هي الفتاة الوارثة الثرية، التي أراد لها أبوها قبل أن يموت أن تتزوج عن طريق الاقتراع على صناديق ثلاثة: أحدها ذهبي، والثاني فضي، والثالث رصاصي. فلم يكن اختيار بعلها لها، وإنما لما تحكم به القرعة بين الخطاب الكثر الذين تقدموا لخطبتها. وقد كانت ترى مما يشق عليها أن تكون فتاة عاقلة مثلها غير قادرة على قبول من تحب، أو رفض من لا تحب. وكأنما الأقدار السعيدة كانت تهيئ لها السعادة حينما وقع اختيار الشاب باسانيو على الصندوق الرصاصي الرابح. ولكن باسانيو فقير لا يقوى على منافسة الخطاب الأثرياء، فلجأ إلى صديقه أنطونيو - تاجر البندقية - ليقرضه المال. ولكن أنطونيو - في غمرة من الضيق المالي - لجأ إلى اليهودي شيلوك الجشع الحقود. وما كادت بورسيا تعلم بمحنة أنطونيو حين عجز عن وفاء الدين في أجله، حتى همت لتنقذ أنطونيو من تصميم اليهودي شيلوك على تنفيذ الشرط القاضي باقتطاع رطل لحم من جسده. إن أنطونيو قد أسلف لها يدا غير مباشرة حين ضمن القرض الذي أخذه باسانيو ليتقدم إلى خطبتها، فكيف تقصر الآن عن معونته في النكبة التي مني بها أمام شيلوك؟ لقد تنكرت في زى محام شاب لتدافع عن أنطونيو وتنقذ حياته من يد اليهودي العنيد الحقود. ولقد كان موقعها في المدافعة أمام دوق البندقية موقعا اختلط فيه الشعر بالفلسفة. وامتزج فيه الوقار الرصين بالسخرية اللاذعة. وما أروعها وهي تلجأ إلى لغة الشعر لتتحدث عن الرحمة حديثا تحاول أن تلين به قلب اليهودي الذي قد من صخر! وما أذكاها وهي تحول القانون ضد شيلوك! فإنها اشترطت عليه أن يقطع اللحم من جسم أنطونيو بلا قطرة من دم، وإلا قضى عليه قانون البندقية بمصادرة أمواله وأملاكه، وهنا اضطر شيلوك - مكرها - إلى أن يرضى بأن يرد إليه أصل قرضه من غير تنفيذ لشرط اللحم! ولكنه في النهاية خسر قرضه، وخسر ماله كله الذي ذهب إلى ابنته جسيكا وزوجها لورنزو ... ولقد بلغ من حكمة بورسيا أن الكاتبة المسز جايمسون قالت: «إن شكسبير هو الفنان الوحيد - بجانب الطبيعة - الذي يستطيع أن يحيل النساء عاقلات حكيمات من غير حاجة إلى أن يجعل منهن رجالا.»
شيلوك
إذا كانت بورسيا هي جمال هذه المسرحية فإن شيلوك اليهودي الجشع هو سر القوة الكامنة فيها. وقد حاول شكسبير أن يجمع كل خصائص اليهود وصفاتهم العامة في شخصية شيلوك، الذي يمثل الشعب اليهودي أصدق تمثيل. ففيه منهم تلك الكبرياء العاتية التي لم تقف لحظة خلال العصور عن أن تثير العداوات، وفيه ذلك الشح المفرط الذي يقود إلى الجشع البغيض، وفيه منهم ذلك الضعف والذلة. فهو في الحق نموذج من آلام اليهود وكراهيتهم. وقد كان هو نفسه موضعا للازدراء الشديد والإهانات المتصلة من المحيطين به من مسيحي البندقية.
وكان له بينهم أعداء يرى نفسه أكبر من مصالحتهم، وإن كان أضعف من مقاومتهم. على أنه فوق ذلك لم يكن في يهوديته بأكثر منه في شيلوكيته ... فله من السمات الخاصة ما يزيد على سمات قومه ...
ولقد صوره شكسبير حقودا منتقما أكثر منه طماعا جشعا؛ فإن الحقد كان يجري في مفاصله مجرى الدم ... فقد أنساه حقده حب المال وهو يخاصم أنطونيو أمام دوق البندقية، حتى لقد رفض أن يدفع له دينه أضعافا مضاعفة لقاء أن يشفي حقده باقتطاع رطل من اللحم من جسد أنطونيو. وكل ذنب أنطونيو لديه أنه رجل تجمعت فيه أكرم خلال المسيحية - أو الإنسانية - فهو مسماح كريم منجد مغيث للملهوف لا يقرض بالربا مطلقا ولا يتعامل به. حتى لقد قال عنه الناقد الأديب “H. N. Hudson” :
لما كان الجشع والحرص هما هوى نفسه الذي تحكم فيه فإن الفضائل المسيحية التي لا تتفق مع ذلك بدت في عينيه من أكبر الذنوب.
ولقد بلغت شهوة المال والحرص عند شيلوك حدا جعلت منة شخصا بليد الحس، وضيع النفس. فلم يحزنه شيء حينما فرت ابنته جسيكا مع عاشقها المسيحي لورنزو أكثر من حزنه على المال الذي هربت به ... كأن الشرف عنده شيء لا اعتبار له بجانب المال. ويقول حينما علم نبأ هروبها بالمال والمصوغ: «من لي بابنتي ميتة عند قدمي، والماستان في أذنيها؟!»
وبلغ من بلادة حسه أنه ألف أن يسمع أفحش الطعن فيه فلا يتحرك ولا يثور، ولا يبدي آية من آيات الغضب. وكثيرا ما ندد به أنطونيو وباسانيو وأصدقاؤهما فلم يبد عليه أنه سمع من واحد منهم كلمة ... ويتمتع شيلوك - لو صح هذا التعبير - بنصيب كبير من المكر والخبث الذي بدا جليا في المحاورة بينه وبين أنطونيو وباسانيو، حينما جاءاه لطلب القرض منه. كما بدا جليا في المحاورة بينه وبين سالانيو وسالارينو حينما فات أجل الدين وحق تنفيذ الشرط القاضي على أنطونيو باقتطاع رطل من لحم جسده.
وإذا جاز لنا هنا أن نعود مرة أخرى إلى حقد شيلوك فإنه كان حاقدا على المسيحية بحكم يهوديته، وكان حاقدا على أنطونيو لأنه كان يسخر منه من ناحية، ولأنه كان تاجرا شريفا نجدا غير مراب ولا حريص على مال، وكان حاقدا على لورنزو المسيحي صديق باسانيو لأنه أغرى ابنته جسيكا بمغريات الحب فهربت معه من بيت أبيها شيلوك حاملة معها ما حملت من ذهبه ومصوغاته.
ولقد ضاع ذلك اليهودي التاعس في نهاية الخصومة بينه وبين أنطونيو ضياعا ماديا لا قيامة له بعده ... بفضل براعة بورسيا في الدفاع. فضاعت أمواله كلها التي أنفق الساعات في جمعها لتذهب إلى لورنزو المسيحي الذي تزوج بابنته جسيكا. وعاد من صفقة القرض التي كان يحسبها رابحة بأفدح خسران ...
অজানা পৃষ্ঠা