لا يحب الرجال إلا تلك التي تؤلمهم.
الأم والابنة
في المرآة رأت نفسها واقفة ممشوقة القد، من حول رأسها هالة بلون الليل، والعين واسعة كقرص الشمس، وجسمها ملفوف يتوهج بألوان الطيف، يمتد فوق الهضبة الخضراء بين البحر والنهر، تفرد ذراعيها وتحتضن الكون، وتحرك ساقيها فوق الأرض. قدماها تدبان باللحن، وأنغام الصبح كأنغام الليل تحركها. عقلها لا يعرف السكون، وجسدها لا يكف عن الرقص، والهواء من حولها يصبح اللحن تعشقه، والنغم في صدرها كالهواء يملؤها، وتطير في الجو كالروح بلا جسد. تدور بالرقصة دون ردف ولا بطن، وترفع رأسها في السماء تمسك السماء ولا أحد يمسكها، وفي أذنها تسمع الدقة وراء الدقة ثلاث دقات تعرفها لا تخطئها، والوجه الصغير يطل من بين السحاب تعرفه لا تخطئه، ومن ملايين الوجوه في الكون تميزه، واليد الصغيرة تطل من الكم، شاحبة بيضاء بلا دم، وأصابع الكف مفتوحة تشبه أصابعها في ابتهال صامت أبلغ من الصوت، والعين واسعة سوداء كعين السماء في الليل، وفي صدرها تخبئها وتجري ولا تكف عن الجري، وأقدامهم من خلفها تدب بأحذية من الحديد، في كل كعب حدوة كحوافر الخيل، وفي يد كل منهم حجر أو آلة قتل، وهي في صدرها مخبوءة تحت القلب. قلبها الصغير يدق الدقة وراء الدقة مع النبض، وأصابعها الخمس تنقبض وتمسك إصبع الأم، والأم تجري تحتمي بالظلمة قبل طلوع الشمس. تأخرت الشمس في الطلوع لتحمي الأم في الليل، والقمر أيضا أغمض عينه، والنجوم راحت في النوم، وانطفأ في الكون كل ضوء. أغلق الحارس آخر أبواب القصر، وتمتم بآية الكرسي، ونام الإمام وحزب الله وحزب الشيطان، والهواء نام، وأوراق الشجر نامت، وهي واقفة تتلفت حولها تخشى أن تلمحها عين. لم تر في الظلمة أي عين، فانتزعتها من صدرها وساوت الأرض ببطن الكف، وأبعدت الطوب والحصى، وفرشت الأرض بتراب ناعم كصدر الأم، وأرقدتها. وجهها صغير شاحب يطل من فتحة الثوب. أسنانها تصطك بالبرد. خلعت الشال الصوفي الأسود وحوطتها. لامست يدها الصغيرة إصبع الأم فأمسكته بأصابعها الخمس لا تتركه، وتركت الأم إصبعها في يدها بطول الشهيق العميق في صدر الأم، ونسيت أنهم وراءها، والمسافة بينها وبينهم ضاقت، لكنها تركت إصبعها في يدها لا تسحبه حتى آخر نفس، وظلت واقفة تطل عليها من فوق، وفي ظهرها يضربون الطعنة وراء الطعنة، والأم لا تحول وجهها عن وجه البنت، لا تستدير إليهم، ومهما ضربوا لا تسقط؛ فهي ساقطة من قبل، وسقوط السقوط صعود. ومهما تصايحوا لا تعطيهم إلا ظهرها؛ فهي تعرف أنهم يهربون من وجهها إذا استدارت إليهم. يخافون أن تسقط عيناها على وجوههم؛ فهي تعرفهم واحدا واحدا ابتداء من الإمام إلى الحارس والخفير، وجميعهم كانوا يأتون إليها في الظلمة بوجوه تنكرية، وفي فراشها في بيت السعادة يخلعون الوجوه المطاط وشعر الشارب واللحية والعباءة والسروال، وتراهم واحدا واحدا بغير لباس ولا شارة على الكتف أو نجمة فوق الصدر، وجميعهم شكل واحد، ورائحة واحدة، وحركة واحدة من طرف واحد، كالهجوم بغتة والتراجع بغتة، ورفع علم الهزيمة ينتصب بغتة كعرف الديك. صواريخ النصر تفرقع، والهتاف يدوي، وهي واقفة تحت الضوء، نصف عارية ترتدي بدلة الرقص، والصاجات بين أصابعها تطرقع، وجسمها ساخن تحت الشمس، يحتضن عقلها البارد كنصل السيف، وعينها مفتوحة حمراء كعين السماء في القيظ. ترمقهم واحدا واحدا وهم وقوف يغضون البصر في الأرض. ولكل واحد منهم وجهان اثنان؛ وجه حلو التقاطيع، تنهمر الدموع من المآقي، والوجه الثاني داكن اللون جاحظ العين مدبب الأنف كالسيف.
وصوتها وهي تغني كان هو الطرب، وجسدها الممشوق كالغزال كان هو العشق. إنها لا تبالي الطعنة تأتي من الأمام أو الخلف؛ فهي ترقص ولا تبالي الموت، وهي ليست في حزب الله أو الشيطان، وليست بالمرأة أو الرجل، وليست بالإنس أو الجن، ولكنها كل ذلك، وإن سقط منها شيء يبقى الكل.
المحاكمة
قبل أن يقتلعوا رأسها من الجسد رأوا جذورها ممتدة في بطن الأرض، وبلغ بهم التعب كالخوف، وأخفوا الخوف في التعب، وجلسوا تحت الظل يحمون رءوسهم من الشمس. يمسحون وجوههم بالمناديل، ومن تحتها تطل الملامح ممسوحة بلا أثر، ولا شيء يميز الوجه عن الوجه، ولا تكاد تعرف الواحد من الآخر إلا بشارة على الرأس أو الكتف. وتعرفت على كتف رئيس الأمن وهو واقف أمامها يمسح وجهه بالمنديل ويقول:
ألك أقوال أخرى قبل تنفيذ الأمر؟ قالت: أي أمر؟ قال: أمر الله والوطن والإمام. وظلت صامتة لا ترد. وقال: ألا تؤمنين بالله والوطن والإمام؟ قالت: الثلاثة كلهم في آن واحد؟ قال: نعم، الإيمان بالكل أو لا شيء. وظلت صامتة لا ترد. ودون في الدفتر بالقلم: الصمت يعني أنها تفكر، وكونها تفكر يعني غياب الإيمان. ومسح وجهه بالمنديل وقال: ألك أقوال أخرى؟ قالت: أريد أن أقول إنني بريئة بلا ذنب، ولي أم واحدة هي الشمس، وآباء كثيرون بلا عدد، لا أعرف منهم لا الاسم ولا الوجه، ولا أقرأ الحروف فوق الورق، وأعيش في بيت السعادة وليس في قلبي إلا الحزن. النهار عندكم هو الليل عندي، والسعادة عندكم هي حزني، واللذة عندكم هي عندي الألم، والنصر عندكم هو هزيمتي، وجنتكم هي جحيمي، وشرفكم هو عاري، وعاري هو شرفكم، وعقلي هو جنونكم، وجنوني هو عقلكم. وإذا مات جسدي فلن يموت قلبي. وآخر ما يموت في هو العقل؛ فهو يعيش على أقل شيء، وكل شيء يموت في قبل العقل، ولا أحد فيكم نال عقلي، لا أحد. ومهما نلتم جسدي ظل عقلي بعيد المنال، كعين الشمس في النهار، كعين السماء في الليل.
ورأتهم واقفين أمامها في طابور طويل يضربون كفا بكف، ويتعجبون غاية العجب، وقالوا: ليست ساحرة ولا مجنونة، وإنما عاقلة، وكلامها عين العقل، وأصبح عقلها أخطر من جنونها. فحكموا عليها بالموت بطريقة أسرع من الرجم، وعدم إعطائها أي فرصة أخرى للكلام، وعدم نشر المحاكمة في الصحف، وإغلاق الملف ودفنه في بطن الأرض إلى الأبد.
অজানা পৃষ্ঠা