده استمارة التحاقي بالامتحان، قدمها إلي وهو يضحك، وقال: يبدو لي أنك لم تقرئي منهج البكالوريا، ولو أنك قرأت ذلك المنهج لما أقدمت على إرسال طلبك هذا. قلت: كلا لقد قرأته، وكدت أنتهي من دراسته. قال: إنك واهمة فاستمعي لنصحي، واسحبي هذا الطلب، ولا ترسليه مرة أخرى، اللهم إلا إذا وعدتني بأنك ستنجحين. قلت: وهل وعدك أحد ممن تقدموا لهذا الامتحان بنجاحه فيه قبل دخوله؟ قال: ولكنك تلميذتي، ويهمني أمرك. قلت: إن الكل تلاميذك يا سيدي، ولا بد أن يهمك أمرهم بمقدار ما يهمك أمري. قال: إذن فاعلمي بأنك إذا رسبت فستنحط منزلتك في نظري. قلت: إني - والحمد لله - فوق الخادمات مباشرة، ولا تستطيع أنت ولا غيرك أن تعتبرني خادمة؛ أي إني أقف اليوم على الأرض، وليس في وسعك أن تحفر تحت أقدامي، فمكانتي في التوظف لا تحتمل النقصان. قال: إنك عنيدة، ولكني أكرر لك النصح في أن تسحبي طلبك هذا وأن لا ترسليه إلى الوزارة. ثم خرج دون أن يترك لي وقتا للإجابة على ما قال، وما كاد يصل إلى الوزارة حتى كان طلبي في إثره.
ضجت الوزارة كلها، واعتبروا ذلك حادث العام، ولم يعد في الطلبة المتقدمين إلى البكالوريا حديث إلا أن لهم زميلة من الجنس اللطيف، وقد كانوا يجهلون تلك الزميلة طبعا، فأخذوا ينقلون عنها ما يشاءون، فاعتبروها من أجمل ذلك الجنس وألطفه، وأنها ما تقدمت إلى ذلك الامتحان إلا لتظهر دلالها وجمالها، وجاء وقت الامتحان، وأعدت لي الوزارة لجنة خاصة في المدرسة السنية، أما باقي الطلبة فكانوا يمتحنون في لجان في بناء الوزارة بدرب الجماميز، وهو البناء الذي لا يزال إلى الآن مشغولا بمخازن الوزارة.
وكنت آخذ ترام السنية من مدرسة عباس فيمر بي على السنية، ومنها إلى درب الجماميز، فكان الطلبة القاطنون في السبتية وفيما يجاورها يركبون معي في نفس الترام، ولم يكن في الترام ديوان خاص بالسيدات، وكان المرحوم شقيقي يصحبني في ذهابي وإيابي، فكنا نجلس في آخر عربة حتى لا تتجه أنظار الطلبة إلي، وكانت أحاديثهم تنصب على أم رأسي، فمنهم من أقسم على ضربها عند فشلها وسقوطها في الامتحان، وكانوا يقولون إن سقوطها محتم لا شك فيه، وما دخلت الامتحان إلا لتبدي جمالها وتبرجها، كل ذلك وهم لم يعيروني أي التفات؛ لأني لم أكن الشخصية التي كانوا يتخيلونها؛ إذ كانوا يتخيلون فتاة لعوبا متبرجة، أما تلك التي كانت تجلس في آخر الترام فقد كانت فتاة محتشمة، لم يكن يشك أحد في أنها لا تعرف القراءة، وكان أخي إذا سمع حديثهم عني تبسم ونظر إلي، فكنت أحترس أن لا أجيب على ابتسامته بمثلها، وكنت أجتهد في أن أنزل من الترام قبل المدرسة السنية بمحطة، وأدخلها من بابها الخلفي؛ لأني كنت أعلم أن كثيرا من الطلبة يتجمهرون أمام بابها لرؤيتي، وهذا ما كنت أفعله عند الخروج.
أما اللجنة التي كانت تراقبني أثناء الامتحان؛ فقد كانت لجنة كاملة؛ أي مكونة من ثلاثة أشخاص فرنسي وإنجليزيتين؛ إحداهما ناظرة مدرسة السنية؛ أي صديقتي المعروفة! فكانت كلما دخلت الامتحان وخرجت منه تحييني بعبارات التأنيب أو السخرية، كقولها إنك مغرورة ، ولا شك أنك سترسبين، أو ما الذي حملك على التقديم، وتكليفنا إعداد لجنة خاصة لك؟ وقد كنت أجيبها على تحياتها هذه بابتسامات تشف عما في قلبي لحضرتها من الحب المكين، وكانت الغرفة التي أمتحن فيها واسعة جدا؛ إذ كانت معدة لامتحان طالبات السنية بأجمعهن، وكنت أجلس في وسطها، وكان هذا يبعدني عن صديقتي الناظرة بمسافة تجعلني لا أتمتع برؤية وجهها رؤية دقيقة، وكان المراقب الفرنسي رجل لطيف، فكان إذا مر بي أشار بيده إلى تعليمات كانت على رأس ورقة الامتحان، وهي: «لا تلتفت يمينا ولا شمالا، ولا تشر إلى أحد ممن بجانبك أية إشارة.» كان يشير إلى تلك التعليمات قائلا: يجب عليك تنفيذها. وهو بالطبع كان يعلم أنها منفذة بطبيعة الحال؛ لأنه لم يكن بجانبي أحد.
وكانت تعليمات الامتحان تقضي أن لا نحضر معنا من أدوات الكتابة شيئا، فكانت تعطى لي الريشة التي أكتب بها، وحدث في امتحان الهندسة أن كان سن الريشة مكسورا فلم أستطع الرسم بها، وصرت كلما رفعت يدي، حضرت إلي صديقتي ناظرة السنية، ورفضت رفضا باتا أن تعطيني ريشة غير الريشة التي أمامي، وضقت ذرعا بتصرفها هذا، فتظاهرت بالكتابة، وبالامتناع عن طلب ريشة جديدة، ثم قمت فجأة أسير بسرعة نحو المراقب الفرنسي، فما كادت تلحق بي إلا ونحن الاثنتان أمامه فعرضت عليه الريشة، وطلبت منه تغييرها فوافقني على هذا الطلب، ولكنها عارضته، وبقيت معه في جدال ونقاش نحو ربع الساعة، وأخيرا انتصر الرجل، وأتاني بريشة جديدة.
وآخر أيام الامتحان جاءني مستر دانلوب، فقال لي: أتظنين أنك ناجحة؟ قلت: نعم، أظن ذلك. قال: حسنا! صدق الله ظنك. وخرج، وهنا تناولتني الناظرة، وأخذت تعتب علي كيف أجيبه بالإيجاب، وماذا يكون موقفي إذا أنا رسبت، فقلت لها: إني لم أدع النبوة ولا الإخبار بما في الغيب، وكل ما قلت له إني أظن أني ناجحة، ولا عيب علي إذا كان ظني هذا غير صادق، فكثيرا ما يظن الإنسان غير ما يحدث، ولا حرج عليه فيما يظن.
অজানা পৃষ্ঠা