ونظر إلى جرس الباب في تردد، هل يضع إصبعه أو يعود من حيث أتى، ولكن من أين أتى، إنه لا يكاد يذكر تماما أين قضى الوقت من الظهر حتى الآن، لكنه يعرف أين قضى فترة الصباح من الثامنة حتى الثانية بعد الظهر، وكيف ينسى حجرة مكتبه الضيقة الرطبة في «وزارة المالية» التي يذهب إليها كل صباح، منذ عشرين سنة؟
وتراءت له صورته وهو بعد شاب في العشرين، طويل نحيل، جبهته عريضة أكثر من اللازم، وعيناه غائرتان أكثر من اللازم، وظهره مقوس أكثر من اللازم، لكن كل ذلك لم يكن مشكلة بالنسبة له، بل كانت المدرسة هي مشكلة حياته، لا يرى داعيا لها، ولا يطيق أن يجلس حصة واحدة، دون أن يفرك يديه وقدميه، ويتلفت حوله، ويفتح درجه ويغلقه عشرات المرات ، وقضى بالمدرسة ثماني سنوات، ثم فصل، وبعد أيام قليلة سمع صوت أبيه الثائر يقول: هو أنا حاصرف على بغال؟ كفاية بقى كفرتني، سيبني أربي دستة العيال اللي ورايا!
ووجد نفسه في الطريق يتسكع بين المحلات، يلتهم بنظراته الجائعة أسياخ اللحم على النار، ويجذب أنفاسا عميقة من بخار الشواء اللذيذ، ولا يذكر عباس كيف وصل إلى وزارة المالية، وكيف حصل على وظيفة كاتب هناك، ربما كان خاله «عبد الله بك» هو الذي توسط له، أو لعله أبوه هو الذي دبر له ذلك، ومع ذلك فإنه لم يرفض العمل ما دام سيقبض آخر الشهر سبعة جنيهات كاملة يستطيع أن يدخن بها، ويأكل، وبالطبع لن يكون هناك مذاكرة، ولا حصص، ولا جرس، ولا امتحانات، ولا رسوب!
وأشعل عباس سيجارة أخرى، ونظر إلى جرس الباب، لماذا يتردد الليلة في الدخول؟ ألم يواظب على الحضور كل ليلة إلى هذا البيت، ولكنه أحس أنه لا يستطيع أن يواجه العينين الحانقتين اللتين ترقبانه وهو يدخل في كل مرة، وشعر بالخجل منهما، لأول مرة، يحس شعور الخجل، لقد عاش حياته بلا خجل، وقلب كلمة الخجل في رأسه، ومصمص شفتيه وهو يقول لنفسه: خجل!
غريبة، لم تخطر هذه الكلمة بباله قط، حتى حينما كان يزجره أبوه، ويتهمه بأنه ما بيحسش وماعندوش دم، ولا خجل! بخلاف أخيه الأصغر، كان يسمع كلام أبيه، ولا يحس شيئا، ويتساءل بينه وبين نفسه عما يكون الخجل، وهل المفروض أن يخجل؟ وما الذي يضيره لو سبقه أخوه أو لم يسبقه، إنه يأكل، ويشرب، ويلبس، وفي النهاية يجد سجائر يدخنها.
ونفث الدخان من أنفه، وألقى عقب السيجارة على الأرض، وقال لنفسه: لماذا لا أدخل الليلة؟ ما الذي تغير حتى لا أدخل؟ وكيف أقضي الليل إذا لم أدخل؟
ورفع يدا نحيلة معروقة، وضغط على الجرس، وتجاهل العينين الحانقتين الناعستين، ودخل بقامته الطويلة، المنحنية، النحيلة، كالمارد المسلول، واخترق الصالة الواسعة إلى باب الحجرة المعهودة، ودفع الباب فانفتح ودخل، وارتد الباب خلفه.
ووجد جو الحجرة مليئا برائحة يعرفها جيدا ، فهي مزيج من رائحة الدخان، والويسكي، والجبن الرومي، والزيتون المخلل، رأى الخمسة جالسين حول المائدة، هم الخمسة أنفسهم لا يتغيرون، كانوا يلعبون، ودعاه أحدهم إلى مشاركتهم كعادته، ولكنه اعتذر بأنه «مالوش مزاج»!
ونبهته تلك الكلمة الجديدة التي استعملها دون أن يحس، مزاج! ماذا يعني بتلك الكلمة؟ وهل اختار أي شيء في حياته بمزاج؟ حتى البوكر، تلك اللعبة السحرية، التي تلتهم ساعات ليله التهاما، هل اختارها بمزاج ما؟
وسمع صوتا مبحوحا يصيح: فلوس!
অজানা পৃষ্ঠা