كانت الفكرة الأساسية التي أراد «دي تراسي» عرضها على أعضاء اللجنة الفرعية، مستمدة من الإضافة التي أضافها «كوندياك» إلى «لوك»، وهي أن اللغة ليست لمجرد التعبير عن أفكار تكونت، بل هي جزء لا يتجزأ من عملية التفكير نفسها، فاستنتج «دي تراسي» من ذلك أن تطوير العلوم مرهون بتطوير اللغة؛ وهي نتيجة لها من الأهمية والخطورة ما لا يحتاج منا إلى بيان؛ لأنه في هذه الحالة يصبح محالا أن يتغير للناس فكر دون أن تتغير اللغة في طريقة استخدامها. •••
وبالطبع لم يكن «كوندياك » قد أرسل قوله هذا بغير سند وتدليل، بل أوضح (في كتابه «مقال في أصل المعرفة الإنساني»، 1746) كيف أن قوام المعرفة تحليل لما يأتي إلى حواس الإنسان مدمجا، «فلو أدخلنا إنسانا - خلال عتمة الليلة - قلعة» تطل على منظر فسيح، حتى إذا ما أصبح عليه الصباح فتحنا له النافذة ثم أغلقناها على الفور، بحيث يتاح له من المنظر كله لمحة واحدة شاملة، فها هنا سينطبع المشهد على بصره، ولكنه لن «يلاحظ» شيئا معينا فيه، وبالتالي لن يستطيع وصفه لسواه، أما إذا أراد أن «يعرف» ما يرى، كان لا بد للنافذة أن تظل مفتوحة أمامه فترة، تتيح له أن يوجه الانتباه إلى هذا الجزء ثم إلى ذاك. بعبارة أخرى، ما كان قد رآه من المنظر في لمحة واحدة، يجب الآن أن يفك إلى عناصره ثم يعاد ضم العناصر آخر الأمر في مشهد واحد، فعندئذ يكون الرائي قد «عرف» المشهد بأجزائه وبالعلاقات التي تربط تلك الأجزاء بعضها ببعض.
على أن المهم هنا هو أن نلاحظ أن هذا التحليل - في رأي كوندياك - مستحيل بغير أن تسايره رموز كرموز اللغة، فكلما وقفنا عند جزء من المشهد كانت عنه لفظة تميزه، كقولنا «شجرة» أو «جدول» أو غير ذلك، فبهذا وحده يمكن بعد ذلك أن يصور الرائي لغيره ما قد رآه، وبغيره تعود الأجزاء فيتداخل بعضها في بعض بغير تمييز. وخلاصة القول أنه لا معرفة بغير تحليل، ولا تحليل بغير رموز، أي بغير ألفاظ ... وبعد ذلك يمضي كوندياك فيبين كيف تتطور هذه الألفاظ معنا من إشارتها إلى المفرد الجزئي، إلى إشارتها إلى الكلي الذي يطلق على مجموعة متجانسة من الأفراد. •••
عرض «دي تراسي» هذا على اللجنة الفرعية، شارحا ومعلقا، فأثار اهتمام الأعضاء بالموضوع إلى الحد الذي حملهم على إعلان مسابقات متتالية على الأعوام، يعرضون فيها على ذوي الكفاية أن يكتبوا ليجيبوا عن هذه الأسئلة الخمسة الآتية، وللفائزين السابقين جوائز، وحسبنا أن نذكر هنا أن الإغراء قد استدرج فلاسفة بارزين في عصرهم أن يسهموا بالرأي من أمثال «مان دي بران» و«بيير بريفو»، والأسئلة هي: (1)
هل يتحتم أن يستعين الإنسان برموز (= لغة) لينتقل من إحساسه المباشر بالأشياء إلى مرحلة يحول فيها ذلك الإحساس إلى أفكار؟ (2)
هل تعتمد دقة التفكير على دقة الرموز المستخدمة فيه؟ (3)
هل يرجع اتفاق المشتغلين بالعلوم المضبوطة النتائج إلى دقة الرموز التي يستخدمونها؟ (4)
هل تكون علة الخلافات التي تدب بين المشتغلين في فروع المعرفة التي هي موضع خلاف أن الرموز التي يستخدمونها تنقصها الدقة. (5)
إذا قومنا الرموز المصيبة في دقتها، هل تصبح كل العلوم على اختلاف ضروبها مضبوطة النتائج؟
تلك هي الأسئلة المطروحة للمتسابقين من رجال الفكر، وقد فاز بالجائزة الأولى في المسابقة الأولى رجل لم يكن من الفلاسفة المحترفين، هو «جوزف ديجراندو»، ببحث قدمه في أربعة مجلدات ضخام، يجيب بها على الأسئلة (وكان الثاني هو بيير بريفو أستاذ الفلسفة في جنيف، وكانت إجابات ديجراندو مختلفة عما كان ارتآه كوندياك في علاقة الفكر باللغة، لا في أنه لا علاقة بينهما، فذلك أمر لا اختلاف عليه، ولكن في إمكان أن يتم الفكر أولا بعملية عقلية صامتة، كل ما فيها انتباه يوحي إلى هذا الشيء أو ذاك، وبعد ذلك يأتي الرمز اللغوي فيجسد الفكرة في لفظ يمكن نقله وتداوله.
অজানা পৃষ্ঠা