তাচবিরিয়া
التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح
জনগুলি
وما أعظم الفرق بين صراخ أبطالهم واحتجاجهم البليغ وبين احتجاج أبطال كافكا الوحيدين المنكسرين الضائعين في دوائر ومتاهات عقيمة لا متناهية! (هذا إذا جاز القول بأن لديه أبطالا أو أنهم كذلك يحتجون!)
ويكفي أن أذكر لك هذا المثل من أحاديثه الرائعة مع الكاتب التشيكي جوستاف يانوخ، فقد قدم له هذا مجموعة مختارة من شعر التعبيريين (لا شك أنها فجر الإنسانية التي أشرت إليها) وسأله عن رأيه فيها، فقال له كافكا بصوته الهادئ العميق: «هذا الكتاب يحزنني. إن الشعراء يمدون أيديهم للناس، ولكن الناس لا ترى منهم الأيدي الصديقة، بل القبضات المتشنجة التي تريد أن تصيب الأعين والقلوب.»
ويسري هذا الكلام نفسه على أعمال الروائيين الكبيرين: ألفرد دوبلن (1878-1957) وروبرت موزيل (1880-1942) وهما - إلى جانب توماس مان - من أكبر كتاب الرواية في الأدب الألماني في القرن العشرين.
أما «موزيل» فيشغل القراء والدارسين بصورة هائلة في هذه الأيام؛ فهو يعد من أقطاب الرواية الحديثة (وهي غير الرواية الجديدة المعروفة الآن في فرنسا!) التي تعتمد على المونتاج والمونولوج الداخلي وتضمين الدراسات والمقالات العلمية والفلسفية في سباق القصة والقضاء على وحدة الحدث والشخصية ... إلخ؛ أي الرواية التي لم تعد رواية بالمعنى التقليدي!
ورواية موزيل الأولى «اضطرابات التلميذ تورليس» التي ظهرت سنة 1906 تدور في فلك التعبيرية. إنها تتناول حياة مراهق صغير في مدرسة داخلية، ومشكلاته الروحية والنفسية التي يعانيها، وهي تتصل من هذه الناحية بالمحاولات التي ذكرناها لجوتفريد بن وألبرت أيرنشتين وكارل أينشتين، ولكنها تختلف عنها من حيث أسلوبها الفلسفي الصارم، وقدرتها على مناقشة المشكلات العقلية والنفسية المعقدة، وتمكن صاحبها من التيارات والمذاهب الفكرية والحضارية، وكلها خصائص بلغت غاية النضج والاكتمال في روايته الكبرى «رجل بلا صفات» التي لا شك في أن صاحبها قد وثب بها وثبة بعيدة تجاوزت حدود التعبيرية ومملكتها الضيقة ... ونخطئ لو تصورنا أن «تورليس» من نوع القصص الواقعية والنفسية التي وضعها كثير من الكتاب تحت تأثير فرويد أو غيره من علماء النفس، وتناولوا فيها متاعب هذه المرحلة الهامة من حياة الإنسان. إن الكاتب نفسه يحذرنا من هذا التصور، ويقول: إن التفسير الواقعي للحدث الواقعي لا يهمه في شيء؛ فذاكرته - كما يقول - ضعيفة، والوقائع يمكن أن تحل إحداها محل الأخرى، والذي يعنيه في المقام الأول هو ما يدل عليه الحدث أو تدل عليه مادة القصة من خصائص عقلية أو روحية مميزة وما تنطوي عليه من صفات تخيف كما تخيف الأشباح ... فاضطرابات الفتى تورليس لا قيمة لها عنده؛ ولذلك جردها قبل البدء في كتابة قصته من كل أثر للبيئة أو الواقع، كيف السبيل إذن إلى فهم القصة أو تذوقها بعد استبعاد التفسير النفسي والاجتماعي لها؟ لا بد أن نحاول ذلك من داخلها، أي بدراسة بنائها ومعرفة القوانين التي تقوم عليها.
والقصة - كما قدمت - تختلف عن القصص التقليدية؛ فهي تعنى بالتحليل أكثر من عنايتها بالأحداث. وهي لا تنقسم إلى فصول، بل تمضي كأنما كتبت في نفس واحد، تتخلله فقرات تتراوح بين الطول والقصر، ومع ذلك فيمكن أن تنقسم من حيث البناء إلى ثلاثة أقسام: يصور الأول مساء يوم رحيل والدي «تورليس» اللذين كانا في زيارته، وجلسته مع صديقه «بينبرج» في أحد المحال التي تقدم الحلوى ثم زيارتهما للبغي بوزينا، ويتعرض القسم الأوسط للاضطرابات التي يعانيها الفتى، ويحلل المشاعر والأفكار التي تدور في نفسه والقوانين التي تربط بينها بمناسبة حادثة سرقة ارتكبها زميله الشاذ بازينيس وعوقب بسببها، ثم ينتهي القسم الأخير بخروجه من المعهد الذي كان يقيم فيه إقامة داخلية.
ويلاحظ القارئ أن الحدث والحكاية والشخصية والأوصاف الخارجية والتتابع الزمني وغيرها من مقومات القصة التقليدية لم تعد لها أهمية إلا بقدر ما تتيح للكاتب تحليل المشاعر والأفكار التي تدور في عالم الباطن، ويتفق هذا مع رأي موزيل في الرواية الجديدة التي لا ينبغي أن تهدف للتسلية، بل يجب أن تعين على السيطرة العقلية والروحية على العالم.
وتأتي أهمية هذه الرواية القصيرة من أنها تفتح للرواية العادية - ذات البعد الواحد - آفاقا وأبعادا أخرى جديدة، وتنقلها من عالم الواقع الثابت إلى عالم الإمكان - وهو العالم الوحيد الجدير باهتمام الفن - ومن التسلسل الزمني المطرد إلى تصوير اللحظات الحية الممتلئة التي تضم الماضي والحاضر والمستقبل، والتذكر والإحساس والتنبؤ في لحظة واحدة تنطوي على تجارب عقلية ونفسية لا آخر لها، وتسمح بتحليلات ومناقشات مسهبة يتجاور فيها الممكن والواقع، ويفقد الواقع الخارجي تماسكه، والزمن المألوف تسلسله التاريخي، ويؤثر هذا كله على بناء الرواية ولغتها ومواقفها التي تعكس اضطرابات «تورليس» وأزماته الباطنة وتأملاته الوحيدة.
صحيح أن موزيل لم يحقق نظريته الفنية عن الرواية الجديدة بصورة مرضية إلا في روايته الكبرى التي أشرت إليها، ولكن سخطه على الرواية التقليدية وسعيه لتفكيك شكلها التقليدي كانا شيئا تأثر فيه بالجو التعبيري العام من حوله، وشاركته فيه تجارب قصصية وروائية ظهرت في نفس الفترة بأقلام شعراء وكتاب مثل رلكه وبن وكافكا.
ويسري هذا أيضا على الطبيب والكاتب ألفرد دوبلن؛ فقصصه الأولى التي وضع لها هذا العنوان الغريب: «اغتيال زهرة شقيق أصفر» (1913) تضم مجموعة من الشطحات والهلوسات والتأملات المضطربة التي تدور في ذهن طبيب نفساني وتصدر عن نزعة تعبيرية واضحة، أما رواياته المتأخرة فتبتعد عن التعبيرية بمعناها الدقيق. ويصدق هذا على روايته «وثبات وانج لون الثلاث» (1915) التي تقدم لوحات مثيرة رائعة عن ثائر صيني ينتهي به المطاف إلى العدول عن العنف والبطش والإيمان بالسلام والتسليم بالقدر، كما يصدق على روايته الكبرى «برلين - ميدان ألكسندر» التي كانت جديرة بأن تصبح «الرواية» التعبيرية بحق، لولا أنها كتبت في سنة 1929، أي بعد ذبول الحركة التعبيرية وانطفائها، ولولا أنها تلجأ إلى أساليب وتجارب شكلية عديدة كأسلوب «المونتاج» و«الريبورتاج» الذي يكدس آلاف المعلومات والوثائق وأخبار الصحف والإعلانات وأنباء الطقس وتعليمات السجون والسكك الحديدية وأغاني الأطفال والباعة المتجولين ولغة الدواوين الحكومية إلى جانب لغة الشعراء وكبار الكتاب، كما تلجأ في بعض أجزائها إلى الأسلوب الواقعي الدقيق، وفي بعضها الآخر إلى شاعرية المونولوج الباطني وتضمين المقالات والدراسات العلمية المفككة والقصص والأمثلة الجانبية العديدة، والنصوص المقتبسة من الكتب المقدسة، وعرض الحدث الواحد من زوايا مختلفة وعلى مستويات مختلفة تعكس اضطراب الحياة الحديثة وفوضاها؛ لولا هذا كله لقيل عنها إنها الرواية التعبيرية بحق، ومع هذا فهي تشارك التعبيرية في مهاجمة المجتمع البرجوازي وبيان أخطار المدينة على كيان الفرد، وتتبع حياة إنسان بسيط كادح يتحطم على صخرة المجتمع وتقاليده ونظمه وأفكاره البالية. إنها تمثل ذروة النثر التعبيري وتتجاوزه في آن واحد إلى نوع من الأسلوب الواقعي الذي تطورت إليه الرواية بعد العشرينيات، وأطلق عليه النقاد اسم «الواقعية الجديدة» أو ربما سموه كذلك «الموضوعية الجديدة».
অজানা পৃষ্ঠা