তাচবিরিয়া
التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح
জনগুলি
أغلب الناس أصابهم البرد،
قطارات السكك الحديدية تهوي من الجسور.
تلك هي القصيدة، ولكن لنتوقف قليلا لنقول كلمة عن الشاعر. ومع أنني لا أحب الكلام عن حياة الأدباء ولا أميل للربط بين حياتهم وأعمالهم، فيبدو لي أن سطورا قليلة عن هذا الشاعر الغريب وشخصيته الغامضة المحيرة لن تخلو من فائدة. إنه شاعر مقل كما قلت، كتب الشعر في شبابه ثم كف عنه إلى الأبد.
وقد ولد ببرلين سنة 1887، في أسرة ميسورة الحال، وقضى صباه السعيد بين أب متشكك مادي النزعة يعمل طبيبا، وأم مثالية رقيقة الحس رفيعة الثقافة. وسرعان ما بدأت التناقضات التي ورثها عن أبويه تظهر في سلوكه؛ فقد ترك المدرسة الثانوية ثم رجع إليها، ودرس العمارة في مدينة ميونيخ، ثم اشتغل فترة لم تزد على نصف عام بالبناء، ولم يلبث أن تخلى عن هذه المهنة الصغيرة ليواصل دراسة الفلسفة واللغة اليونانية القديمة في جامعتي: يينا وبرلين. وأسس مع جماعة من أصدقائه الشبان ناديا يلتقون فيه مرة كل أسبوع ليقرءوا إنتاجهم. وكان من هذه الجماعة شاعر فقدته الحياة الأدبية قبل الأوان وما زالت تتحسر على موته؛ وهو الشاعر جورج هايم الذي مات غريقا سنة 1912، ولم يكد يتم الخامسة والعشرين من عمره. وقد اهتز شاعرنا لموت صديقه، ثم تكفل الإخفاق في الحب بتدمير صحته العقلية (أحب إحدى مصممات العرائس فلم تبادله الحب، وجن بشاعرة فلم يجد صدى لعاطفته)، ولم ينفعه تحوله إلى الكاثوليكية ولا شفاه تنقله بين مصحات عديدة؛ فقد ألح عليه داء شغوف بالفنانين والشعراء، وهو داء الفصام. وامتدت إليه أيدي الأصدقاء بغير جدوى، واختفى فترة ثم ظهر في باريس وميونيخ، ورجع إلى برلين ليجاهر أمه التي كان يحبها ويقدسها بالكراهية والعداء، ويفاجئ أصحابه بقراءة قصائده الجديدة. وأخذ المرض بخناقه فظل يتنقل بين المصحات العقلية المختلفة حتى استقر في مصحة بندورف-ساين بالقرب من مدينة كوبلنس في جنوب ألمانيا. وفي آخر أيام شهر أبريل سنة 1942 نقل المريض رقم 8 إلى مكان لا يعلمه أحد، واختفى بطريقة لم يعلمها أحد حتى الآن. وقد ضاعت معظم أشعاره وكتاباته النثرية، ونشر ما بقي منها سنة 1958 في زيوريخ تحت عنوان القصيدة التي نقلتها إليك في السطور السابقة، ولم يتجاوز هذا التراث ست عشرة قصيدة.
أما القصيدة نفسها فأول ما تلاحظه النظرة الأولى أنها ليست من القصائد ذات البناء التقليدي التي تتناول موضوعا أو تهدف لتصوير فكرة تمهد لها وتطورها وتنتهي بها إلى غاية أو خاتمة. وهي كذلك لا تنمي فكرة ولا تسير على منطق مألوف، بل تجنح إلى نوع من الشذوذ الذي يثير السخرية، وتزدحم بخواطر وتفاصيل يمكن أن نصفها بالسريالية (وهي سريالية لأنها تشوه معالم الواقع أو تتجاوز حدوده، وليس الواقع هو الذي يمليها بل إرادة الشاعر نفسه وخياله المسرف الجامح). هي إذن تضم مجموعة من الصور التي لا تتصل بعضها ببعض. كل بيت فيها وحدة بذاتها، بحيث تصبح وكأنها نوع من «الموازييك» ألف بينها خيال الشاعر وحده، لا المنطق ولا الواقع المألوف، القصيدة إذن توحي ولا تفهم، شأنها في هذا شأن الغالبية العظمى من قصائد الشعر الحديث، وهي بصورها المفككة تريد أن توحي برؤية الشاعر لنهاية العالم؛ ولذلك فليس غريبا أن يتغير العالم المطمئن المنظم وينهار فجأة أمام عيوننا: فالبرجوازي المطمئن الواثق بنفسه وبعالمه ومجتمعه سيفقد قبعته، وهي رمز ثقته واطمئنانه وثباته. وستصبح القبعة التافهة رمزا لهذا العالم أو هذا المجتمع المنهار، أما رأس البرجوازي فهي مدببة، تماما كما صورها الرسامون التعبيريون مثل كيرشنر وموللر وشميت-روتلوف، فأسرفوا في ذلك مبالغة في الاستهزاء به.
وأما عن جو القصيدة - وهو أهم ما في شعر التعبيريين - فهو يصطخب بضوضاء وأصوات وصرخات غامضة. إن اللاواقع قد غزا الواقع وتمكن منه. نفس الشيء الذي نلاحظه في رسوم كوبين ورؤى كافكا المخيفة عن الرعب والتعذيب (كما تبدو بوجه خاص في قصته معتقل العقاب التي تكاد تكون نبوءة صادقة عن أهوال الحرب العالمية الثانية وتعذيب الإنسان في معسكرات الاعتقال أو سجون الإرهاب على يد المستعمرين والجلادين القدامى والمحدثين)، ضوضاء، عواصف، دمار، وخراب، كوارث من كل نوع، كل شيء قد انقلب على رأسه، كل شيء قد تحطم وتمزق، والطبيعة والمدنية المتباهية بآلاتها وصناعاتها قد فقدت الطمأنينة، ودقت ساعة الكارثة، فلنتوقع كل شيء.
إن التفاصيل التي يزحم بها الشاعر قصيدته، وطريقته في عرضها، ومزجه بين عظائم الأمور وتوافهها، وانتقاله من كارثة تدمر الكون إلى أحداث تافهة كسقوط عمال بناء السقوف وإصابة أغلب الناس بالزكام ... كل هذا يوحي بالكارثة ويخلق شعورا غريبا تختلط فيه السخرية المرة بالمزاج الأسود. ولكن هذا الأسلوب ليس إلا جانبا واحدا من جوانب التعبيرية المتعددة قد نجده - على سبيل المثال - في الأفلام التعبيرية، فإذا تأملنا شكل القصيدة وأسلوبها وجدنا أنها ليست من القصائد التعبيرية الخالصة؛ فهي تحافظ على الوزن والقافية وشكل المقطوعة (وهو ما تعجز الترجمة عن أدائه!) كما تحافظ على سلامة اللغة وبنية العبارة، وهي أمور تخلى عنها معظم الشعراء التعبيريين واعتبروها قيودا تحد من انطلاق التعبير، ومع أن الشاعر يشارك معظم الفنانين التعبيريين في رؤيته لنهاية العالم وانهياره، وإبقائه على وحدة الأبيات وانعزالها عن بعضها البعض، إلا أن لغته لا تكشف عن أهم الخصائص التي تتميز بها لغتهم؛ فهي - كما قلت - لغة سليمة والتعبيريون يميلون إلى تشويه اللغة، والاكتفاء بالإيحاء والإيماء والتركيز على الكلمات الدالة باستبعاد الضمائر وحروف الربط والوصل وأدوات التعريف والاقتصار في معظم الأحوال على الأسماء والأفعال وحدها.
ومع هذا كله فالقصيدة تحتفظ بجانب تعبيري لا شك فيه. إن لم يتضح في لغتها وأسلوبها فهو أوضح ما يكون في رؤيتها العامة. وأذكرك بالعنوان الذي وضعه الناشر لهذه القصيدة وغيرها من القصائد التي تدور في فلكها. العنوان هو «سقوط وصراخ»، وهو في الحقيقة بالغ الدلالة على غرض التعبيريين. إن الصرخة هي أبلغ تعبير وأعمقه، وهي - إن جاز القول - تعبير خالص عار ، وكأن الشاعر التعبيري يتمنى أن تكون قصيدته صرخة وحسب. ولكن ما العمل إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يكتب قصيدة من الصرخات وحدها؟ ما العمل إذا كان مضطرا أن يبني أبياته من كلمات اللغة، وأن يحافظ فيها على قدر من المعقولية يكفي لتوصيلها للناس؟ ليكثف لغته إذن (فالفن تكثيف وكشف عن الجوهر!) وليحذف منها كل ما يراه تزيدا، وليقتصر على الكلمة الموحية المتشنجة التي تستطيع أن تفجر كل ما يحتبس في قلبه من عنف وغضب وثورة. ولكن الصرخة ستظل في نهاية الأمر هي الشكل الأمثل الذي يحاول الشاعر التعبيري أن يقترب منه. صرخة الإنسان في عالم منهار، صرخة يوحنا الجديد، صرخة الشوق إلى عالم جديد وإنسان جديد يتحرر من الحرب والموت والبؤس والاستغلال.
لتكن كلمة الشاعر إذن كثيفة، مركبة، مشحونة بالقوة والحركة والغضب، وليركب الكلمة الواحدة من كلمات عديدة (واللغة الألمانية تعينه على هذا، فهي - كما يعلم القارئ - تستخدم الكلمات المركبة، وكتابها المعقدون - وما أكثرهم! - يسيئون استخدام هذا الحق ...) وليحذف من جملته كل كلمة، بل كل حرف لا أهمية له ولا أثر في التعبير، وليكثر من الأسماء والأفعال كما قدمت، وليستبعد النعوت والصفات التي طالما كانت حبيبة إلى قلوب الرمزيين، بل ليمض الشاعر إلى أبعد من هذا - كما فعل الشاعر أوجست شترام (1874-1915) - فيكتب القصيدة التي تتألف من كلمات مفردة وحسب. كلمات مكثفة مشحونة بالمعاني، توحي للقارئ بمجموعة من الصور التي يمكن أن يؤلفها خياله كما يشاء، قد يكون هذا تطرفا، ولكن لنقف معا عند إحدى قصائد هذا الشاعر. عنوان القصيدة هو «داورية»، وكلماتها تقول:
الأحجار تعادي،
অজানা পৃষ্ঠা