في إحدى ليالي يناير الباردة، والبيوت كلها مغلقة النوافذ والأبواب تحمي سكانها من هواء الليل البارد، والملاهي خالية من الناس تبدو بمناضدها وكراسيها الشاغرة كشجرة عجوز تساقطت عنها أوراقها، وشارع النيل الواسع يلمع نظيفا وقد غسله ماء المطر، والكون كله ساكن إلا من صرير عربات الليل وهي تنزلق على الكوبري القريب.
وبدا القمر هلالا رفيعا، يضفي على الأرض ضوءا باهتا، لا يخفف شيئا من ظلمة الليل، بل لعله ينشر على الأرض ظلالا خافتة تبدو كالأشباح وتزيد من روعة الليل ورهبته.
وكان عباس ينقل خطاه بطيئة على أرض الشارع، ويضع يديه في جيبي معطفه، ويرفع وجهه إلى السماء؛ حتى يؤنس وحدته ذلك الهلال اليتيم الهائم في خضم السواد، وتلفح وجهه نسمة الليل الباردة، فتخفف من لفح اللهيب الذي يجري تحت بشرته.
ودارت عيناه تنتقلان من السماء إلى الماء، ومن الماء إلى السماء، ورأى الهلال الهزيل في قاع النيل يتهالك في اهتزازات عنيفة، تنكسر عليها أشعته الخافتة، وأشفق على الهلال أن يختنق، فاقترب من صفحة الماء ونظر فيها، واقشعر بدنه، وسرت في أوصاله رجفة؛ لقد رأى وجهه، لكن ملامحه لم تكن هي ملامحه، انقلبت عيناه إلى بؤرتين عميقتين تشعان مرارة وأسى، وأصبحت شفتاه شريطين من الجلد المشدود تقطران هما وكآبة، وانقبض قلبه، ورفع رأسه فرأى شبح الموت يجثم على الأرض والسماء، الهلال يحتضر والبيوت قبور، وهو ... هو يشم رائحة الموت في كل نفس من أنفاسه.
وانكمش عباس في معطفه السميك، وأخذ يجر هيكله الطويل النحيل، ويستمع إلى وقع قدميه، وهو يفكر في أمر نفسه، ما الذي يدفعه إلى كل هذا؟ ولم يعرف بماذا يجيب، واكتفى بأن واصل سيره، وهو يمصمص شفتيه ازدراء، وشعر في هذه اللحظة أنه يحتقر كل شيء، نفسه، والناس، والدنيا، والليل، حتى ذلك الهلال الهزيل الذي يحتضر يحتقره، لأنه ضعيف عاجز.
وانحرف إلى يسار شارع النيل، ودخل في شارع ضيق، سار فيه بضع خطوات، ثم توقف أمام بيت صغير، وقبل أن يضع يده على الجرس نظر إلى ساعته، كانت الواحدة، وتردد قليلا، هل يضع إصبعه على الجرس، أو يستدير عائدا من حيث أتى، ووقف أمام الباب المغلق يتساءل عن هذه الأحاسيس الغريبة التي سرت إلى نفسه، وهذه الكلمات الجديدة التي ترن في أذنيه، احتقار، كراهية، ضعف، تردد، لم يسبق له أن احتقر أحدا طوال حياته، ولا حتى نفسه، كان يجد مبررا لكل شيء يفعله، ويلتمس الأعذار لكل الناس.
ولم يكن يشعر بشيء اسمه الكراهية لأي شيء، ولا حتى للقضاء والقدر، بل لعله كان يجد فيهما ملاذا لكل أخطائه، إذا كانت هناك أشياء يمكن أن يسميها أخطاء.
ولم يكن يشعر بالضعف أبدا، وكيف يشعر بالضعف وهو يترك نفسه للقدر، يحركه ولا يكاد يستعمل قوته؟
ولم يكن يعرف التردد، وكيف يعرفه، وهو لا يذكر أنه احتاج مرة إلى ما يسميه «إرادته»؟
وقد كان يعيش رغم ذلك كله، يعيش حياته، ويعتبر نفسه ظاهرة طبيعية كالشمس، والقمر، والهواء، كلها تعيش حياتها، ولا تعرف ما يعرفه الناس عن تلك الأشياء التي يسمونها الإرادة، أو القوة، أو الضعف، أو التردد، أو الاحتقار، الشمس تدور حول الأرض اليوم، كالأمس، كالغد، بلا تفكير ولا إرادة، وهو أيضا يدور على الأرض اليوم، كالأمس، كالغد بلا تفكير ولا إرادة.
অজানা পৃষ্ঠা