তাচবিরিয়া
التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح
জনগুলি
تمهيد
البداية
الشعر
القصة
المسرح
النهاية
المصادر
تمهيد
البداية
الشعر
অজানা পৃষ্ঠা
القصة
المسرح
النهاية
المصادر
التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح
التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح
تأليف
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
في كل يوم نقول لأنفسنا أو يقول بعضنا لبعضنا الآخر، «نعبر» عن أفكارنا أو مشاعرنا، وقد يفوتنا أن كلمتي: «التعبير» و«التعبيرية» تدلان على حركة أدبية بدأت في ألمانيا في أوائل هذا القرن، وامتدت ما يقرب من عشرين سنة، ثم اختفت في بلدها الأصلي فجأة، ولاذ أصحابها بالصمت، أو تشتتوا في المهجر، أو سقطوا في الحرب العالمية الأولى، أو انسحقوا تحت أقدام الطغيان النازي.
অজানা পৃষ্ঠা
نشأت هذه الحركة أول ما نشأت في مجال الرسم، وكانت رد فعل للمدرسة التأثيرية، وإيذانا بالتحول عن أسلوبها في الرسم والأدب إلى التعبير عن شعور عميق أو إحساس شامل يكشف عن حقيقة الإنسان بأكمله. وتكونت جماعتان من الفنانين: إحداهما في مدينة درسدن، وقد سمت نفسها جماعة «الجسر»، واشتهر من أعلامها: إميل نولده وهيكل وبششتين. والأخرى في مدينة «ميونيخ» وسميت «بالفارس الأزرق»، وعرف من أعلامها: كاندنسكي وباول كليه وفرانز مارك، الذين لا شك أنك رأيت بعض رسومهم على أغلفة المجلات أو في معارض الفن. ثم التقط النقاد الكلمة وأطلقوها على حركة أدبية قامت بها طائفة من الشباب القلق الثائر في برلين وميونيخ وبراغ، عبروا في الشعر والمسرح والقصة عن فزعهم من رعب الحرب، وإشفاقهم من زحف «التكتيك» والعلم الوضعي، ووحدتهم في زحام المدن الكبرى، وشوقهم إلى عالم إنساني جديد يتوفر فيه العدل والكرامة والمحبة والأخوة بين البشر.
بدأت الحركة التعبيرية في الفن والأدب كما قلت في أوائل هذا القرن، ولكنها لم تنته بموت أصحابها أو عزلة من لا يزال منهم على قيد الحياة. إن أصداءها ما زالت تتردد في كثير مما نقرؤه اليوم من الشعر الجديد ومسرح الطليعة، أو نسمع عنه من التيارات الثورية في الفن والحياة. ولعل من مفارقات الحياة الأدبية أن الخلف يمهدون للسلف أو يذكرون بهم على الأقل! فقد تذكرك مسرحيات «لوركا» أو «شحاده» بمسرحياتهم ، وقد تذكرك بعض أعمال الوجوديين والعبثيين والاشتراكيين الثوريين بكثير من أعمالهم التي سيأتي الحديث عنها. والواقع أن التعبيرية كانت «حركة» أدبية، ولم تكن مدرسة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. فلا يمكننا أن نقارنها بمدرسة أدبية محددة المعالم والأهداف كالمدرسة الطبيعية أو الرمزية. وليس من المستطاع كذلك أن نصدر عليها حكما واحدا يصدق على كل الأدباء الذين يمثلونها؛ إذ إن هذا ضرب من التبسيط الذي تلجأ إليه تواريخ الأدب مضطرة أو متورطة. صحيح أن هناك جوا عاما يشترك فيه هؤلاء الأدباء، ولكن لا يجب أن ينسينا هذا أن المعول في الأدب يكون دائما على العبقرية الفردية والشخصية الفردية للأديب. ويكفي أن كلمة التعبيرية تطلق في المسرح على أعمال عديدة تشغل فترة زمنية طويلة تمتد من استرندبرج السويدي إلى برشت (أو برخت!) في مرحلته الباكرة، وتضم مسرحيات متفاوتة في قيمتها وأهميتها تسري عليها جميعا صفة التعبيرية، دون أن يدل هذا بالضرورة على أنها تمثل وحدة واحدة متشابهة العناصر والأجزاء.
لقد أصبحت معظم الأعمال التي يتحدث عنها هذا الكتاب جزءا من تاريخ الأدب، وقنعت بركن منزو في رءوس الدارسين ومراجعهم أو على رفوف المكتبات. فإذا سألت هذا السؤال العسير: وماذا يبقى منهم؟ كانت الإجابة عليه أشد عسرا؛ لأنها في الحقيقة تتوقف عليك أنت! فالعمل الأدبي ينطوي دائما على عنصر الفناء والزوال الذي لا تخلو منه كل أعمال البشر. أما ما يبقى منه حيا ليتحدى المكان والزمان والفناء، ويصمد لتغير القيم والمعتقدات والآراء، فهو رهن بنظرة الأجيال المختلفة إليه، ومدى استعدادها للأخذ منه أو مدى قدرته على العطاء، ولا بد من القول بأن كثيرا من المشكلات والقضايا التي شغلت عقول التعبيريين وقلوبهم قد بليت وعفى عليها الزمن، وأن صرخاتهم المرتفعة وشكواهم النبيلة وكلماتهم وصورهم ورموزهم المتفجرة بالغضب والدموع قد تبدو اليوم - في عصرنا المتعقل الجاف - نوعا من السذاجة المضحكة أو المبكية. ولكن جوهر هذه الأعمال الأدبية أو معظمها سيظل باقيا لا يشيخ ولا يموت، وهو الدفاع عن «الإنسان» المطلق في وحدته وعريه وبراءته، وشوقه للمحبة والسعادة والسلام، والدعوة المخلصة إلى مجتمع جديد يحقق كرامته وكبرياءه، ويحميه من الذل والذبح والانكسار.
وهذا الكتيب لا يطمع في أن يقدم لك التعبيريين بصورة وافية أو شبه وافية، وإنما يكفيه أن يذكرك بروحهم النبيلة، ويبعث إليك نسمة من صدقهم النادر. إن إنتاجهم الخصب أكبر من أن يحصى، والدراسات التي كتبت عنهم لا تزال ناقصة؛ ولذلك فإن أقصى ما تطمح فيه هذه الصفحات هي أن تشير إلى الطريق، أما الطريق نفسه فلا بد أن تسير فيه بنفسك، وتكتشف أشواكه أو زهوره وحدك!
عبد الغفار مكاوي
القاهرة في نوفمبر سنة 1970
البداية
رخاء اقتصادي، تقدم مستمر في العلم والصناعة، زحف التيار الوضعي والمادي، تضخم النزعات القومية والوطنية، غرور الاستعمار ونهبه للثروات والشعوب: تلك هي بعض الظواهر التي اتسمت بها بداية القرن العشرين. غير أن الطليعة الفنية والأدبية تشككت على الفور في هذه القيم، وارتابت في معنى التقدم والتطور المزعوم، وأعلنت احتجاجها على المدنية الزائفة، وصممت أن تكشف القناع عن الطمأنينة الكاذبة التي شعر بها البرجوازي الأوروبي، لا بل انغمس فيها إلى أذنيه، وتجلت واضحة على كرشه الضخم وملبسه الفخم وكلماته الطنانة الجوفاء وشهوته إلى المال والمنفعة والغرور الذي لا يبرره عجز الإنسان وضعفه في هذا الكون.
لم يكن هذا الشك العميق بالشيء الجديد؛ فقد امتدت جذوره في التراث العقلي الأوروبي القديم والحديث. ولسنا بحاجة للرجوع إلى مدارس الشكاك عند اليونان، فيكفي أن نتذكر تمجيد بودلير للقبح والبشاعة واعتبارهما عنصرا من عناصر الجمال الفني، وثورة رامبو على أوربا ومدنيتها في شعره ونثره المتفجر كالبركان المحموم. ويكفي أيضا أن نتذكر الضجة التي أثارها نيتشه عن انهيار الأخلاق وتنبؤه بالعدمية وبدء عصر جديد وإنسانية جديدة تمجد القوة والأرض والحياة والشجاعة، واكتشاف داروين لقوانين التطور وفرويد للوعي الباطن أو اللاشعور. فإذا التفتنا للأدب والفن وجدنا ظواهر أخرى تقابلها وتستجيب لها أو تثور عليها، فهناك صيحات التعبيريين (وسنعود للكلمة بعد قليل!) وبيانات المستقبليين والسرياليين، وبشاعات الدادية وعجائبها الفنية والروحية، وغرائب التكعيبية وتطرفها في تحطيم الواقع الخارجي.
أعلنت كل هذه الظواهر الفنية في بداية القرن العشرين عن احتجاجها على المدنية التي تطرفت في استخدام الآلة إلى حد غير إنساني، ورفعت صوتها بالسخط على مجتمع التجار والنفعيين وآلهة المال وعبيده، والغضب من الظلم الاجتماعي والاضطهاد والبؤس والبطالة والحرب، نعم فقد اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى، وجاءت مآسيها وتجاربها المرة المظلمة تأكيدها لكل ما تنبأ به الضمير الأوروبي وكل ما احتج عليه الفنانون والمثقفون.
অজানা পৃষ্ঠা
ومن الطبيعي أن يكون السخط ملازما للتبشير بشيء جديد، وأن ترتبط الثورة على المدنية والآلية ورجال المال والأعمال وجلادي الشعوب بتأكيد حاد للنزعة الإنسانية المفتقدة. وقد جاء التأكيد الحار من جانب التعبيرية.
التعبيرية إذن ظاهرة ينبغي أن ينظر إليها في إطار أشمل وأعم، وتلتمس جذورها في التراث الروحي والعقلي وأزمة الضمير الأوروبي التي سبقتها بوقت طويل. صحيح أن حديثنا على هذه الصفحات سيقتصر في جملته على التعبيرية الألمانية. وصحيح أن التعبيرية ترتبط في أذهان الدارسين والمثقفين بالروح الألمانية والفكر الألماني، وتمثل جواب الألمان على سؤال أوروبي. ولكن الألمان لم يبتكروها من العدم، كما أنها ليست ظاهرة ألمانية خالصة كما يظن كثير من الباحثين، وإنما هي ثمرة مرة تفتحت على أغصان شجرة الثقافة الغربية العريقة، وقمة حركة عقلية وروحية بلغت ذروتها في العشرينيات، ولا زالت تطبع الفن الأوروبي الحديث بطابعها إلى اليوم. لقد جربت معظم الأشكال والأساليب الفنية والأدبية التي لا تزال حية بيننا: الموسيقى غير النغمية أو ذات الاثنتي عشرة نغمة، الرسم التكعيبي والتجريدي، العمارة الوظيفية، الرقص التعبيري، المونولوج الداخلي، الشعر الجديد بكل ما فيه من غرابة ونشاز وغموض وإلغاز، ولكن هذه الاتجاهات لا تعدو أن تكون أمثلة سريعة تدل على الثورة الهائلة التي تميزت بها تلك المرحلة القصيرة الخصبة من حياة العقل الأوروبي في أوائل القرن العشرين. أقول: القصيرة؛ لأن النهاية جاءت سريعة مفاجئة، بل جاءت أسرع مما تسمح به قوانين الميلاد والحياة والموت! فسرعان ما ذبلت الحركة التعبيرية التي بدأت حوالي سنة 1910 واختنق صوتها حوالي سنة 1925؛ خنقته الأزمة الاقتصادية العالمية، وزحف ذئاب الفاشية وقطعانها الهمجية واندلاع نيران الحرب العالمية الثانية، وكانت النتيجة أن دفنت التعبيرية حية وانطفأت شعلتها التي لم تكد تتوهج. ومع ذلك فقد كان من نتائج هذه الأزمات - ومن العجيب أن مسوخ الشر والقبح تلد في بعض الأحيان مخلوقات رائعة الجمال! - أن الفن قد أصبح بعد الحرب الثانية شيئا عالميا، وأن النزعات والتيارات القومية والمحلية في الأدب الأوروبي قد انتهت إلى الأبد؛ أعني أنها أصبحت شيئا يتجه للإنسان في كل مكان ويهم الناس في كل ركن من أركان أرضنا الصغيرة البائسة ... •••
لا بد أن نتوقف الآن لنسأل: ما هي التعبيرية؟
هي اسم أو اصطلاح يطلق على حركة فنية واسعة لا تقتصر على الأدب وحده، بل تشمل الموسيقى والرسم والرقص والمسرح؛ أي إنه ينطبق على مجموعة من الاتجاهات والتيارات المختلفة التي يضمها بشكل عام غير محدد. ونخطئ لو تصورنا أنه يدل على مدرسة فنية أو أدبية بعينها؛ لأنه في الواقع يدل على جو عام مشترك. ونخطئ أيضا لو حاولنا تغييره أو تعديله، فهو اصطلاح يرجع عمره إلى أكثر من نصف قرن، ومن العبث أن نحاول الإفلات منه. ليس الفنانون أو الأدباء هم الذين وضعوه، بل وضعه نقاد الفنون التشكيلية لتمييز الرسم الجديد عن الرسم التأثري الشائع في ذلك الحين. وتلقف الأدباء والدارسون هذا المصطلح الجديد، ووجدوا أنه يعكس نزعتهم الجديدة؛ نزعة التعبير أو قيم التعبير التي وضعوها في مركز فهمهم الجديد للفن.
ثم سرى على الاصطلاح الجديد ما يسري عادة على كل مصطلح عصري عندما يقع بين أيدي الشعراء الكبار فيتجاوزون حدوده الضيقة وتصنيفاته المحدودة. ويكفي أن نتذكر أسماء فنانين وشعراء وكتاب كبار مثل كاندبنسكي في الرسم، وشونبرج في الموسيقى، وجورج تراكل في الشعر، وكافكا في القصة والرواية. إنهم جميعا يصدرون عن نفس المنبع التعبيري، ولكنهم في نفس الوقت يتخطون حدوده. تلك هي طبيعة كل فنان عظيم، وذلك هو قدره ورسالته. فبينما الناس ينتظرون منه أن يشارك في الاتجاه الجديد بنصيب أكبر من غيره، إذا بهم يكتشفون أنه أول من أفلت من حدوده وتجاوزها؛ أي سبق عصره بمعنى من المعاني. أما المصطلحات المدرسية والأسماء والقوالب الجاهزة فهي دائما من شأن الأوساط من الفنانين والأدباء؛ ولذلك نجد أن التعبيريين الخلص ليسوا دائما أفضل التعبيريين؛ لأن البرامج والبيانات والصيحات لا يمكن أن تحل محل العبقرية أو تغني عنها. ولكن ها نحن أولاء نبتعد عن موضوعنا ... فلنترك هذه الخواطر جانبا ولنعد قليلا إلى التاريخ.
لننظر الآن في حالة الأدب الألماني: في بداية هذا القرن كان هناك تياران أو إن شئت مدرستان رئيسيتان، وكان هذان التياران أو هاتان المدرستان متلازمتين ومتعارضتين في آن واحد. فهناك الطبيعية التي تحاول من ناحيتها أن تنسخ الواقع بدقة توشك أن تكون فوتوغرافية، وتتأثر في القصة والرواية بالكاتب الفرنسي إميل زولا أشد التأثر، وتتطرف واقعيتها وإيمانها بالعلم، وتزعم أنها تصور الإنسان كما تحدده قوانين الوراثة والبيئة والظروف الاجتماعية والتاريخية. فالكاتبان: أرنو هولز (1863-1929) ويوهانيس شلاف (1862-1941) يضعان الأسس النظرية والنقدية لهذه المدرسة الطبيعية، وإن كانت القطيعة قد فرقت بينهما فيما بعد. والكاتب المسرحي العظيم جرهارت هاويتمان (1862-1946) يناقش المشكلات الاجتماعية في مسرحياته الشهيرة (كالنساجين مثلا)، وكانت هناك الرمزية أو التأثرية أو الكلاسيكية الجديدة على الجانب الآخر؛ اتجاه يحافظ على التراث ويرتبط به. ولكنه اتجاه أرستقراطي متعال، رقيق وحساس، ينزع للغموض والأسرار التي تبلغ به في بعض الأحيان إلى معارج الروحانية والتصوف. ويكفي أن نذكر أسماء: ستيفان جئورجه ورلكه وهوفمنستال؛ لنعرف قيمته الشعرية والشعورية الرفيعة.
ولكن لم يلبث أن نشأ جيل جديد؛ جيل غاضب وساخط ومحتج، سئم جمود الطبيعيين وضيق أفقهم وعداءهم للخيال والشاعرية والذاتية، كما كره حساسية الرمزيين وحدتهم مع اللغة والفن المحض وتعاليهم عن مشكلات السياسة والواقع. وأعلنوها ثورة لم تقف عند حدود الأدب والفن، بل أصبحت ثورة سياسية واجتماعية. لم يكون شباب هذا الجيل مدرسة ولم يحاولوا أن يخلقوا مذهبا، بل كانوا مجموعة من الطلاب والنقاد والفنانين ألف بينهم السخط المشترك على المجتمع المنافق، والكره المشترك للحياة الآلية والعملية وقيمها النفعية الحقيرة. أرادوا أن يكشفوا عن فساد الأخلاق البرجوازية وعفن السلوك البرجوازي، ويرفعوا النقاب عن فظائعه ويقفوا بجانب ضحاياه. وكان ملهمهم الأكبر هو «نيتشه» الذي زلزل العصر وهز القرن العشرين بأسره، وسلط على المجتمع والدين والأخلاق والفلسفة التقليدية والمذهبية نيران حكمته الباهرة الطيبة الجسورة. أخذ هؤلاء الشباب بنقده للدين، واحتقاره للنزعات القومية، وتحطيمه للقيم القديمة، وحملته على الأخلاق «غير الأخلاقية»، وهجومه على الفلسفات الغبية التي فقدت الحياة والقوة وشجاعة المغامرة، كما أخذوا منه تشاؤمه العام من الحضارة والثقافة (الذي توسع فيه إشبنجلر بعد ذلك في كتابه المعروف عن أفول الغرب (1918))، وجدوا أفكارهم عند نيتشه، ولكنهم لم يتطرفوا تطرفه؛ أعجبوا بفكرته عن وجوب تجاوز الإنسان ولكنهم لم يذهبوا إلى حد النداء بالإنسان الأعلى (هذا الذي ظلمه وحوش الحكم المطلق وجنوا عليه!) ومع ذلك فقد شغفوا بالحديث عن الإنسان الجديد، وأرادوا أن يصبح الإنسان الحر الخير الذي يعيش من أجل المجتمع ويتضامن مع آلامه ويحس بعذابه وأشواقه، وليس ببعيد أن يكونوا قد تصوروا أنفسهم في صورة الأنبياء المبشرين بهذا الإنسان ...
كانت التعبيرية إذن حركة فنية ثائرة، تجمعت تحت لواء الإيمان بإنسانية جديدة، أرادت أن تمحو كل أشكال الواقع التي أثبتت الحرب فسادها، وتقضي قضاء تاما على كل قيم التراث والحياة البرجوازية والسياسية والفنية التي أدت إلى الحرب، أو على الأقل لم تحل دون وقوعها أو لم تقف في وجهها. كان هناك سخط هائل على كارثة الحرب العالمية الأولى. وكانت التعبيرية هي «التعبير» الفني عن هذا السخط، أراد الفنان - هذا المخلوق الخالق! - أن يشكل العالم من جديد: بالرؤية والحماس المتوهج للقيم المطلقة، بالإبداع الحر، بالروح الطليق، والكلمة الحية المتمردة على الواقع والمدنية والتقدم وكل القيم التي فضحت الحرب كذبها وخداعها.
كتب الناقد هرمان بار - الذي عاصر التعبيرية ودعا إليها - يقول عن تلك الفترة: لم يوجد عصر من قبل هزه هذا الرعب وهذا الفزع المميت. لم يعرف العالم مثل هذا الصمت الذي يشبه صمت القبور. لم يكن الإنسان في يوم من الأيام صغيرا كما كان في تلك الفترة، ولا شعر بمثل ذلك القلق الذي شعر به. أبدا لم يكن السلام أبعد مما كان في تلك الأيام، ولا كانت الحرية أكثر موتا. ها هي ذي المحنة تصرخ: الإنسان يصرخ بحثا عن نفسه؛ العصر كله أصبح صرخة واحدة تنطق بالمحنة. إن الفن كذلك يصرخ معه، يطلق صيحته في أعماق الظلام، يستغيث، يستنجد بالروح: هذه هي التعبيرية.
وصدر عن الحركة التعبيرية عدد كبير من البيانات والبرامج النظرية والنقدية التي تحاول أن تحدد معالم هذا الإنسان الجديد وتوضح ملامح المجتمع الذي ينبغي أن يحل محل المجتمع الفاسد الظالم المنهار. وتكونت الجماعات في مختلف المدن وتفككت، وظهرت المجلات والمجموعات الشعرية والنثرية التي تصور الجوانب المختلفة من الثورة التعبيرية. وتعددت الأفكار والآراء ووجهات النظر. كان هناك المتطرفون والمعتدلون، كما كان هناك الإيجابيون والسلبيون. فلم تكن التعبيرية - كما قلت - مدرسة محددة، ولم يلتئم أقطابها في مذهب موحد، بل كانت حركة أو جوا شعوريا وروحيا عاما لا تقيده أفكار أو نظريات ثابتة. ومن المستحيل أن نتعرض في هذا المجال لكل التيارات التي عاشت في هذا الجو العام، أو لكل البرامج ووجهات النظر المختلفة المتعارضة في بعض الأحيان؛ ولذلك فسأقتصر على تقديم بعض العبارات المأخوذة من أحد هذه البرامج الهامة والإشارة إلى الجماعات، وأبرز الأسماء التي تمثل هذه الحركة الخصبة الشهيدة.
অজানা পৃষ্ঠা
تشترك كل البرامج والبيانات النظرية التي صدرت عن التعبيرية في رؤيتها للإنسان الشامل، ورغبتها المخلصة في أن تلمس منه الروح والجسد والنفس والحس في وقت واحد؛ لذلك اعترضوا من البداية على النزعة الشكلية أو الجمالية الخالصة التي تهدف إلى تحقيق الشكل الكامل وحده (كما نجدها عند غلاة الرمزية مثلا)، وحاولوا التغلغل إلى الأعماق الدفينة في الإنسان، بكل ما يختلج فيها من ظلال وأسرار وإحساسات مبهمة. وفضلوا التدفق المحموم على الوضوح الصارم، والنشوة والعنف على التعقل والنظام.
ويكفي أن نستشهد بما يقوله أحد نقاد التعبيرية وأشدهم تحمسا لها، وهو «كورت بنتوس» الذي أصدر أشهر وأهم مجموعة من الشعر التعبيري وهي المجموعة المعروفة باسم «فجر الإنسانية». يقول هذا الناقد ملخصا الملامح البارزة والأهداف الرئيسية: «تحرير الواقع من الأطر التي يظهر من خلالها، تحريرنا نحن من الواقع وتجاوزه، لا بالالتجاء إلى وسائله الخاصة، ولا بالهروب منه، بل بمعانقته بشدة للانتصار عليه والتحكم فيه بقوة العقل النفاذة، بالمرونة والحركة، بالرغبة في الوضوح، بعمق العاطفة وطاقتها المتفجرة ... تلك هي الأهداف العامة التي يريد أن يحققها هذا الشعر الشاب.»
ويكفي أيضا أن نلقي نظرة سريعة على الرسم التعبيري. لقد سار في نفس الخط الذي سار فيه الشعر أو بالأحرى في خط مواز له. فهو قد مر بتجارب عديدة مشابهة للتجارب التي خاضها الشعر التعبيري، وحاول محاولاته المتعثرة التي تتميز مع ذلك بالجرأة والتهور في سبيل تحطيم الشيء أو الموضوع الخارجي وتحويله إلى ظاهرة مجردة والوصول إلى جوهره أو ماهيته.
أما الشعر التعبيري فقد حاول أن يتجاوز حدود الواقع بالإيقاع السريع المندفع، والصور القوية المجنحة، والانفعال المنغم، والرؤى الغربية، والعاطفة المتفجرة، والصيحات الحادة، التي تكشف كلها عن جوهر الإنسان وحقيقته التي طالما حجبتها المدنية الآلية خلف قناع كثيف من التصنع والكذب والنفاق والفساد والغرور العلمي.
كانت للتعبيرية إذن - وللشعر التعبيري بوجه خاص - رسالتها الكبرى. وكان الشعراء مؤمنين بأنهم لن يستطيعوا تحقيق هذه الرسالة حتى يحطموا القديم. ومن ثم انطلقت صيحاتهم العالية تهاجم الإنسان التقليدي وتبشر بالإنسان الجديد: الإنسان الذي تحرر من نظام حضاري وثقافي جنى عليه وأحاله إلى وحش معتد غبي كاذب.
أخذت معاول التعبيريين تهدم القديم وتنقب فيه عن الفجر الجديد. والحق أنهم نجحوا في الهدم إلى حد بعيد! بل لعل نجاحهم في الهدم كان أكبر من رغبتهم أو من تصورهم للبناء. ومع أنهم قالوا عن أنفسهم: إنهم ثائرون، فلن تكن ثورتهم بالثورة الشاملة. لقد التمسوا روادهم في أشخاص: دوستويفسكي ووالت ويتمان، وفي شعر الباروك، وحركة العصف والاندفاع الألمانية (أو الشتورم والدرانج التي كانت تغلب الاندفاع والجموح على النظام والشكل)، والأساطير والخرافات وحكايات الجن ونصوص التصوف القديم ورؤاه.
ويكفي أن نتصفح «الفارس الأزرق» - وهو الكتاب المشهور الذي نشره الفنانان المعروفان كاندنسكي وفرانز مارك - لنجد فيه بجانب رسوم الفن الحديث لوحات من «الجريكو» وصور تماثيل من الفن القوطي والبيزنطي والفرعوني والأشوري والياباني ونماذج من النحت الإفريقي ... فقد كانت نظرتهما إلى التعبيرية نظرة واسعة الأفق، والتمسوا التعبير المرئي واليدوي السابق على الحرف المكتوب. ولعل التعبيريين هم الذين اكتشفوا الفن البدائي ورسوم الأطفال اللذين كان لهما أثر كبير على تطور الفن المعاصر.
هكذا ارتبط فن الرسم بالشعر والأدب أوثق ارتباط، ولم يسبق في تاريخ الثقافة الألمانية أن كان لهما مثل هذا التفاعل الحي المتبادل. ويمكن أن نستشهد على هذا بالمجموعات الشعرية أو القصصية التي صورها الرسامون، وكتب الرسم التي علق عليها أو استلهمها الشعراء. فالرسام كيرشنر صور أشعار جورج هايم وأقاصيص ألفرد دبلن. وهناك عدد كبير من الفنانين الذين برعوا في الفن التشكيلي والأدب على السواء. فالرسام أوسكار كوكوشكا والمثال المصور أرنست بارلاخ كتبا المسرحية، والرسام ألفرد كوبين كتب المقالة والقصة والرواية الطويلة. والرسامون: باول كليه وهانز آرب وكورت شفيترز كتبوا القصيدة المتأثرة بأسلوبهم التجريدي أو الدادي. والشاعرة القصاصة إلزا-لاسكر شولر والمثال بارلاخ صورا أعمالهما الشعرية أو المسرحية بنفسهما. وهم بهذا قد أكدوا أحد الملامح البارزة في تاريخ الفكر الحديث، ألا وهو التعاون والتجاوب الحميم بين الفنون المختلفة من أدب ورسم وموسيقى. ولقد كانت أهم نتيجة تمخضت عن هذا التعاون بين الفنانين هي تأسيس عدد كبير من المجلات التي توالى صدورها منذ سنة 1910، واستمرت وقتا طويلا وصل في بعض الأحوال إلى خمسة عشر عاما. ونذكر منها مجلة العاصفة التي وردت فيها كلمة التعبيرية لأول مرة، للدلالة على الرسم الجديد، وقد أصدرها الكاتب والموسيقي والناقد الفني هيرفارت فالدن ابتداء من سنة 1910، ومجلة «الفعل» التي ظهرت سنة 1911 تحت إشراف ف. بفمبفرت، و«الثورة» في ميونيخ، و«الصحف البيضاء» في زيوريخ، و«الشعلة» في فيينا. وأيا ما كانت أسماء هذه المجلات، فالذي يهمنا في هذا المجال أنها كانت أشبه بالمعارض الفنية المنشورة، وأن كبار الفنانين التعبيريين كانوا يزينونها بصورهم ولوحاتهم الأصلية. بل إن «فالدن» الذي سبقت الإشارة إليه قد بالغ في هذا فألحق بمجلته قاعة فنية ودارا للنشر ومسرحا للتمثيل! وعرض في قاعته أعمالا من الفن التجريدي لكليه وكاندينسكي وغيرهما، ودافع بحرارة عن الأسلوب التجريدي في الحركة التعبيرية. ولم تخل مجلة «الفعل» أيضا من مظاهر الكفاح السياسي والاجتماعي، فقد أيدت الحركة اليسارية الألمانية، ونشرت المقالات والتقارير السياسية، بل نشرت كذلك نص الدستور السوفيتي! وإن دل هذا كله على شيء فإنما يدل على خصوبة الحركة التعبيرية، وتنوع اتجاهاتها واهتماماتها، واحتضانها لمختلف التيارات الثائرة والأصوات الغاضبة. ويطول بنا الحديث لو ذكرنا الحوليات والمجموعات المنتخبة من الأشعار والمسرحيات والقصص التي نشرها التعبيريون، ومن أهمها كتاب بعنوان: «يوم الحساب»، أصدره ك. فولف أكبر الناشرين لأعمال الحركة التعبيرية، وضمنه مجموعة مختارة من كتابات كافكا وجتفريد بن وفرانز فيرفل وغيرهم. ولم يقف الأمر عند الشعر والرسم والنقد الأدبي والنشاط السياسي والاجتماعي، فقد التفت التعبيريون إلى الفيلم وحاولوا لأول مرة في تاريخ تلك الصناعة الناشئة أن يربطوا بينه وبين الشعر.
وقد يسأل القارئ: وماذا عن الفلسفة؟! هذه الصديقة التقليدية للشعر والأدب الألماني؟ لقد انطلقوا حقا من فلسفة نيتشه، واستلهموه وتعلموا منه، ولكن لا بد من القول بأن الفلسفة لم يكن لها مكان في الحركة التعبيرية؛ أعني الفلسفة بمفهومها الاصطلاحي الدقيق، لا الموقف الفلسفي العام الذي لا يخلو منه بالطبع فكر أو فن؛ فالمذهب الفلسفي يتطلب نوعا من الاتزان العقلي، ويحتاج إلى كثير من الهدوء والروية والدأب الذي لم يكن من طبيعة التعبيريين. ومع ذلك فلا أحب أن أحرم القارئ من جواب قريب من سؤاله وإن لم يكن فيه شيء كثير يرضيه. فقد تحسن الإشارة إلى كتابين تشبعا بالجو التعبيري وتأثر أسلوبهما به، وهما: كتاب «نظرية الرواية» للناقد الاشتراكي المجري الشهير جورج لوكاتش، «وفكرة اليوتوبيا» للفيلسوف الاشتراكي إرنست بلوخ، والكتابان شاهدا صدق على هذا العصر الفائر المحموم، ولكنهما بعيدان عن أي محاولة لتنظيره أو دراسته دراسة مذهبية ومنهجية.
الشعر
অজানা পৃষ্ঠা
ولكن لنعد الآن إلى موضوعنا الأساسي ... لنعد إلى الأدب! الحقيقة الأولى التي تواجهنا في الأدب التعبيري هي أن الشعر يؤلف الجانب الأكبر من إنتاج أصحابه ، فهو يضم عددا كبيرا من القصائد وعددا أقل من المسرحيات، وأقل القليل من النثر القصصي والروائي والنقدي. الشعر إذن وقبل كل شيء! هنا تبلغ التعبيرية ذروتها ويعبر شعراؤها بنجاح لا شك فيه عن خلجاتهم وهواجسهم وأحلامهم وأشواقهم إلى فجر الإنسانية الجديدة ...
لنضرب مثلا لهذا؛ لنتأمل قصيدة تجسد هذا الكلام، ولنفتح معا هذه المجموعة المنتخبة التي أشرت إليها وهي التي أصدرها كورت بينتوس في سنة 1920؛ أي في وقت مالت فيه شمس التعبيرية (أو قمرها!) للأفول. إن أول ما يلفتنا هو عنوانها الذي يدل على الحركة كلها وهو فجر الإنسانية، فإذا تصفحناها وجدنا الناشر يقسمها إلى أربعة أقسام، أو بالأحرى يجعل منها سيمفونية ذات أربع حركات: «سقوط وصراخ، بعث القلب، نداء وثورة، حب الإنسان». لقد رتبها إذن بحسب الموضوعات لا بحسب الشعراء، وضمنها كل ما يعتز به التعبيريون ويعكس رؤيتهم وأحلامهم: الصراخ والثورة والإلهام والحب للإنسان، ولكن ما هو أسلوب هذه الثورة الأدبية؟ بم يتميز؟ ما الجديد فيه؟
لننظر في شعر التعبيريين، ولنفتح فجر الإنسانية مرة أخرى. لن نتعب في البحث كثيرا، فيكفي أن نتأمل الصفحة الأولى من الكتاب، هذه هي قصيدة الافتتاح، قصيدة صغيرة سأترجمها لك (على الرغم من أن ترجمة الشعر مستحيلة؛ إذ كيف تستطيع الترجمة أن تنقل الصوت والإيقاع والظلال الدقيقة والإيحاء المنبعث من الكلمات؟! وماذا يبقى من القصيدة الأصلية التي تعتمد على قيم صوتية في ألفاظ بعينها عندما تتحول إلى ألفاظ أخرى في لغة أخرى؟! لنغتفر لأنفسنا إذن هذه الجناية التي تشترك فيها كل اللغات والثقافات والحضارات على مر العصور، ولنعتبر الترجمة جسرا متواضعا أقصى مناه أن ينقلك إلى شاطئ النص الأصلي أو يغريك بالوصول إليه، فإذا بلغت الشاطئ واستغنيت بالأصل عن الصورة فانس ذلك الجسر البائس المسكين!)
لننظر إذن في ترجمة القصيدة؛ على ما في الترجمة من عجز وقصور محتوم. عنوان القصيدة هو «نهاية العالم»، وصاحبها هو ياكوب فان هوديس، واحد من أولئك الشعراء العديدين الذين كتبوا الشعر في شبابهم ثم انقطعوا عنه بعد ذلك كل الانقطاع (كأنما كانوا يقتدون بالمثال الرائع الشجاع الذي ضربه رامبو!)
قبعة البرجوازي تطير من على رأسه المدببة،
في كل الأجواء تتردد الأصوات كالصرخات،
عمال السقف يسقطون وينكسرون،
وعلى الضفاف - كما تقول الصحف - يرتفع الطوفان.
هبت العاصفة، البحار الوحشية،
تثب على اليابسة لتسحق السدود الضخمة،
অজানা পৃষ্ঠা
أغلب الناس أصابهم البرد،
قطارات السكك الحديدية تهوي من الجسور.
تلك هي القصيدة، ولكن لنتوقف قليلا لنقول كلمة عن الشاعر. ومع أنني لا أحب الكلام عن حياة الأدباء ولا أميل للربط بين حياتهم وأعمالهم، فيبدو لي أن سطورا قليلة عن هذا الشاعر الغريب وشخصيته الغامضة المحيرة لن تخلو من فائدة. إنه شاعر مقل كما قلت، كتب الشعر في شبابه ثم كف عنه إلى الأبد.
وقد ولد ببرلين سنة 1887، في أسرة ميسورة الحال، وقضى صباه السعيد بين أب متشكك مادي النزعة يعمل طبيبا، وأم مثالية رقيقة الحس رفيعة الثقافة. وسرعان ما بدأت التناقضات التي ورثها عن أبويه تظهر في سلوكه؛ فقد ترك المدرسة الثانوية ثم رجع إليها، ودرس العمارة في مدينة ميونيخ، ثم اشتغل فترة لم تزد على نصف عام بالبناء، ولم يلبث أن تخلى عن هذه المهنة الصغيرة ليواصل دراسة الفلسفة واللغة اليونانية القديمة في جامعتي: يينا وبرلين. وأسس مع جماعة من أصدقائه الشبان ناديا يلتقون فيه مرة كل أسبوع ليقرءوا إنتاجهم. وكان من هذه الجماعة شاعر فقدته الحياة الأدبية قبل الأوان وما زالت تتحسر على موته؛ وهو الشاعر جورج هايم الذي مات غريقا سنة 1912، ولم يكد يتم الخامسة والعشرين من عمره. وقد اهتز شاعرنا لموت صديقه، ثم تكفل الإخفاق في الحب بتدمير صحته العقلية (أحب إحدى مصممات العرائس فلم تبادله الحب، وجن بشاعرة فلم يجد صدى لعاطفته)، ولم ينفعه تحوله إلى الكاثوليكية ولا شفاه تنقله بين مصحات عديدة؛ فقد ألح عليه داء شغوف بالفنانين والشعراء، وهو داء الفصام. وامتدت إليه أيدي الأصدقاء بغير جدوى، واختفى فترة ثم ظهر في باريس وميونيخ، ورجع إلى برلين ليجاهر أمه التي كان يحبها ويقدسها بالكراهية والعداء، ويفاجئ أصحابه بقراءة قصائده الجديدة. وأخذ المرض بخناقه فظل يتنقل بين المصحات العقلية المختلفة حتى استقر في مصحة بندورف-ساين بالقرب من مدينة كوبلنس في جنوب ألمانيا. وفي آخر أيام شهر أبريل سنة 1942 نقل المريض رقم 8 إلى مكان لا يعلمه أحد، واختفى بطريقة لم يعلمها أحد حتى الآن. وقد ضاعت معظم أشعاره وكتاباته النثرية، ونشر ما بقي منها سنة 1958 في زيوريخ تحت عنوان القصيدة التي نقلتها إليك في السطور السابقة، ولم يتجاوز هذا التراث ست عشرة قصيدة.
أما القصيدة نفسها فأول ما تلاحظه النظرة الأولى أنها ليست من القصائد ذات البناء التقليدي التي تتناول موضوعا أو تهدف لتصوير فكرة تمهد لها وتطورها وتنتهي بها إلى غاية أو خاتمة. وهي كذلك لا تنمي فكرة ولا تسير على منطق مألوف، بل تجنح إلى نوع من الشذوذ الذي يثير السخرية، وتزدحم بخواطر وتفاصيل يمكن أن نصفها بالسريالية (وهي سريالية لأنها تشوه معالم الواقع أو تتجاوز حدوده، وليس الواقع هو الذي يمليها بل إرادة الشاعر نفسه وخياله المسرف الجامح). هي إذن تضم مجموعة من الصور التي لا تتصل بعضها ببعض. كل بيت فيها وحدة بذاتها، بحيث تصبح وكأنها نوع من «الموازييك» ألف بينها خيال الشاعر وحده، لا المنطق ولا الواقع المألوف، القصيدة إذن توحي ولا تفهم، شأنها في هذا شأن الغالبية العظمى من قصائد الشعر الحديث، وهي بصورها المفككة تريد أن توحي برؤية الشاعر لنهاية العالم؛ ولذلك فليس غريبا أن يتغير العالم المطمئن المنظم وينهار فجأة أمام عيوننا: فالبرجوازي المطمئن الواثق بنفسه وبعالمه ومجتمعه سيفقد قبعته، وهي رمز ثقته واطمئنانه وثباته. وستصبح القبعة التافهة رمزا لهذا العالم أو هذا المجتمع المنهار، أما رأس البرجوازي فهي مدببة، تماما كما صورها الرسامون التعبيريون مثل كيرشنر وموللر وشميت-روتلوف، فأسرفوا في ذلك مبالغة في الاستهزاء به.
وأما عن جو القصيدة - وهو أهم ما في شعر التعبيريين - فهو يصطخب بضوضاء وأصوات وصرخات غامضة. إن اللاواقع قد غزا الواقع وتمكن منه. نفس الشيء الذي نلاحظه في رسوم كوبين ورؤى كافكا المخيفة عن الرعب والتعذيب (كما تبدو بوجه خاص في قصته معتقل العقاب التي تكاد تكون نبوءة صادقة عن أهوال الحرب العالمية الثانية وتعذيب الإنسان في معسكرات الاعتقال أو سجون الإرهاب على يد المستعمرين والجلادين القدامى والمحدثين)، ضوضاء، عواصف، دمار، وخراب، كوارث من كل نوع، كل شيء قد انقلب على رأسه، كل شيء قد تحطم وتمزق، والطبيعة والمدنية المتباهية بآلاتها وصناعاتها قد فقدت الطمأنينة، ودقت ساعة الكارثة، فلنتوقع كل شيء.
إن التفاصيل التي يزحم بها الشاعر قصيدته، وطريقته في عرضها، ومزجه بين عظائم الأمور وتوافهها، وانتقاله من كارثة تدمر الكون إلى أحداث تافهة كسقوط عمال بناء السقوف وإصابة أغلب الناس بالزكام ... كل هذا يوحي بالكارثة ويخلق شعورا غريبا تختلط فيه السخرية المرة بالمزاج الأسود. ولكن هذا الأسلوب ليس إلا جانبا واحدا من جوانب التعبيرية المتعددة قد نجده - على سبيل المثال - في الأفلام التعبيرية، فإذا تأملنا شكل القصيدة وأسلوبها وجدنا أنها ليست من القصائد التعبيرية الخالصة؛ فهي تحافظ على الوزن والقافية وشكل المقطوعة (وهو ما تعجز الترجمة عن أدائه!) كما تحافظ على سلامة اللغة وبنية العبارة، وهي أمور تخلى عنها معظم الشعراء التعبيريين واعتبروها قيودا تحد من انطلاق التعبير، ومع أن الشاعر يشارك معظم الفنانين التعبيريين في رؤيته لنهاية العالم وانهياره، وإبقائه على وحدة الأبيات وانعزالها عن بعضها البعض، إلا أن لغته لا تكشف عن أهم الخصائص التي تتميز بها لغتهم؛ فهي - كما قلت - لغة سليمة والتعبيريون يميلون إلى تشويه اللغة، والاكتفاء بالإيحاء والإيماء والتركيز على الكلمات الدالة باستبعاد الضمائر وحروف الربط والوصل وأدوات التعريف والاقتصار في معظم الأحوال على الأسماء والأفعال وحدها.
ومع هذا كله فالقصيدة تحتفظ بجانب تعبيري لا شك فيه. إن لم يتضح في لغتها وأسلوبها فهو أوضح ما يكون في رؤيتها العامة. وأذكرك بالعنوان الذي وضعه الناشر لهذه القصيدة وغيرها من القصائد التي تدور في فلكها. العنوان هو «سقوط وصراخ»، وهو في الحقيقة بالغ الدلالة على غرض التعبيريين. إن الصرخة هي أبلغ تعبير وأعمقه، وهي - إن جاز القول - تعبير خالص عار ، وكأن الشاعر التعبيري يتمنى أن تكون قصيدته صرخة وحسب. ولكن ما العمل إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يكتب قصيدة من الصرخات وحدها؟ ما العمل إذا كان مضطرا أن يبني أبياته من كلمات اللغة، وأن يحافظ فيها على قدر من المعقولية يكفي لتوصيلها للناس؟ ليكثف لغته إذن (فالفن تكثيف وكشف عن الجوهر!) وليحذف منها كل ما يراه تزيدا، وليقتصر على الكلمة الموحية المتشنجة التي تستطيع أن تفجر كل ما يحتبس في قلبه من عنف وغضب وثورة. ولكن الصرخة ستظل في نهاية الأمر هي الشكل الأمثل الذي يحاول الشاعر التعبيري أن يقترب منه. صرخة الإنسان في عالم منهار، صرخة يوحنا الجديد، صرخة الشوق إلى عالم جديد وإنسان جديد يتحرر من الحرب والموت والبؤس والاستغلال.
لتكن كلمة الشاعر إذن كثيفة، مركبة، مشحونة بالقوة والحركة والغضب، وليركب الكلمة الواحدة من كلمات عديدة (واللغة الألمانية تعينه على هذا، فهي - كما يعلم القارئ - تستخدم الكلمات المركبة، وكتابها المعقدون - وما أكثرهم! - يسيئون استخدام هذا الحق ...) وليحذف من جملته كل كلمة، بل كل حرف لا أهمية له ولا أثر في التعبير، وليكثر من الأسماء والأفعال كما قدمت، وليستبعد النعوت والصفات التي طالما كانت حبيبة إلى قلوب الرمزيين، بل ليمض الشاعر إلى أبعد من هذا - كما فعل الشاعر أوجست شترام (1874-1915) - فيكتب القصيدة التي تتألف من كلمات مفردة وحسب. كلمات مكثفة مشحونة بالمعاني، توحي للقارئ بمجموعة من الصور التي يمكن أن يؤلفها خياله كما يشاء، قد يكون هذا تطرفا، ولكن لنقف معا عند إحدى قصائد هذا الشاعر. عنوان القصيدة هو «داورية»، وكلماتها تقول:
الأحجار تعادي،
অজানা পৃষ্ঠা
نافذة تتلمظ بالخيانة،
فروع «الشجر» تخنق،
جبال الأغصان تحف بضوضاء،
صرخات،
موت.
هذه هي القصيدة، أو هذا هو «الموازييك» الذي صفه الشاعر قطعة بجانب قطعة أو كلمة بجانب كلمة. استبعد من العبارة اللغوية كل ما وجده سطحيا أو تافها. حذف أدوات التعريف (فيما عدا الكلمة الأولى من القصيدة) والضمائر وأدوات الربط. لم يبق إلا على الأسماء والأفعال التي جعل منها كلمات مستقلة تؤدي وظيفة الجملة الكاملة. أما بناء العبارة فقد اختصره إلى أقصى حد ممكن بحيث لم تبق منه إلا كلمات أولية متوترة حادة مركزة، توشك أن تتخلى عن دلالتها الصوتية والمعنوية لتتحول إلى صرخات أو مشاعر من الخوف والرعب والقلق. قد تقول: هي تجربة، وللتجربة حقها المقدس في كل مجال، فلم لا تمارس حقها في اللغة أيضا؟! هذا صحيح. ولكنها تجربة تشرف على حدود الصمت. وهي في الأدب التعبيري نفسه تجربة ثورية متطرفة. ولكن يجب ألا ننسى أن الثورة التعبيرية كانت كذلك ثورة على النحو ومنطق اللغة. لقد ثاروا على البناء التقليدي للعبارة، والترتيب المنطقي للكلمات، بمثل ثورتهم على البناء التقليدي للمجتمع، والنظام المألوف في الطبيعة والواقع. كان كل همهم أن يثيروا القارئ بأقل عدد من الكلمات وأكثره دلالة على المعنى؛ والمعنى يتصل دائما بالغضب والتمرد والرغبة في التغيير. تصوروا أن هذا هو أقرب وسيلة للتركيز على كل ما هو هام وأساسي. حولوا الكلمات إلى شظايا متفجرة وصيحات حادة لتكون أقدر على النفاذ إلى أعماق القارئ. إنهم لا يقدمون الوصف بل الحدث، ولا يعنون بالملاحظة بل بالرؤية. كل ما هو ساكن أو جامد دبت فيه القوة والحياة. الحركة والسرعة والطاقة والعنف والفعل والتفجر، تلك هي المقولات الأساسية عندهم، بهذا يصبح الإيقاع هو أول العناصر الفنية ويفقد الشكل الخارجي للقصيدة أهميته. وهم لذلك يحطمون كل القواعد الكلاسيكية التي تفسد هذا الإيقاع أو تعوق حركته، ويتمردون على كل القيود والأشكال التي التزم بها الشعراء السابقون، ويكرهون الوزن والقافية، ويبغضون أشكال «السوناته» و«الأوده». لا ضرورة إذن للالتزام بالبحور التقليدية ولا التركيب اللغوي للجملة ولا الترتيب المنطقي للعبارات؛ فكلها أشكال خارجية، والكلمات المكثفة وحدها قادرة على إحداث الإيقاع المطلوب، وتعميق الإحساس الذي يريد الشاعر أن يعبر عنه، وهي كذلك قادرة على أن تصدم القارئ وتثيره وتفزعه (وهذه الصدمة هي أكثر ما يحرص عليه الشاعر الحديث منذ عهد رامبو!) أتكون هذه مزايا أم عيوبا؟ لكل شيء بالطبع مزاياه وعيوبه، والأمر يتوقف على الطريقة التي تنظر بها إليه . ولكن أهم ما يميز هذا الفن الشعري عند التعبيريين أنه فن قلق مقلق في آن واحد، يصدم القراء ويسعى إلى ذلك سعيا. وهو فن مفعم بالعاطفة والحماس والعنف الذي يصبح في بعض الأحيان نوعا من الحمى والهذيان، وهو يتعمد البعد عن التجانس والنظام والاتزان والتعقل والحرص على النسب، وكل ما يدخل في قائمة القواعد والأصول التي التزمها الكلاسيكيون؛ أي إنه في النهاية فن ذاتي إلى أبعد حد، شوه فيه الواقع وتحررت اللغة من القواعد الموضوعية والتاريخية وحلت محلها لغة شخصية قادرة على التعبير عن الرؤى العنيفة المتطرفة؛ ولذلك فإن الشاعر لا يخشى أن يخلق كلمات جديدة أو يخلع على الكلمات المألوفة معاني غريبة وجديدة (ولو استطاع لخلق لغة جديدة وأحال اللغة المعروفة إلى شواظ ملتهب أو طلقات رصاص أو صرخات حادة!)
فإذا تركنا الشكل وانتقلنا إلى مضمون هذه القصائد (جريا على التقسيم المعروف الذي نلجأ إليه رغبة في التبسيط لا غير!) وجدنا أن أهم ما يميز أشعار التعبيريين - بوجه عام - هو التحول من الضمير الشخصي إلى ضمير الجماعة؛ أي من «الأنا» إلى «النحن». حدث هذا بعد اشتعال نيران الحرب العالمية الأولى، وأصبحت القصائد أكثر صراحة والرسالة التي يعلنها الشاعر أشد وضوحا. لقد آن الأوان لتأكيد الدعوة للإنسان الجديد. وأصبحت هذه الدعوة - بل الصرخة - أشد إلحاحا، أمام رعب الحرب وأهوالها وفظائعها الدموية، وازداد العطف على الإنسانية الجريحة، وتتابعت النداءات والصيحات والبيانات. لم يعد هناك مكان لوصف الطبيعة. إن القصيدة تعبر الآن عند المدينة أو عن الحرب، المدينة المفزعة الهائلة، المدينة الصناعية المفتعلة بكل وحشيتها وضخامتها وضياع الفرد الوحيد في زحامها، بكل ضجيجها وضوضائها الخانقة، بأحيائها البائسة المزرية التي يتراكم فيها الكادحون والعمال الفقراء، ببيوتها الميتة ونوافذها الخاوية الصامتة كالقبور، المدينة المجنونة بالسرعة والصخب كأنها الكابوس.
والحرب، ألم تشغل أهوالها الشعراء منذ أيام هوميروس؟ ألم تحركهم مآسيها وفظائعها للغناء والبكاء؟ نعم، ولكن الحرب العالمية الأولى كانت في نظر هذا الجيل من الشباب شيئا لم يسبق له نظير (ترى هل من حسن الحظ أم من سوئه أن معظم الشعراء والفنانين التعبيريين سقطوا قتلى في الحرب الأولى أو ماتوا قبل أن يشهدوا فظائع الحرب العالمية الثانية أو فظائع المستعمرين في الشرق الأقصى والأوسط؟) الحرب أحالت الطبيعة الحالمة التي غنى بها أسلافهم الرومانتيكيون والكلاسيكيون إلى جحيم أرضي؛ مزقت الأشجار والأجساد، شوهت ودمرت، ملأت الشوارع بالجثث والأشلاء، أغرقتها بدماء الجرحى وأنينهم، بدأت الحرب فبدأت معها نهاية العالم، وعلى الشاعر الذي لم يسقط في الميدان، أن يكون شاهدا على هذه الفظائع التي يقدم عليها الإنسان، أن ينقل اشمئزازه من القبح والوحشية إلى قصيدته، أن يجعل منها لوحة صارخة مثيرة، أن يحول كلماتها إلى صيحات احتجاج مدوية، بهذا يدفع قراءه إلى الثورة والتغيير، ويحفزهم على الإصرار على عالم جديد يحيا فيه الإنسان أخا للإنسان، حتى الإصرار لا يكفي، بل لا بد من العمل على خلق هذا العالم والتعجيل به.
ولقد فعل الشاعر التعبيري كل ما في طاقته لتحقيق هذا الحلم الأبدي المنحوس، وقدم لوحات غنية بآلام الإنسان وعذابه؛ لوحات تصور الخليقة الجريحة المعذبة المشوهة بألوان صارخة تكاد تصل في صراخها إلى حد الهوس والجنون. والحق أنه لا بد من إنصاف هؤلاء الشعراء حتى لا يبدوا كالأطفال السذج المتشنجين العاطفيين. لا بد من القول بأنهم لم يكتفوا باليأس والصراخ والاتهام، بل نادوا على الدوام بالفجر الجديد والإنسان الجديد، ودعوا بنبرة صادقة حارة إلى محبة الجار والأخوة البشرية الشاملة. وقد يعترض ناقد حديث بأنهم دعوا إلى إنسان كلي مطلق؛ أي لم يدعوا إلى شيء محدد. هذا صحيح في جملته، ولكن هذا النوع من النقد الذي استشرى في السنين الأخيرة أقرب إلى السياسة منه إلى الأدب، ومع ذلك فإن معظم هؤلاء الشعراء قد سقط في الحرب أو انتحر أو جن وتشرد في البلاد، وبعضهم شارك بالفعل في الكفاح في صفوف العمال والفقراء والمستغلين وانضم إلى الأحزاب والحركات اليسارية في ذلك الحين، بل صار فيما بعد من أقطاب هذه الحركات السياسية (مثل يوهانس بشر أو برشت وغيرهما). المهم أن تهمة عدم الانتماء إلى مذهب أو حركة أو ثورة «محددة» لا يمكن أن ينفي عن هؤلاء الشعراء شرف الثورة «الشاملة» ضد الظلم والقهر والاستغلال وتعذيب الإنسان. وأحسب أن هذا هو أقصى ما يمكن أن نطلبه من الفنان والأديب. •••
ولنحاول الآن أن نتعرف إلى الأسماء الهامة في الحركة التعبيرية، ونتحدث قليلا عن بعض أعلامهم بقدر ما يسمح به المجال. ومن المستحيل بالطبع أن أقدم للقارئ قائمة كاملة بأسماء هؤلاء الشعراء والكتاب، أو تفسيرا متعمقا لأعمالهم. إن كتب التاريخ الأدبي أقدر مني على هذا. وأقصى ما أطمح إليه في هذه الصفحات القليلة هو أن يخرج القارئ بفكرة عامة عن الجو الذي أشاعته هذه الحركة الأدبية وقيمتها وأثرها. ولعل الوقت لم يحن بعد لتقديم دراسة شاملة لهؤلاء الشعراء الذين ظلم معظمهم في حياتهم وبعد موتهم، واختفت أسماء بعضهم من الحياة الأدبية ولم تبق حتى في تواريخ الأدب، وتبدد تراثهم القليل أو اندثر أو ما يزال يبحث عن أحد يخرجه للنور.
অজানা পৃষ্ঠা
لنكتف إذن بالحديث القصير عن عدد قليل.
لا يشك أحد اليوم في أن أكبر شعراء الحركة التعبيرية هم «جورج تراكل» و«جورج هايم» و«جوتفريد بن» (في مرحلته الأولى بوجه خاص). والثلاثة الكبار يمثلون نماذج إنسانية وفنية مختلفة، كما يعدون قمما أدبية رفيعة في الأدب الألماني الحديث، وأعمالهم تشغل النقاد والدارسين في الوقت الحاضر وتغري المزيد منهم بالكشف عن أسرارها وتفهم عالمها الساحر الفريد. فأما «هايم» و«تراكل» فقد ماتا في شرخ الشباب؛ غرق الأول في الرابعة والعشرين من عمره مع صديق له أثناء التزحلق على الجليد، وقتل الثاني نفسه بالإدمان على المخدرات التي كانت قريبة منه بحكم مهنته (فقد كان صيدليا)، بعد أن عجز عن احتمال أهوال الحرب التي لمسها بنفسه عندما كان مجندا في الخدمات الطبية. وأما «جوتفريد بن» فهو من الشعراء القلائل الذين امتد بهم العمر بعد زوال التعبيرية (مات سنة 1956)، ونحا في شعره بعد سنة 1925 نحوا أقرب إلى الكلاسيكية.
لنبدأ بالكلام عن «جورج هايم».
إنه من أعمق الشعراء التعبيريين رؤية وأشدهم يأسا وكآبة. وهو كذلك من أقلهم دعوة للإنسان الجديد الذي طالما هتفوا باسمه أو انتظروا مقدمه؛ فالموت يحوم بأجنحته السود فوق أشعاره، والموت يلفها في ظلماته الكثيفة. لقد صور هول المدينة الكبيرة، وتنبأ بفظائع حربين عالميتين. ربما اشتط خياله إلى حد الهذيان والهلوسة، ولكن صوره الشعرية قوية مؤثرة، تكاد تلمس اليد والعين بتفاصيلها الحسية وألوانها الحادة وملامحها البارزة. وقد تكون استعاراته في بعض الأحيان مفتعلة وأساطيره ورؤاه بعيدة شديدة المبالغة، ولكن فيها مسحة من الجلال لا تقاوم. وإذا أمكن أن نقارنه بأحد الشعراء، فلا شك في أن حياته العاصفة وسخطه على المدينة والطبقة الوسطى، وقوة شعره ورجولته وعنفه تقربه من شخصية الشاعر الفرنسي العظيم أرتور رامبو، كما تقربه - في مجال فني آخر - من شخصية فان جوخ الذي كان يحبه ويعجب به. وإنتاجه قليل في مجموعه، فهناك إلى جانب أشعاره مذكراته اليومية الغنية بصدق العاطفة ودقة التعبير عن روح جيله اليائس الساخط الملول، وهناك مجموعة قليلة الشأن من الأقاصيص والحكايات التي لا يمكن أن تقارن بأشعاره من حيث القوة والقدرة على التأثير. وقد يكفي أن نقرأ إحدى قصائده المشهورة - وهي «الحرب» - ونحللها تحليلا سريعا بسيطا. تقول القصيدة:
الحرب
1
نهض من رقاده، من طال نومه،
نهض من الأقباء المنخفضة العميقة.
يقف في الشفق، ضخما ومجهولا،
يسحق القمر في اليد السوداء. •••
অজানা পৃষ্ঠা
في ضجيج المدن عند المساء تنتشر الأنباء،
صقيع وظلال عتمة غريبة.
ودوامة الأسواق تتجمد كالجليد.
يهبط السكون ... يتلفتون، ولا أحد يدري. •••
في الحارات يربت على أكتافهم،
سؤال، ما من جواب، يشحب وجه.
من بعيد ترتعش دقات أجراس نحيلة،
واللحى ترتجف حول ذقونهم المدببة. •••
على ذرى الجبال أخذ يرقص ويصيح:
أيها المحاربون جميعا، انهضوا وسيروا!
অজানা পৃষ্ঠা
وعندما يهز رأسه الأسود تدوي،
صلصلة السلاسل حول آلاف الجماجم. •••
كالبرج يطفئ بقدميه اللهب الأخير،
حيثما يهرب النهار، تمتلئ الأنهار بالدماء.
الجثث التي لا تحصى ممددة فوق الأعشاب،
تغطيها طيور الموت القوية بغلالة بيضاء. •••
بالليل يطارد النار عبر الحقول،
الكلب الأحمر الذي يطلق الصراخ من فمه الوحشي.
من الظلام يثب عالم الليالي الأسود،
تضيء البراكين خافتة بضوء مخيف. •••
অজানা পৃষ্ঠা
وألوف القبعات العالية هنا وهناك،
تغمر السهول المظلمة المضطربة،
والحشود التي تفر إلى الشوارع من تحته،
يطوح بها في غابات النار المتأججة باللهب. •••
والنيران الحارقة تلتهم غابة بعد غابة،
الوطاويط الصفراء متشبثة بفروع الأشجار،
يغرز عصاه في الأشجار كالفحام،
لكي تتوهج النار ويشتد الضرام. •••
غاصت مدينة كبيرة في الدخان الأصفر،
ألقت نفسها بهدوء في جوف الهاوية.
অজানা পৃষ্ঠা
لكن فوق الأنقاض المحترقة يقف وقفة العملاق،
ذلك الذي يهز شعلته في السموات الموحشة ثلاث مرات. •••
فوق ظلال السحب التي تمزقها العاصفة،
في مجاهل الظلمة الميتة الباردة،
حتى جفف الليل المترامي الأطراف بالحريق،
وصب القطران والنار على عمورة.
2
القصيدة تتألف كما ترى من عشر مقطوعات، صيغت أبياتها الأصلية من ست تفعيلات تتميز بالبطء والثقل والجلال، ويقترب الإيقاع في معظمها من إيقاع الموسيقى الجنائزية. ومن الصعب أن نخوض هنا في تحليل شكلها الفني أو خصائصها الجمالية؛ لأن المجال لا يحتمل مثل هذا التحليل؛ ولذلك سنقنع بلمحات سريعة نخرج بها من التذوق البسيط، وأول ما نلمحه منها هو هذه اللغة الخشنة العنيفة المباشرة التي تتفق كلماتها وإيقاعها وصورها الخشنة العنيفة أيضا مع الموضوع الوحيد الذي تكثفه وتضخمه وتبالغ في تأكيد قسوته وبشاعته، وهو موضوع الحرب التي شغلت التعبيريين ونالت أكبر نصيب من ثورتهم وصراخهم واحتجاجهم.
وقد تلمح منها أيضا أنها بعيدة كل البعد عن القصيدة الغنائية التقليدية التي نعرفها من الأغنيات الشعبية أو شعر الرومانتيكيين أو قصائد جوته التي تفيض بصدق العاطفة وعمق الإحساس ورقته؛ فهي تتخلى عن العذوبة الغنائية واللغة التي تفرضها التجربة الذاتية، وتزهد في الشكل المتزن والجمال المنسجم الذي يؤلف بين العالم والذات في وحدة التجربة الباطنة. بل إنها لتمثل في الحقيقة مرحلة جديدة في الشعر تختلف كل الاختلاف عن شعر التجربة والعاطفة، وتنبع من عقلية تحررت من العالم الشعوري والإنساني الذي انبثق منه ذلك الشعر، حتى ليمكن القول بأنها تعانده وتقاومه وتثور عليه. إنها لا تبحث عن الجمال والانسجام في الشكل أو اللغة ، بل تقصد مباشرة إلى التعبير القوي العنيف بالكلمات والصور القوية العنيفة.
وهي كلمات وصور متقطعة منعزلة عن بعضها البعض يكومها الشاعر طبقة فوق طبقة، ويشيد منها هرما فظيعا تنطق كل أحجاره بالدمار والموت، أو نشيدا يتغنى بانتصار العدم ويتصاعد نغمه الكئيب شيئا فشيئا من فم شيطان مخيف شرير.
অজানা পৃষ্ঠা
إنها تمزق القناع عن الرعب الكوني ووحدة الذات البائسة في هذا الوجود الذي يتربص للإنسان بالخطر والفناء. لا مجال فيها للتجانس بين الذات والعالم، ولا مكان للعاطفة ولغتها العذبة الحنون، ولا موضع للتفاؤل بالتقدم والمستقبل السعيد. ويكفي أن شيطان الحرب أو إلهها الخرافي المجهول يحرم الناس من النور والعزاء، ويسحق القمر الذي طالما تعلقت به عواطفهم وتغنت به أشعارهم، ويلقي مدنهم الكبيرة - مدن الفرد الوحيد والقطيع الذي لا وجه له - في ظلام الهاوية وبردها ووحشتها!
إن أكوام الصور البشعة التي يكدسها الشاعر في هذه القصيدة تعبر عن شيء واحد هو واقع الخراب والكارثة والموت؛ واقع الحرب الذي تنطق به الكلمات والاستعارات وبناء العبارات وإيقاع الأوزان. ولكنها ليست حربا معينة في تاريخ معين، ولا هي من نوع الحروب التي يكتب عنها الشعراء بدافع الحماس الوطني أو الاحتجاج على قسوتها أو الرغبة في تطهير البشرية منها، أو التي يسجلون فيها تجربتهم الشخصية ويصورون ما رأوه فيها من مآس وأحزان، والشاعر لا يقصر رؤيته للحرب على دائرة التاريخ والبشرية، بل يجعل منها ظاهرة تتجاوز شخصية الإنسان وهمومه ومصيره، ظاهرة كونية إن شئت، تلتهم الوجود والطبيعة بكل ما يتفجر فيها من عناصر الدمار والخراب. هي الحرب في ذاتها، تحررت من كل زمان ومكان، وابتعدت عن كل هدف أو معنى أو شعور. أما الذي يدبرها ويدير دفتها فهو شيطان خرافي مخيف، يرتفع فوق العالم والتاريخ كأنه برج مشتعل بالنيران، وتتدفق الكوارث من فمه الأسود كما تتدفق الحمم من فوهة بركان.
وليس من قبيل الصدفة أن يختار «هايم» المدينة ليجعلها ميدانا لهذه الرؤية أو هذا الكابوس، فالمدينة هي رمز الضخامة والفساد والمادية والسأم والضيق. وكراهة المدينة كالنبات المريض الذي يمد جذوره في أعماقه وأعماق جيله الوحيد البائس من الشعراء والكتاب والفنانين التعبيريين، بل لعله يمتد إلى أبعد من ذلك في الشعر الأوروبي منذ عهد بولدير ورامبو؛ ولذلك تبدو القصيدة كلها أشبه بالرؤية أو النبوءة أو النذير الذي أكدته حربان عالميتان وما زالت تؤكده الأخطار المحدقة بالبشرية. صحيح أن هذه التنبؤات عن أزمة الحضارة الغربية وانهيارها كانت شائعة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، ولا تزال من أحب الموضوعات إلى قلوب الكتاب والقراء في الغرب والشرق. ولقد بلغت ذروة الإحساس بها في كتابات نيتشه ورؤى دستويفسكي وثورة الشعر الفرنسي منذ عهد بودلير ... إلخ، ولكنها لم تكن مسألة حضارية أو فلسفية فحسب، بل كانت لها - كما قلت - جذورها العميقة في تجربة الشاعر وشخصيته وفي قدر جيله المعذب بأكمله، وإحساسه بأنه قد أصبح يعيش على شفا الهاوية. ولقد سقط عدد كبير من شعراء هذا الجيل ضحايا الحرب العالمية الأولى،
3
وفضل بعضهم أن يغادر الحياة منتحرا، واعتزل بعضهم وعاش بقية العمر في صمت. ولكن هذا الإحساس بوحدتهم ومأساة وجودهم العاري من كل معنى أو هدف بلغ في بعض الأحيان حد الاستمتاع بالكآبة وتعذيب النفس والفرار إلى نشوة الرؤى المخيفة، ومنها هذه الرؤية التي تصورها «الحرب». •••
أما جورج تراكل فلم يكتب إلا الشعر، وشعره أشد غموضا وعمقا وهدوءا من شعر هايم، ومع أن قصائده لا تكاد تتجاوز المائة إلا بقليل، فقد أثر تأثيرا كبيرا على الشعر الألماني بعد الحرب العالمية الثانية.
والغريب أن قصائده تبدو للنظرة الأولى على جانب كبير من الصفاء والرقة والعذوبة والانسجام. فإذا أعدنا قراءتها مرة ومرات (فهكذا يريد الشعر الحقيقي حتى يكشف لنا عن سره!) وجدناه من أعقد الشعر وأحفله بالرموز والأسرار والاستعارات الغامضة والإشارات البعيدة والصور المحيرة. إنه يجذبنا - لأول مرة - بسحر موسيقاه وعذوبة لغته وجمال صوره، فإذا سألنا أنفسنا عن سر هذا السحر الغريب واجهتنا مشكلات لا حد لها وأسرار أخرى أكثر غموضا وجمالا. وإذا لجأنا للشروح والتفسيرات التي تتوالى عنه في السنوات الأخيرة ألفينا أنفسنا كمن يهرب من السباحة في النهر إلى السباحة في البحر! إن التفسيرات تكاد تتعدد بعدد المفسرين! هناك من تغريه النصوص الغامضة المؤثرة بتفسير رموزها وصورها تفسيرا دينيا. والحقيقة أن شطحاتها المسرفة تغري بهذا التفسير ... ولكنها ليست شطحات المؤمن بل المدمن على الأفيون، وصاحبها لا يترنم بأنشودة العابد المتبتل لله، بل ينشد مرثية الحداد على صمته ... ويوشك أن يكون شعر تراكل كله عن الشر والألم والموت والذنب والعذاب والفساد والزوال والتحلل والانهيار في عالم مظلم غابت عنه - في رأيه - عناية السماء.
وهناك من فسروا شعره بالرجوع إلى سيرته وحياته التي دمرها القلق والانطواء والخوف من الناس والإخفاق في الاستقرار والتأثر بفظائع الحرب وإدمان المخدرات، وبالغوا في الكلام عن علاقته الحميمة بشقيقته التي حضر وفاتها في نفس السنة التي مات فيها. ولا شك في أهمية تجارب الحياة على الشاعر، ولا شك أيضا في تأثير شقيقته عليه، ولكننا نخطئ كلما بالغنا في تأثير حياة الأديب على إنتاجه أو حاولنا فهم هذا الإنتاج - الذي ينبغي أن تكون له قيمته الخاصة ووجوده المستقل - من واقع سيرته وتجاربه.
وأبسط دليل على هذا فيما نحن بصدده أن تأثير شقيقه تراكل لا يظهر في شعره على الإطلاق. وحاول البعض أخيرا أن يفسر شعره تفسيرا وجوديا، فقام الفيلسوف المشهور «مارتن هيدجر» بهذه المحاولة ولكنه لم يصل إلى نتائج مقنعة (كما فعل مع شعر هولدرلين ولم يستطع أن يرضي الأدباء أو يقنع الفلاسفة!) ولعل الأجدى أن نواجه النص ونلتقي به ونحاوره بغير أفكار سابقة، وننظر في تفاصيله وألوانه ولآلئه، وندرس موضوعاته وصوره، ونحلل أسلوبه، ونبحث عن العوامل المؤثرة على شاعريته المفعمة بالكآبة والشوق والحداد.
إن لغة تراكل تفيض بالرؤى الباطنة والاكتئاب الذي لا حد له، وصور الانهيار الكوني المخيفة، والشوق إلى إنسانية طاهرة نقية تستطيع وحدها أن تخلص العالم. لقد انتهت معه قصيدة الاعتراف الذاتي والجو النفسي، وأصبحت «الأنا» تعبر عن نفسها بلغة موضوعية تقترب من روح الأسطورة التي تجسم رؤاها في صورة محسوسة وملموسة، لغة قريبة من أسلوب هولدرلين (1770-1843) في شعره المتأخر المفعم بالشوق والأسى والحنين إلى عالم أسطوري نقي.
অজানা পৃষ্ঠা
إن العالم المألوف يتفتت عند تراكل إلى أكوام من الصور المتعارضة المتجاورة، تدل صيغها الملغزة المحيرة على عالم باطني غامض يؤثر أن ينطوي على سره، وهو في مجموعه شعر وحيد، يكشف عن الرعب الكامن في الجمال، ويرفع النقاب عن سحر الوجود، ويعبر عن الشوق الأخرس المحموم إلى اللامحدود، والحنين إلى الخلاص من أسر الموت والخطيئة، وانتظار النجاة التي ينعم بها الله أو تأتي بها الطبيعة العظيمة في صبر وتواضع وسكون ...
إن شعر تراكل يفيض - كما قدمت - بالكآبة، ولكنه يعبر عن هذه الكآبة بلغة موسيقية موحية، تجمع بين الجمال الرقيق والرعب الخانق. وهو بهذا التوحيد بين النقيضين يذكرنا بشعر بودلير الذي يصور أبشع ألوان القبح والقسوة والفساد والظلام بأسلوب ينم عن روح جميل نقي طيب شفاف؛ ولذلك فإن مكانة تراكل في الأدب الحديث لا يكاد يشبهها إلا مكانة بودلير أو هولدرلين. ولنقرأ معا إحدى قصائده التي تبين قدرته على التغلغل إلى أقصى أطراف الوجود مع احتفاظه بأسلوبه الرقيق الهادئ العميق، والقصيدة عنوانها الجرذان، وقد رتبها ناشر شعره مع بعض القصائد الأخرى تحت عنوان «الفلاحون».
في الفناء يبدو قمر الخريف ناصع البياض.
من حافة السقف تسقط ظلال غريبة كالأحلام.
في النوافذ الخاوية صمت مقيم؛
عندئذ تظهر الجرذان بغير ضوضاء. •••
وتجري مصفرة هنا وهناك،
وخلفها تزحف أنفاس من البخار،
مغبرة آتية من المراحيض،
التي ترتعش في ضوء القمر كالأشباح. •••
অজানা পৃষ্ঠা
وتتصايح وتصرخ منهومة كالمجانين،
وتملأ البيت ومخازن الغلال،
الرياح الثلجية تعول في الظلام.
ولكن تراكل يبعدنا بعض الشيء عن التعبيريين، لا لأنه يتجاوز حدود المدارس والتيارات والحركات الأدبية كما يفعل أي شاعر عبقري، بل لأن لغته الموحية الهامسة تخلو من صرخاتهم العالية وكلماتهم الثائرة، وإشاراتهم وصيغهم القريبة المباشرة.
ولذلك فإن قصائده المنسجمة الهادئة أشبه بالجزر العجيبة الساكنة وسط الطوفان. •••
لنرجع الآن إلى التعبيريين الخلص، وأول من يخطر على بالنا هو جوتفريد بن (1896-1956) وشعره (على الأقل في مرحلته المبكرة) يضعنا في قالب الحركة التعبيرية . لقد كان طبيبا مختصا بمعالجة الأمراض الجلدية والتناسلية؛ ولذا فلن يدهشنا أن نجد في قصائده الأولى كثيرا من ظواهر المرض والتشوه والقبح، ونصادف فيها الأورام البشعة والقروح المنفرة، والجثث البائسة في المستشفيات والعنابر والمشارح، وكأنما استحالت هذه العنابر والمشارح إلى مسرح فظيع يعرض عليه الشاعر تعاسة البشر ويأسهم في أسلوب بارد وناصع كالثلج.
و«بن» من أبرز الشعراء الذين ينطبق عليهم المبدأ الذي سيطر على الشعر الحديث بعد بودلير وجعله يتخلص بالتدريج من آثار الرومانتيكية، وأعني به تجرد الشاعر (والرسام والموسيقي!) من العواطف البشرية الساذجة، وتعمده أن يكون متزنا دقيقا غير عاطفي، وتخليه عن كل ما يصفه الفيلسوف الإسباني «أورتيجا» جاسيت بالنزعة البشرية - أي تعبيره عن عواطفه وأفكاره - عن طريق ما يقابلها من أشياء واقعية في العالم الخارجي، وهو ما يسميه أيضا الشاعر الناقد الإنجليزي «إليوت» بالمعادل الموضوعي.
و«جوتفريد بن» يكتب شعرا أبعد ما يكون عن العاطفة، بل إنه يبلغ في هذا أقصى ما يمكن أن يتصوره عقل؛ إنه يرد روح الإنسان العاقل وفكره وعلمه إلى أصلها الجسدي، والجسد بدوره يرد إلى العفن والورم والتشوه والسرطان؛ أي إلى كل قبيح فيه، ويصبح العقل الذي طالما مجده الحكماء باطل الأباطيل، والروح التي تغنى بها الشعراء على مر الزمان نوعا من الانحراف في سنن الطبيعة وصورة من صور التحول الفاسد التي لا تلبث أن تختفي من جديد!
وليس من الغريب أن تكثر في شعره رؤى السقوط والانهيار والمرض والتحلل، وتغلب عليه لغة العلم الموضوعية الباردة، لا بل لغة الطبيب الجراح الذي يشق الجلد بلا رحمة ليكشف عما وراءه من أهوال المرض. كل هذا في أسلوب الاصطلاحات العلمية المتخصصة والكلمات الدارجة المشتقة من لغة الشارع، يصفها بجوار كلمات أخرى شاعرية عذبة الرنين، مأخوذة من التراث الرومانتيكي والكلاسيكي. إن الشاعر - مثله في هذا مثل أغلب الشعراء المحدثين - يتعمد أن يصدم القارئ بموضوعه وأسلوبه معا؛ فموضوعاته تثير الخوف والاشمئزاز على الدوام، ولغته قوية حافلة بالصور، شديدة التركيز على الأسماء دون الأفعال، تعتمد على المفاجأة والمونتاج وصف الأشياء إلى جانب بعضها البعض لإبراز رؤياه للقيم المتحطمة والحياة الممزقة والواقع المشوه (ولعله في هذه النزعة العدمية أن يكون وريث نيتشه، وإن خلا مع ذلك من جلاله وغضبه المقدس وإيمانه بالحياة واحتقاره للثقافة والمثقفين!) ولعل أوضح ما يدل على عالم «بن» الشعري هو عناوين قصصه ودواوينه ... ويكفي أن نذكر منها هذه الأسماء: أمخاخ (قصص) مشرحة، لحم، أنقاض، تخدير، صدع ... إلخ. ويكفي أيضا أن نقدم له القصيدتين التاليتين ليجد فيهما القارئ نماذج توضح الكلام السابق، هذه أولا قصيدة عنوانها: رجل وامرأة يمران في عنبر السرطان:
الرجل :
অজানা পৃষ্ঠা
هنا على هذا الصف أرحام عفنة،
وعلى هذا الوصف صدور مهترئة،
سرير كريه الرائحة بجوار سرير،
الممرضات يتغيرن كل ساعة، •••
تعالي، ارفعي هذا الغطاء بهدوء،
انظري هذه الكومة من الدهون والسوائل العطنة،
كانت يوما في نظر رجل شيئا ذا بال،
وكانت أيضا تسمى نشوة ووطنا. •••
تعالي، تأملي هذه الندبة على الصدر،
هل تحسين المسبحة وحباتها الناعمة؟
অজানা পৃষ্ঠা
تحسسيها على مهل، اللحم طري ولا يؤلم. •••
هذه تنزف كما ينزف ثلاثون جسدا،
ما من أحد لديه كل هذا الدم،
وهذه. لقد استطاعوا أن يخرجوا طفلا،
من بطنها المصاب بالسرطان.
إنهم يوصونهم بالنوم، ليلا ونهارا،
يقولون لكل قادم جديد: بالنوم يسترد المرء صحته،
وفي أيام الأحد يوقظونهم قليلا لاستقبال الزائرين. •••
يسمحون لهم بطعام قليل. الظهور جريحة،
الذباب كما ترين. في بعض الأحيان،
অজানা পৃষ্ঠা
تغسلهم الممرضات، كما تغسل الأرائك. •••
هنا تنتفخ الحقول حول كل سرير،
اللحم يستحيل أرضا مستوية، الحرارة تزيد،
السائل (اللمفاوي) يتجمد بالتدريج، الأرض تنادي.
وهناك قصائد عديدة ل «بن» تحفل بالتفاصيل المقززة، ويبدو أنه عند كتابتها لم ينس أو لم يرد أن ينسى أنه عالم وطبيب، صحيح أن تحليلاته الدقيقة للأعراض والأمراض، وأوصافه العادية للقروح والجروح تضفي عليها شاعرية نادرة وتغمرنا بإحساس قاتم بالوحدة والضياع في هذا العالم الكبير المخيف، وصحيح أنها تذكرنا بطريقة بودلير في التغلغل في ألوان القبح والشر والوحل والطين، وإن افتقدت لغته الجميلة الرصينة الخالية من شذوذ المحدثين وإغرابهم ونشاز عباراتهم وصورهم واستعاراتهم، ولكنها مع ذلك تكشف دائما عن حنين رومانتيكي إلى النقاء والصفاء، كما تعبر في المراحل المتأخرة من إنتاج الشاعر عن رغبة في التماس الوحدة والأمن وراء الحطام والخراب، والانتصار على الفساد والخوف والفوضى والعدمية عن طريق الكلمة والشكل الفني الناضج التام.
وقد جاءت هذه المرحلة بعد أن تجاوز «بن» الحركة التعبيرية، كما اتضحت أشعاره التي نشرها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومع أن هذه المرحلة المتأخرة لا تدخل في حدود هذا الكتاب، إلا أن الشعر لا يمكن أن يقسم بالمتر والذراع كما تقسم الأرض الزراعية؛ ولذلك فقد يهم القارئ أن يعرف شيئا عنها، وسأكتفي بقصيدة مشهورة بعنوان: «أنا ضائعة»: «أنا» ضائعة، تفجرت من الغلاف الهوائي،
ضحية الأيون: أشعة جاما - لام،
جزيء ومجال أوهام لا نهاية،
على حجرك المعتم من نوتردام. •••
الأيام تمضي بك بلا ليل ولا صباح،
অজানা পৃষ্ঠা
السنوات تقف بل ثلج ولا ثمر،
اللانهائي مهدد وخفي،
العالم ملاذ. •••
أين تنتهي؟ أين تعسكر؟ أين تمتد أفلاكك؟
مكسب، خسارة،
لعبة وحوش، أبد وزوال،
تفر إلى قضبانها. •••
نظرة الوحوش، النجوم أمعاء حيوانات،
موت الأدغال أصل الوجود والخلق،
بشر، مجازر، شعوب، حقول، كروم،
অজানা পৃষ্ঠা