فسار تيطس وجميع رجاله إلى أورشليم وحاصرها وبنى حولها الآكام العالية، وأخذ يرميها بالحجارة الكبيرة، وكان اليهود والخوارج هناك منقسمين إلى أحزاب عديدة يقاتلون بعضهم بعضا، فلما رأوا الرومانيين اجتمعوا يدا واحدة على الدفاع حتى آخر نقطة من دمائهم.
وحصلت بين اليهود والرومانيين معارك عديدة أظهر فيها الفريقان من الشجاعة والإقدام ما يحفظ لهم الذكر الحسن والفخر الجزيل في صفحات التاريخ، ولكن الرومانيين كانوا أكثر رجالا وأقوى في الآلات ومعدات الدفاع، فتغلبوا أخيرا عليهم وهدموا الأسوار الثلاثة التي كانت تحيط بالمدينة ودخلوها بعد قتال تشيب له الأطفال، دافع فيه اليهود مستقتلين فراح كثيرون منهم شهداء وطنهم وبلادهم.
وارتفعت جلبة عظيمة عند فتح المدينة فلم يعد أحد يعي على أحد ، واغتنم واحد من جنود الرومانيين الفرصة فأسرع إلى الهيكل وأضرم النار فيه وتبعته بقية الجنود، ولما رأى اليهود أن النار تلتهم الهيكل حاولوا إطفاءها بما بقي فيهم من القوة، ولكنهم لم يفلحوا.
ونظر تيطس لهب النار يتصاعد من الهيكل، فأسرع ودخل قدس الأقداس فرآه بديعا عظيما يفوق وصف الواصفين، ولم تكن النار قد وصلت إليه فصار يحرض الجنود على إطفاء النار وبذل الجهد الجهيد لمنع امتدادها، لكنه لم يفلح ولم تعبأ الجنود بكلامه وأخذوا في سلب الآنية الثمينة والحجارة الكريمة، ولما أعيته الحيل وعجز قواده عن رد الجنود خرج آسفا ووقف ينظر إلى هذا البناء الفخيم وقلبه ينفطر حزنا وكآبة.
وجاء في المقتطف الأغر: قال يوسيفوس: إن المرء لا يستطيع إلا أن يأسف على خراب ذلك البناء الفخيم؛ لأنه أعظم بناء رأيناه أو سمعنا به في شكله وحجمه وفي النفقات الطائلة التي أنفقت عليه، وفي شهرة قدس الأقداس المجيدة، ولكنه يتأسى بأن الأقدار قضت بذلك ولا مرد لقضائها، ومن عجيب الاتفاق أن الهيكل خرب هذه النوبة في الشهر واليوم اللذين خربه فيهما البابليون، حيث الخراب الأول كان في اليوم التاسع من شهر آب، والخراب الثاني في اليوم التاسع من شهر آب، ومن بناء الهيكل أولا في عهد سليمان إلى خرابه في السنة الثانية من ملك أسبسيانوس ألف ومائة وثلاثون سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوما، ومن بنائه ثانية في زمن حجي في السنة الثانية من ملك قورش إلى خرابه في عهد أسبسيانوس ستمائة وتسع وثلاثون سنة وخمسة وأربعون يوما، ويقدر عدد الأسرى من أورشليم بسبعة وتسعين ألفا، وعدد الذين ماتوا قتلا ومرضا وجوعا بمليون ومائة ألف نفس أكثرهم يهود، واستأمن أحد الكهنة إلى تيطس وأعطاه منارتين من الذهب وموائد وآنية مختلفة، وسلم إليه أيضا الستائر والحلل الكهنوتية.
ولم يكتف الرومانيون بما أتوه من الفظائع، بل أحرقوا جميع مباني أورشليم وتركوها تندب عزها، أما يوسيفوس فبقي مع تيطس كل مدة الحصار، وكان اليهود يجتهدون لإلقاء القبض عليه وقتله والرومانيون يسعون في هلاكه كلما قهرهم اليهود؛ لأنهم كانوا ينسبون فشلهم إلى خيانته، ولكن تيطس كان يدافع عنه دائما ويحترمه كثيرا، وقد أذن له بعد خراب أورشليم أن يأخذ شيئا من مسلوباتها، وطلب يوسيفوس أن يطلقوا سبيل خمسين رجلا من رفقائه وأن يعطوه بعضا من الكتب المقدسة فأجيب طلبه.
ولما انتهى الرومانيون من الحرب وخضعت لهم البلاد سافر تيطس إلى رومية، وأخذ يوسيفوس معه فاستقبله أسبسيانوس استقبالا باهرا وأحسن وفادته، وأفسح له مكانا في منزله الخاص ومنحه الرعوية الرومية، وربط له معاشا سنويا، وبالغ في إكرامه كل مدة حياته، وهكذا بقي يوسيفوس عزيزا مكرما في مدة حكم ابنه تيطس وخلفه دوميتيان.
ولم يصل أحد من الباحثين إلى معرفة الوقت الذي توفي فيه يوسيفوس، ولكن يستنتج أنه كان حيا في عهد أغريبا الثاني الذي توفي سنة 97 للميلاد وله مؤلفات تاريخية عديدة منها حرب اليهود في سبعة كتب، وعاديات اليهود في عشرين كتابا، وكتاب ضد أبيون، وكتاب ترجمة حياته «ولا توجد كتبه بالعبرانية مع أنه كتبها بها وباليونانية، أما الكتاب العبراني المنسوب إليه فموضوع، وقد كتب في القرن العاشر للميلاد، ولعل النسخة العربية مأخوذة عنه»، ويقال: إن يوسيفوس كتب عدة تواريخ ومنها تاريخ باللغة اليونانية وآخر باللغة العبرانية.
هذا شيء من ترجمة يوسيفوس الشهير أوردناها هنا بالاختصار؛ لأننا لو أردنا الإطالة والإسهاب في وصف هذا الرجل وأطواره وأعماله لضاقت بنا المجلدات، وقد تعدينا في الكتابة عنه إلى ذكر حرب الرومانيين وانتصارهم عليه وفتحهم أورشليم وإحراق الهيكل؛ لأننا رأينا أن هذه الحوادث لها علاقة تامة بسيرته، فضلا عن أنها من أهم النقط والمباحث التاريخية المفيدة التي يجب معرفتها والوقوف على حقائقها فأوردناها فائدة للقراء. (6) السموأل
هو السموأل بن غريض بن عادياء اليهودي من يهود يثرب، وأكثر المؤرخين يسمونه السموأل بن عادياء، فيتركون اسم أبيه وينسبونه إلى جده، وهو أحد شعراء الجاهلية المشهورين وأكثرهم طلاوة ورونقا في كلامه، وصاحب الحصن العظيم المعروف بالأبلق الفرد الذي بناه جده عادياء، فكانت العرب تنزل فيه فيضيفها وتقيم هناك سوقا كبيرا ، وكما أن السموأل اشتهر بشعره، فإنه اشتهر أيضا بوفائه حتى صار يضرب به المثل في الوفاء والأمانة، وسبب ذلك أن امرؤ القيس بعد أن غزى بني كنانة وأوقع بهم الويل والنكال سار إلى الشام يريد قيصر وعرج في طريقه على السموأل ونزل ضيفا عليه في حصن الأبلق وأودعه دروعا كانت لأبيه ومضى في سبيله، وبعد ذلك بقليل أقبل الحارث بن ظالم، وقيل: الحرث بن أبي شمر الغساني، وطلب من السموأل أن يسلمه الدروع المودوعة عنده فرفض رفضا باتا وتحصن منه، وكان له ابن قد يفع، وكان مولعا بالصيد والقنص، فبينما هو راجع ذات يوم من صيده قبض عليه الحارث وسجنه وخير أبيه؛ إما أن يسلم الدروع أو يقتل ابنه، فأجابه السموأل شأنك به، فأنا لا أسلم الدروع ما دام في عرق ينبض؛ لأني إذا سلمت مال جاري الذي اؤتمنت عليه ثلم شرفي ولحق بي العار، فأنا لا أغير بذمتي، وأولى بالإنسان أن يموت شريفا عزيزا من أن يموت حقيرا مهانا، فاحتدم الحارث غيظا من هذا الجواب، وضرب وسط الغلام فقطعه قطعتين وانصرف، فقال السموأل:
অজানা পৃষ্ঠা