وهزموه هزيمة لم تقم له بعدها قائمة، واضطروه لقبول ما عرضوه عليه من شروط الصلح التي تشبه من جميع الوجوه ما أبرم مع قرطاجة وفيليب المقدوني، وهي أنه لا يجوز له محاربة أحد مجاوريه بدون إذن سناتو رومة، وأن يسلم ما لديه من أفيال الحرب إلى ملك برغامة، ويدفع إليه غرامة حربية تساوي مائة ألف جنيه من عملة هذا الزمان، وأن يدفع لرومة غرامة تعادل ثلاثة ملايين جنيه ويسلمها جميع مراكبه الحربية، وأن ينسحب إلى ما وراء جبال طوريس بحيث يكون هذا الجبل حدا لأملاكه من جهة الشمال، وأخيرا اشترطت عليه تسليم أنيبال أكبر محرض على هذه الحرب التي كانت القاضية على ملك أنتيوكوس، فكأن أنيبال لم يكتف بما أصاب بلاده من الضرر بسبب مطامعه فأوقع محازبيه في ما وقع هو فيه من المصائب، ولما علم أن أنتيوكوس قبل تسليمه إلى الرومانيين فر هاربا واحتمى لدى بروزياس ملك بثينيا.
وقد وزع الرومان ما أخذوه من بلاد أنتيوكوس على محالفيهم من اليونان ولم يبقوا لأنفسهم شيئا منها، وأعطوا معظمها إلى أكبر حلفائهم، وهو
Eumène
ملك برغامة، فصار بالنسبة لأنتيوكوس كمسنيسا ملك نوميديا بالنسبة لقرطاجة.
وبعد أن أتموا إخضاع هذا الإقليم ورتبوا أموره ووطدوا ربط الاتحاد بين سكانه وبين الحكومة الرومانية عادوا إلى أوروبا ولم يتركوا نفرا من جنودهم في البلاد التي فتحوها، بل ردوها لأصحابها مكتفين بأن يكونوا لهم أصدقاء مخالصين لا أعداء معاندين كما فعلوا مع بلاد اليونان سابقا، فوجدوا منهم أكبر عضد وأعظم مساعد عند مرورهم من بلادهم قاصدين آسيا الصغرى، نعم إن بعض القبائل انقلبت على الرومانيين في أوائل محاربة أنتيوكوس لاعتقادها أنها لم تحظ بما تستحقه من المكافأة بعد مساعدتها الرومان في أول الأمر على محاربة فيليب المقدوني، إلا أنها لم تر بدا من الإذعان بعد أن لقيت من الرومان يدا قوية في معاقبتهم على خيانتهم لها وعدم محافظتهم على ولائها.
وبذلك لم يبق لرومة مجاور تخشى تعديه على حدودها، بل لم يبق على ضفاف البحر المتوسط أمة غير متحالفة معها، وبعبارة أخرى غير خاضعة لها بالفعل، ولكن لاعتقادها عدم المقدرة على جعل بلادهم ولايات رومانية بحتة؛ تركت لها هذا الاستقلال الظاهري حتى تتمكن من إخضاعها تماما تبعا لمقتضيات الظروف ودواعي الأحوال.
ولا يخفى ما بين هذه السياسة وسياسة الدول الأوروبية مع الأمم الشرقية في هذه القرون الأخيرة من التشابه، فمن راجع تاريخ احتلال الإنكليز لبلاد الهند وامتداد نفوذهم تدريجا تارة بالفتح وغالبا بإبرام المعاهدات الودادية (كما يسمونها) مع الأمراء والحكام، وإيقاد نيران البغضاء والشحناء بينهم، ومساعدتهم على بعضهم البعض لإضعافهم وتفريقهم، وما تبذله إنكلترا الآن من هذه السياسة المبنية على الأنانية وحب النفس في بلاد إفريقية بمساعي رجالها، مثل سسيل رود في الجنوب، والكابتن لوجارد في الوسط، واللورد كرومر في الشمال؛ يتحقق أن الإنكليز تشبهوا في سياستهم الاستعمارية بالرومانيين الذين سبقوهم في هذا المضمار.
وقد كانت نتيجة إتعابهم أجيالا متعاقبة الخراب والدمار لما تغلبت عليهم اللذات، ومالوا مع الهوى بسبب كثرة أموالهم وشدة غناهم.
وحيث قد شوهد أن الحوادث التاريخية تتكرر فلا بد أن تكون عاقبة الإنكليز سيئة جدا لو داموا على هذه الخطة خطة الأثرة وامتهان حقوق الضعفاء والإكثار من امتلاك البلاد، فإن ذلك قد أثار طمع الأمم الأخرى فقامت لمزاحمتها، وسيكون لها من ألمانيا والروسيا في المستقبل أكبر منافس في المسائل الاستعمارية، وأعظم محافظ على طريق الاستعمار وهو مصر، ونؤمل أن تكون نتيجة هذه المزاحمة والمنافسة خيرا لمصرنا التعيسة، فتحصل على ما يضمن لها استقلالها بحماية جميع الدول ذات الصالح في حفظها من السقوط في أيدي دولة واحدة تقفل طريقها وتوصد أبوابها في وجه من خالفها أو عاداها.
هوامش
অজানা পৃষ্ঠা