فكانت الخصوبة فيها على جوانب الغدران وحوالي العيون التي تخرج منها الأنهار، وفيما سوى ذلك كانت الأرض جرداء قاحلة، وكانت النهاية الجنوبية لهذا السهل كشاطئ للبحر تغمرها مياهه وتتلاعب فيها أمواجه، وكانا يتصبان على مسافة عشرين مرحلة من بعضهما في خليج يحده شرقا آخر الجبال الإيرانية، وغربا الرمال المرتفعة التي تنتهي إليها هضبة بلاد العرب.
أما القسم الأسفل من هذا الوادي فأرضه كلها أحدث من أرض القسم الأعلى، فإنها قد أحدثها دجلة والفرات والنهيرات الأخرى مثل أدهم وديالى وخواسيس، وقد كانت هذه النهيرات مستقلة مدة طويلة من الزمان، وساعدت بنفسها على ردم ساحل البحر، وأزاحت مياهه عنه ولكنها آل أمرها إلى أن صارت مجاري ثانوية تنصب في نهر دجلة، وفي هذه الأيام يشاهد المتأمل تقدم دلتا شط العرب واتساع نطاقها، فإن متوسط زيادة طرح البحر يعادل ألفا وخمسمائة متر في كل سبعين سنة.
ولا بد أن هذه الزيادة كانت أكثر من ذلك في الأزمان القديمة، وربما أنها كانت تبلغ ألفا وخمسمائة متر تقريبا في كل ثلاثين سنة.
وفي العصر الذي توطن فيه أجداد الكلدانيين بهذا الوادي كان الخليج الفارسي يمتد في داخله إلى أكثر مما هو عليه اليوم بأربعين مرحلة، وكان دجلة والفرات ينصبان إلى البحر وبينهما مسافة تفصلهما عن بعضهما، ولم تمتزج أمواجهما ببعضها إلا بعد ذلك بآلاف وآلاف من السنين. (3) إقليم كلديا ومحصولاتها
إن القطر المكون من طمي الأنهار لا سيما نصفه المجاور لشواطئ الخليج الفارسي كان موطنا ومهادا للأمم الأولى التي استقرت بهذه الديار، وقد كان هذا القطر سهلا فسيحا مستويا، ليس مضرسا بالارتفاعات والانخفاضات، ولم يكن الفرات محصورا حصرا جيدا بين شاطئيه؛ فلذلك كان يتفرع ذات اليمين وذات الشمال، وبعض هذه الفروع تنصب في دجلة، وبعضها يجري إلى البطائح. وكان قسم من الأرض محروما من المياه، فأخذ في التصلب والجمود من تأثير أشعة الشمس المحرقة عليه في كل يوم، وقسم آخر قد انهالت رمال البيداء عليه كله تقريبا، وتراكمت فوقه، وتراكبت، وأما بقية القطر فما كانت إلا كبحيرة مستنقعة موبئة مشحونة بالغاب الهائل الذي كان يختلف طوله بين اثني عشر وخمسة عشر قدما، وكان إقليم هذه البلاد ولا يزال عرضة لتغيرات جوية مخيفة، ففي الشتاء تهب عليه رياح الشمال، ورياح الشمال الشرقي بعد أن تمر على نجاد أرمينية ، وإيران التي تعلوها الثلوج؛ فلذلك تكون درجة الحرارة فيها منخفضة جدا، ويحصل الجليد في شهر يناير، وتتغطى المياه الراكدة في صباح كل يوم بطبقة رقيقة من الثلج تذوب عند طلوع الشمس، ومتى جاء الصيف حل بها الحر الشديد؛ فتهب الريح الجنوبية الغربية آتية من بلاد العرب فيضطر ساكنيها إلى الالتجاء عند منتصف النهار في حجرات مظلمة، أو في أقبية وأنفقة وسراديب تحت الأرض، وليست هذه الأراضي غير متوفرة فيها أسباب الثروة، وأصول الرزق الطبيعية. نعم إن أشجارها النافعة قليلة؛ إذ يندر فيها شجر الكرم، والتين، والزيتون، ولكن القمح ينبت فيها على حالته البرية، وأشجار النخيل تزهو فيها وتبسق كما تصلح بأرض مصر. قال هيرودوت ما تأتي ترجمته:
إن أرضها موافقة كل الموافقة لزراعة الحبوب بحيث إن محصولها يكون في العادة بمعدل مائتي حبة عن كل واحدة، بل ثلاثمائة في الأرض البالغة في الخصوبة، ويبلغ عرض ورقة القمح والشعير فيها أربعة أصابع، وأما الأذرة والسمسم فإنهما يعظمان فيها حتى يصيرا كالأشجار، وإني أتحاشى الكلام على مقدار ارتفاعهما لعلمي بأن قولي لا يقابل إلا بالريب، وعدم التصديق عند من لم يسكنوا أرض بابل. ولا يستعمل زيت الزيتون هنالك قط، بل إنهم يصطنعون زيتا من السمسم.
وقال إسترابون ما تعريبه:
إن النخل يقوم بسائر الاحتياجات التي تلزم للأهالي، فإنهم يستخرجون منه شبه الخبز والنبيذ، والخل والعسل والحلوى، وجميع أجناس المنسوجات، والحدادون يستعملون نواه في الحريق بدلا من الفحم، وقد يستعملون هذا النوى أيضا في التغذية وتسمين الأثوار والضأن بعد دقه ونقعه، ويقال: إن في الفارسية قصيدة تتضمن ثلاثمائة وستين طريقة لاستعمال النخيل. (4) حيوانات كلديا
كان عند قدماء الكلدانيين ما عند قدماء المصريين من الحيوانات الأهلية المستخدمة وهي؛ الثور والحمار والضأن والمعز والخنزير، وأما الجمل والفرس فقد أتياهم قبل أن يدخلا مصر. وكانت الطيور عندهم بكثرة وافرة خصوصا المائي منها مثل البط والأوز وطير الرخم، وكانت الأنهار والبرك مشحونة بسمك صالح للأكل مثل البوري والبني، وما زال السمك الطري والمملح له دخل عظيم إلى الآن في تغذية السكان المحدثين بهذه البلدان. وأما الحيوانات الوحشية فربما كانت أكثر من الحيوانات المستأنسة، فكان الأسد وكثير من الوحوش التي من فصيلة السينور تتردد على شواطئ النهيرات. وأما الفراء وهي الحمر الوحشية فكانت تجوب أرض الجزيرة عرجلة عرجلة؛ أي جماعات جماعات. وقد كان الثور الوحشي في جميع أنحائها. والظاهر أن الفيل نفسه قد أقام في الخطط والبلاد المجاورة لبر الشام. (5) تكوين عيلام وكلديا
ومجمل القول أن البقعة البطائحية التي تمتد من هضبة بلاد إيران في حدود مصبي الفرات ودجلة؛ كانت معدة مثل الدلتا في مصر لأن تكون مهدا لحضارة فائقة ومدنية عظيمة كاملة. ولما توالى عليها الزمان تكون فيها دولتان متمايزتان.
অজানা পৃষ্ঠা