كنت واقفة أشهدها وهي تطل من النافذة، وسمعت أنفاسها تلهث كالنشيج المكتوم، أو الضحك المتقطع كالشهقات، ولهاثها لا يهدأ كمن كانت تجري دون توقف، وقلبها يدق بصوت مسموع في أذني، ويدها فوق قلبها تحت الثدي الأيسر فوق الجرح الغائر في اللحم، ووجهها شاحب بغير دم، وعيناها جافتان بغير دموع، والنني أسود لامع كعين السماء في الليل. سمعتها تقول بصوت هامس كحفيف الشجر: لم أكن أبكي حين تصيبني الضربة من الخلف. أستدير وأتلفت حولي باحثة من أين جاءت الطعنة، وأنهض واقفة ويدي فوق الجرح أوقف نزيف الدم، وأسير رافعة ظهري ووجهي نحو الشمس. أجتاز الشوارع والبيوت والنوافذ المغلقة والأبواب المغلقة، وأتوقف عند الباب الوحيد المفتوح، يعلوه الاسم: «بيت السعادة.» وأقول إنه الباب إلى الله. لم أكن رأيت أمي منذ ولدتني. قالوا: إن الله أخذها. وقلت: إذا وجدت الله وجدت أمي. في النوم أمشي وذراعاي ممدودتان أمامي في الظلمة باحثة عن أمي، ولم أكن رأيت الله وجها لوجه إلا في الحلم، وفي بيت الأطفال كانوا ينادونني «بنت الله». ومن فوق السور العالي أرى قبة الكنيسة ومنارة الجامع. وقال حارس المنارة: إن الله ليس له بنت ولا ولد. وقال حارس القبة: إن الله هو الأب والابن والروح القدس. ولم يسمع أحد عن بنت الله، ولم أكن رأيت أبي منذ ولدت. تصورت أنه الله، لكنني سمعت أنه كاتب كبير في بلاد الإمام، وله مال وبنون، وسمعة طيبة، وليس له أعداء في حزب الله أو حزب الشيطان، ويحبه الجميع أصدقاء وأعداء، ويعيش مع زوجته الأخيرة حياة الزهد كالمسيح، لا يقربها إلا ليلة الخميس. وصباح الجمعة يخرج إلى الصلاة وراء الإمام بغير وضوء. وبعد الصلاة وهو راكع يهز رأسه ناحية اليمين يقدم فروض الطاعة والولاء لحزب الله، ثم يهز رأسه ناحية اليسار يلقي التحية على أعضاء حزب الشيطان. ويستغفر الله ثلاث مرات قبل السجود وبعد السجود، ثم ينهض خفيف الجسم كالمولود الجديد طاهرا من كل الذنوب. يغادر غرفة العبادة وراء الإمام. يسير الهوينى مطرق الرأس بخطوات بطيئة يتمتم بآيات الله. يردد أسماءه الحسنى على حبات المسبحة. يجتاز السرداب الرفيع كالصراط المستقيم بين غرفة العبادة وغرفة الخمر في الدور الأرضي بالقصر. يسبقه الإمام بخطوة يدخل أمامه، وهو من خلفه يدخل. يشربان نخب الصداقة القديمة، ويسترجعان ذكريات الصبا في بيت السعادة.
الحب المحرم
حديقة خضراء من حول غرفة الخمر في القصر، وسور عال من الحديد، وكلب من نوع «الوولف» المستورد، له في الليل نباح مخيف، لا يقرب السور أحد إلا قطاع الطرق أو أرواح الجان والعفاريت. يختفون في النهار داخل القبور أو في بيوت كالقبور، وفي الليل يخرجون. وفي الضوء الأحمر الناعم يجلس الإمام في يده الكأس، وإلى جواره صديق العمر ، بينهما فوق الأريكة مسافة امتداد الذراع، والذراع من تحته وسادة من ريش النعام، ومن تحت الوسادة كتاب الله بخطوط الذهب، ومسدس كاتم الصوت من أجود الأنواع. وحين ينبح الكلب بصوت عال تمتد يد الإمام وحدها تحت الوسادة تتحسس المقبض، ويرتج قلب الكاتب الكبير تحت ضلوعه. أنامله الناعمة لا تعرف إلا ملمس القلم. يخاف الظلمة منذ الطفولة، وليس له أعداء، وأصدقاؤه كثيرون في حزب الله وحزب الشيطان، يغدق عليهم مما أعطاه الله، ويغذي الصداقة بالمال، والناس تناديه بالكاتب الكريم، وفي البيت تناديه زوجاته بالرجل البخيل. يدخل ليلة العيد بلا هدية، يداه فارغتان، وفي الصباح ينسى مصروف البيت، ويعود آخر الليل فاقد الوعي خاوي الجيب. تفوح أنفاسه برائحة الخمر وعرق النساء، وتنطبق الشفتان في وجوه الزوجات الشرعيات، لا تفتح الواحدة منهن فمها، وإذا فتحته فهي طالق، ينطقها ثلاث مرات وهو راقد، وفمه مفتوح وعيناه مغلقتان. تحمل الزوجة صرة ملابسها وتخرج إلى الشارع، وتأتي الزوجة الثانية تخاف الطلاق كالموت. يعرف الناس عن زوجها كل شيء وهي آخر من يعلم. تسمع الإشاعات لا تصدقها. تطرد من حياتها الوهم، أو تكتمه في الأعماق. تخشى أن تبوح به لنفسها فينقلب الوهم حقيقة، وتطبق فمها لا تفتحه؛ فإذا فتحته وقع عليها اليمين كالقضاء والقدر. وتأتي الزوجة الثالثة تخاف القضاء والقدر كأنه الله، وتصمت إلى الأبد ولا تسمح لنفسها حتى بالوهم، لكن الطلاق يأتيها كالمصير بلا سبب. وتأتي الزوجة الرابعة شابة صغيرة مرفوعة الرأس، ممشوقة القد كالغزال، تتربص للقضاء والقدر كالأسد، وعينها مفتوحة سوداء كالشيطان. قرأت الكتب وتاريخ الملوك والتراث وألف ليلة وليلة وجميع الكتب المقدسة. عرفت الله والشيطان وعرفت الجنة والنار، ولم تكن تخاف الموت، ولا تتعجل الذهاب إلى الجنة؛ فلم يكن في الجنة مكان لغير العذراوات.
تقدم إليها بعقد الزواج يرتدي وجه العذراء، يعرض صورته الكبيرة داخل البرواز، يخفي البخل بالكرم، ويخفي الخوف بالحب، ويعشق كأبيه في السر، ولا يذكر وجه أمه إلا عند الموت. وكان لأمه حب آخر خلاف الطبخ والزوج، تخفي الورق تحت السرير وتكتب القصص. جمعت القصة وراء القصة في كتاب واحد، أول كتاب لها وآخر كتاب. ومنذ الزواج لم تعرف أناملها ملمس القلم. وفي الليل بعد أن ينام أبوه تفتح الدرج أسفل المكتب، تتحسس يدها الغلاف، واسمه محفور فوق الورق كالكنز. تتلفت حولها متوجسة أن تراها عين، وتلتقي عيناها بعين ابنها الطفل، مفتوحة في الليل كعين الله ترقبها، وتخفي الكتاب في الدرج تقفل عليه القفل، وفي السرير ترقد على الطرف بجوار الحائط، وفي الطرف الآخر يرقد زوجها وبينهما الطفل، يغمض عينيه متظاهرا بالنوم. وفي الصباح يضربه أبوه ليحفظ دروس الأمس، ويخفي الطفل كأمه حبه لكتابة القصص. يدرس العلم كأنما العلم نقيض الأدب، ويحفظ كتاب الله عن ظهر قلب، وكلما حفظه أحبه أبوه وراحت عنه شبهة الفن. وفي الليل يحس أذن أبيه فوق صدره يتسمع خفقات القلب، يلتقط أي خفقة أو أي قطرة تسربت مع لبن الأم إلى الدم.
العشيقة
جاءت من بيت السعادة تلقي عليه نظرة أخيرة، وهو راقد يبتسم في الصندوق، ينظر إليها وفي عينيه بريق العشق. قالت نزوة يائسة أخيرة لا تفعل شيئا، وعشقه للنساء كمحاولاته اليائسة مع الفشل. دخلت واقفة تحوط رأسها بشعرها الكثيف تربطه بمنديل أبيض يتدلى منه الترتر، وحولت بصرها عنه إلى زوجاته الشرعيات، واقفات يرتدين ملابس الحداد. وجوههن متشابهة، وأياديهن الصغيرة البضة معقودة فوق قلوبهن، وأنفاسهن مكتومة، وسيقانهن فوق الكعوب الرفيعة ملتصقة، ولا تكاد تفرق الواحدة عن الأخرى إلا بدبوس فوق الصدر أو شارة على الكتف، والملامح ممسوحة، والرأس صغير، والردف ثقيل، والروح غائبة. واقفات صامتات ينظرن إليها بعيون جاحظة كعيون الضفادع أو السمك تحت الماء، وانفرجت الشفاه المطبقة في آن واحد، وسألن: من أنت؟ قالت وهي ترفع رأسها فوق عنقها بحركة كالشمخة، لم تعرفها الزوجات الشرعيات: أنا العشيقة جواهر. وارتجت أجسادهن فوق الكعوب الرفيعة، ومع ارتجاجة الجسد عادت الروح ومعها الوعي، ورأين في عينيها السوداوين بريقا موجعا كالصدق، اخترق عيونهن، ونفذ رغم الوجع إلى بؤرة في القلب، وهتفن بصوت واحد: عشيقة من فيهم؟ قالت : كلهم ، ابتداء من الإمام إلى حارس القبة والمنارة. واتسعت عيونهن بذعر، أخفينها تحت الأيدي، والتفت الأذرع حول الصدور تحكم إغلاق القوقعة، وهتفن بصوت كاللهاث: أنت الشيطان، وعقابك الموت. وأطلقن سيقانهن السمينة للريح، والكعوب المدببة تطرقع كالصواريخ، ولم يبق في الغرفة إلا اثنان؛ الزوجة الأخيرة والابنة غير الشرعية، واقفتان والأيدي متشابكة، وامتدت إليهما يد العشيقة، والتقت الثلاث في عناق. تشابكت الأذرع الست فوق الجسد الراقد في الصندوق، والابتسامة فوق شفتيه راحت، وملامح الوجه تلاشت، لم يعد يشبه وجه الإمام ولا الكاتب الكبير ولا رئيس الأمن ولا المعارض الشرعي، ولا أي رجل من حزب الله أو الشيطان. أصبح بلا وجه، أو هو وجوههم جميعا في وجه واحد ممسوح المعالم، لا تميز الواحد منهم عن الآخر إلا بشارة فوق الصدر، أو نجمة على الكتف، أو شيء على الرأس.
وفي مرايا الكون ظهرت صورة لثلاث نساء مرفوعات الرأس، مفتوحات العيون، والعيون واسعة سوداء كعين الليل، والقلوب تخفق بالحب، والأذرع متشابكة، والأيدي متماسكة، والثلاثة واقفات متعانقات ثابتات في الكون بلا حركة.
جواهر
في الصندوق وهو راقد كان ينظر إليها وعيناه تلمعان بالعشق، ويدها تدور على رأسه من القمة إلى السفح، ثم تزحف بطيئة فوق العنق. تدور حول رقبته كالخيط الحرير تشده حتى يشهق ويختنق، لكنه يضحك فتشده أكثر حتى يكف عن الضحك وتشوبه زرقة، فترتخي أناملها الناعمة من حول عنقه، وتزحف بين الشعر الأشيب الناحل فوق صدره لتمسك الخرزة الزرقاء باقية، لم يخلعها منذ علقتها أمه في الطفولة. تلتقطها بطرف الأنملتين كفكي الملقاط، وتقول: أمك خافت عليك من العين، وأنا أخاف عليك من الأذن. ثم تشده من أذنه وتضحك، وتلقي بشعرها الكثيف خلف ظهرها، وأذنه تشرئب مرهفة لصوتها يهمس بالعشق، وعينها ثابتة في عينيه حتى ينتصب الشعر في جذور الرأس، ويخفي منابت شعره الأبيض بلون أسود، صبغة من الحنة السوداء ترسلها إليه أمه في كيس من الدمور، يذيب المسحوق في الماء، ويصبغ خطوط الشيب حتى يصبح شعره بلون الليل، لكن الشعر الأبيض فوق صدره وأسفل بطنه يكشف حقيقة العمر. يتحسس التجاعيد فوق وجهه، وعيناه تتسعان بالدهشة، كأنما الشيخوخة تسربت إليه خلسة وهو غارق في النوم. وتلتقي عيناه بعينيها في المرآة، فتحرك رأسها بعيدا تخشى العدوى، كأنما الشيخوخة مرض تنتقل بتلامس العيون، وفي عينيها يرى نظرة الإشفاق على نفسها؛ فهي شابة تعيش، وهو عجوز ميت. ويحوطها بذراعيه ينشج بين نهديها: أنا مهزوم يا جواهر. وبيدها تبعده عنها. في أعماقها تدرك أنه يريد أن ينقل عجزه إليها، وبعد كل لقاء يزداد فشله، ومع ذلك يأتي إليها لا يكف، كنوع من الإدمان، كالخمر يشتاق إليها ولا يعيش أو يموت بغيرها.
لم يعترف لها بالهزيمة أبدا. كان قد أدمنها إلى حد الإحساس بالنصر، كالسم يبتلعه المدمن بلذة متزايدة. وحين يلتقي بها يرمق جسدها من تحت الثوب، في عينيها بريق كنصل السيف. تنظر إلى جسده الميت فتدب فيه الحياة تحت بريق العين، وينتفض بين ذراعيها كالفرخ المذبوح وهي لا تنتفض، ويقول: أنت امرأة غير النساء. وتقول: كيف؟ يقول: أنت امرأة لا تشعر بجسمها مع إحساسها الدائم بعقلها. ويتثاءب كأنما يداهمه النوم فجأة، ثم يفتح عينين مليئتين بالغيرة، يغار من عقلها أكثر من أي شيء آخر. يحاول اغتصابها، كأنما بالاغتصاب يستعيد التوازن، لكن عجزه يتأكد المرة بعد المرة، ويخرج من عندها يجري إلى زوجته الشرعية، يدفن رأسه بين نهديها وينشج كطفل في حضن الأم. تحوطه بذراعيها وهي غارقة في النوم. لا تفتح جفنيها، وتحس أنفاسه الساخنة فوق عنقها، فتدرك أنه محموم بالحب، ليس لها، وإنما لامرأة أخرى يعجز عن امتلاكها. وتكتشف وهي نائمة أن المرأة غير المملوكة لأحد هي معبودة الرجال؛ فهي الوحيدة القادرة على إيلامهم. وتقول لنفسها في النوم:
অজানা পৃষ্ঠা