وكانت هذه الثروة الطائلة في يده ويد زوجته وسيلة لإغاثة الفقراء والمظلومين من أبناء ملته، فلما طرد اليهود من روسيا عرض على حكومة الروس مليونين من الجنيهات لتنفقها على التعليم، حاسبا أن السبب الأكبر لطردهم من بلاد الروس هو الجهل الضارب أطنابه فيها، فإذا انتشر التعليم والتهذيب زال منها التعصب والتحمس، فرفضت حكومة الروس هذه الهبة السنية.
وكان يحسب اليهود من أقدر الناس على الفلاحة والزراعة بناء على ما رأى منهم في بلاد المجر، قال: «إن أكثر الفلاحين منهم هناك، حتى إن خدمة الدين الكاثوليكي يعتمدون عليهم فقط في زراعة أوقاف الكنائس وكل أصحاب الأملاك الكبيرة يفضلون اليهود لاجتهادهم واستقامتهم ومهارتهم، فهذه الأمور دعتني إلى الاهتمام بإصلاح شأنهم، وسيظهر أنهم لم يفقدوا الميل إلى الزراعة الذي امتاز به أسلافنا، وسأبذل جهدي لأهيئ لهم أوطانا أخرى في بلدان مختلفة حيث يستطيع الفلاح أن يكون مستقلا بحرث أرضه ويستفيد من جده واجتهاده.»
فابتاع الأراضي الفسيحة في جمهورية أرجنتين وولاية نيوجرزي بأميركا وأماكن أخرى وأعطاها لأبناء أمته، ووهب جمعية استعمار اليهود مليونين من الجنيهات، وأعطى اليهود الروسيين المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأميركية نصف مليون جنيه؛ لكي يتعلم أبناؤهم ويتهذبوا ويصيروا مثل الأميركيين، فمضى كثيرون منهم إلى الولايات المتحدة الأميركية واستوطنوها وزرعوا الأرض، وأنشئوا المعامل وربوا المواشي ولهم في ولاية نيوجرزي مدرسة صناعية ومدرسة زراعية.
وقد يظن لأول وهلة أن رجلا يبلغ اهتمامه بأمر أمته وملته هذا المبلغ لا يهتم بغيرها، لكن البارون هرش لم يكن كذلك، بل كان يعتمد على الأكفاء من كل الأمم ويهتم بالمساكين من كل الطوائف، وهو الذي بعث بالمؤلف هال كاين إلى روسيا ليبحث عن أحوال العامة من شعبها وما يحتاجون إليه، وبعث إليها أيضا بالكاتب الشهير أرنلد هويت - مكاتب جريدة التيمس - لهذه الغاية. كتب المستر هويت عن البارون هرش «أنه يشتغل بأمر روسيا وتوزيع الصدقات فيها من الساعة السادسة صباحا، وأنا أكتب هذه السطور الآن وإلى جانبي ثلاثة مجلدات كبيرة كلها مكاتيب منه تدل على اهتمامه الشديد ورثائه للمحتاجين والمظلومين، وقد تصدق بأكثر من المال، فإنه تصدق بوقته وقواه العقلية لنفع أبناء ملته.»
وكانت زوجته تشاركه في كل أعماله وصدقاته، قال المستر إسكار ستروس سفير الولايات المتحدة في تركيا: «إنها أكبر مساعد لزوجها، فقد كان يستشيرها في كل أمر ويخبرها بكل شيء وكانت تقرأ مكاتيبه وتساعده في كتابة أجوبتها وترافقه في أسفاره، وتشاركه في أمانيه ولم تكن تشاركه في يأس؛ لأنه لم يكن ييأس من أمر قط، وهي امرأة فاضلة أنيسة المحضر رقيقة القلب، كريمة جدا أنفقت جانبا كبيرا من ثروتها الخصوصية على المدارس والملاجئ والمستشفيات، وكانت تزورها بنفسها وتهتم بإدارتها، رأيتها في القسطنطينية تزور أحياء الفقراء يوما بعد يوم وتساعدهم بيدها مسلمين كانوا أو مسيحيين أو يهودا بلا تمييز بينهم.»
وقص المستر ستروس على السيدة سارة بولتن القصة التالية، قال: أخبرني رئيس مهندسي سكة الحديد التي أنشأها البارون هرش أن أول قسم من السكة وصل من أسوار القسطنطينية إلى قرية تبعد عنها عشرة أميال، وكانت الحكومة العثمانية قد عينت له مكان المحطة في وسط القرية، واشترطت على نفسها أن تشتري مكان المحطة وتهدم البيوت التي فيه وتسلمه إلى البارون هرش، فقام السكان ونادوا بالويل والحرب مخافة أن لا تدفع الحكومة إليهم شيئا من ثمن بيوتهم وأرضهم، وبلغ الخبر زوجة البارون هرش وهي في الأستانة، فسألت زوجها عن جليته، فقال: هو كما بلغك، ولكن الأمر ليس في يدي، بل في يد الحكومة العثمانية، والشروط التي بيني وبينها تقضي عليها أن تبتاع البيوت والأراضي من أصحابها وتسلمنيها، فقالت: إن لم يكن الأمر في يدك فهو في يدي، كم ثمن هذه البيوت والأراضي؟ فقال: نحو مليون فرنك، فكتبت تحويلا على البنك بمليون فرنك، وأرسلت وكيلها فدفع إلى الناس ثمن بيوتهم وما يملكون وطيب خواطرهم، وبعد أيام أحتفل بفتح القسم الأول من سكة الحديد، وكان أولئك المساكين أشد الناس جذلا وحبورا.
وأنشأت مدارس في القسطنطينية قبل مغادرتها أنفقت عليها 25 ألف جنيه ولها ولزوجها مدارس كثيرة، وملاجئ في أكثر بلدان المشرق.
ومن صدقات البارون هرش الكثيرة أربعون ألف جنيه بعث بها إلى إمبراطورة الروس على أثر الحرب الروسية التركية؛ لتنفق على المحتاجين، ومليون جنيه لتنفق على أربعين مدرسة في غاليسيا يتعلم فيها الأولاد من كل المذاهب؛ لأنه كان يقول: إني أسمع صوت المعوز فلا أسأل: أهو من ملتي أو من غير ملتي، ولكن لا عجب إذا سمعت أكثر هذه الأصوات من أبناء ملتي وبذلت جهدي في إغاثتهم.
وقد قدر المستر ستروس الهبات التي وهبها البارون هرش في حياته بأكثر من خمسة عشر مليون جنيه.
وكان له قصور كثيرة في لندن وباريس وبلاد المجر وبعضها من القصور الملكية القديمة، ومنها قصر في باريس بنته الإمبراطورة أوجيني لدوكة البا، ولم يكد البارون هرش ينزل فيه هو وزوجته سنة 1887 حتى مرض وحيدهما، وتوفي فيه وتركهما مصدوعي الفؤاد، لكن وفاته زادت رغبتهما في مؤاساة الحزانى والبائسين، وكان متجملا بكثير من مناقب أبيه وأمه، عاكفا على عمل الخير، مغرما بالخيل عنده كثير من الجياد الكريمة فباعها أبوه بعد موته وتصدق بثمنها كله، وبكل ما ربحته خيله في السباق وهو مائة ألف جنيه، ولما مات باعت زوجته جياده وتصدقت بثمنها كما فعل هو بجياد ابنه.
অজানা পৃষ্ঠা