وخلف عبد القادر باشا حلمي رءوف باشا (82-83)، ثم علاء الدين باشا، ثم غوردون الذي كانت مهمته إخلاء تلك البلاد فقط.
فأنت ترى مما تقدم أن المصريين تقدموا الإنكليز في كل شيء في الأقطار السودانية؛ فتقدموهم بمد السكك الحديدية، وفتح السدود، وإنشاء المدارس، وزرع القطن، وإبطال الرقيق وتمدين الأهالي، وإنشاء طرق المواصلات، حتى إن إسماعيل باشا كان يشتغل بتمهيد الطريق من وادي جوبا القائم الخلاف عليها الآن بين الإنكليز والطليان، إلى خط الاستواء.
وبعد أن استعيد السودان وجعل شركة بين مصر وإنكلترا في سنة 98 زار عباس باشا الثاني الخرطوم في 3 ديسمبر 1901 فألقى خطابه الذي تضمن الشكر للذين أتموا السكة الحديدية ومحوا سلطة التعايشي، وأعادوا الراحة والعدل، وقال: «إن العلمين الإنكليزي والمصري اللذين يخفقان معا هما إشارة إلى الحكومة المشتركة التي أخذت على عاتقها حماية الأهالي» وما شاكل ذلك فكان الفرق بين زيارة سلفائه وزيارته عظيما جدا كالفرق بين الحالتين، وزار اللورد كرومر معتمد إنكلترا - الذي أكره حكومة مصر على ترك السودان - تلك البلاد ثلاث مرات الأولى سنة 1899 والثانية 1900 والثالثة 1903 فألقى الخطب ووعد بالإصلاحات ... إلخ؛ لأن الأمر في السودان صار أمره، وفي تلك الخطب وضع البرامج للأعمال القائمة هناك كأعمال الخزانات وسواها، وكانت خطبه تحقيق نبوءة غلادستون سنة 1877 بقوله: «إذا نزلنا في مصر ذهبنا إلى السودان، وإذا ذهبنا إلى السودان مددنا أيدينا من خط الاستواء إلى جنوب أفريقيا، وأتممنا تأليف إمبراطوريتنا الأفريقية.»
السودان مصري فقط
قبل أن تكره حكومة مصر على إخلاء السودان بأمر الحكومة الإنكليزية عرض على عبد القادر باشا حلمي وهو وزير الحربية سنة 1885 أن يعود إلى السودان فيسكن ثائرته. فاشترط لذلك شرطين؛ الأول: أن يعطى 15 ألف جندي، والثاني: أن تتحول الحكومة الإنكليزية عن طلب الجلاء. فارتضوا بالشرط الأول ولم يرتضوا بالشرط الثاني؛ لأن الغرض لم يكن إعادة السودان إلى أمه مصر، بل إخراج من كانوا في السودان وهم نحو 40 ألفا من المصريين وسواهم، فأبت نفسه قبول هذه المهمة، وعبد القادر باشا تولى حكم السودان من سنة 1882 إلى سنة 1883، وتمكن من كبح جماح العصاة وإخماد الفتنة في سنار رغم ضعف قوته، وكان كلما طلب نجدة أجابوه أن الإنكليز حلوا جيش عرابي وليس لمصر جيش ثان، ولكن هذا القول لم يثبط همته حتى رأى أن خلفه وصل إلى الخرطوم بينما هو مشتغل بإعادة تنظيم سنار.
ولعبد القادر باشا كلمة تفضح سر عزله وردت في كتاب السودان لمؤلفه نعوم بك شقير قال: «سألت عبد القادر باشا: لماذا استدعيت من السودان وأنت ناجح في تدويخ الثوار وإعادة السلام إلى ربوعه؟» فأجاب: «إنهم اتهموني بالطمع بالاستقلال» وهذه الكلمة لا ندرك مغزاها إلا إذا عدنا إلى الروح التي كانت سائدة يومئذ، وتلك الروح هي روح الخوف من بقاء الإنكليز في مصر حتى أخذ بعضهم يجهر باستخدام السودان وما فيه من قوة لطرد الإنكليز من وادي النيل، وكان جمال الدين الأفغاني يتظاهر بذلك وينادي به ويدعو الرسل ليذهبوا إلى تنشيط المهدي محمد أحمد وتنظيم قوته لهذا الغرض، وشعر عبد القادر ذاته بممالأة فريق من الموظفين للمهدي والثوار عملا بهذه الروح فعزلهم، ولما سأل اللورد سالسبوري منشئ الأهرام عن ثورة السودان قاله له: «إنها ثورة؛ أي فتنة محلية جعلتموها أنتم الإنكليز بخطتكم وسياستكم ثورة عامة، فاتركوا السلطة للخديوي يستعد السودان حالا، وتخضع له جميع القبائل» ولم يكن شيء من ذلك يغيب عن الإنكليز كما أنهم يعرفون أكثر من سواهم أن والي مصر محمد سعيد باشا زار السودان في سنة 1858 وجهر في الخرطوم بأنه ينوي سحب جيوشه ورجال حكومته من تلك البلاد؛ فجاء مشائخ القبائل وأعيان السودانيين من كل حدب وصوب يتوسلون إليه بألا يفعل، وأعادوه عن عزمه الذي لم يفصح لنا التاريخ عن سببه حتى الآن. أليس في ذلك دليل على ميل السودانيين وتمسكهم بولاية مصر عليهم؟
إن سعيدا ذاته عين وهو في الخرطوم بعد ذلك الطلب الذي طلبه المشايخ والأعيان والوجوه كاتبه الأرمني أراكيل أفندي واليا على تلك البلاد فهب أولئك الأعيان ذاتهم للشكوى والفتنة «لأن الوالي عين نصرانيا حاكما لبلادهم» فلم يفعل أراكيل ما فعله غوردون وسواه؛ بل قصد الجماهير الحاشدة للثورة عليه، ووقف في جمعهم، وقال لهم: «إذا كنتم قد نقمتم على حكومة الوالي لأنه عينني حاكما عليكم فهذا دمي أريقوه، وظلوا على الولاء لحكومة مصر» فانطفأت جذوة غضبهم، وتحولوا من الفتنة إلى الطاعة، وتقدموا لخدمة الحكومة في ضبط الأمن والراحة في أنحاء السودان كله.
وهذا المهدي الذي مثلوه غولا قامت الثورة في جميع أنحاء البلاد لقيامه إذا أخذنا تاريخه عرفنا أنه كان كهؤلاء الذين يدعون المهدية في هذا العهد، فمنذ دخول كتشنر السودان إلى اليوم قام 15 مهديا في تلك البلاد، والتف حول كل واحد منهم جماعة من الناس لسذاجتهم، ولكن بعض الجنود تمكنوا من أخذهم من نواصيهم، وحادثة أبي السعود الضابط الذي أرسله رءوف باشا حاكم السودان إلى محمد أحمد يوم قيامه ودعوته مشهورة؛ فإن أبا السعود وصل إلى الرجل وهو في غار مع أصحابه فاحتقر أمره وتركه، ولو أنه أراد تكبيله أو التنكيل به لما عز عليه الأمر ولا صعب، ولكن الفتنة التي بدأت على ما رأيناها وأنكرها علماء السودان ذاتهم تحولت بعد ذلك وشملتهم جميعا للأسباب التي ذكرناها، ويثبت ما تقدم منشور ونجت باشا إلى السودانيين يوم تعيينه حاكما على السودان وسردارا للجيش المصري، وونجت باشا أكبر خبير بأميال السودانيين وعواطفهم، ولخبرته بهذه الأميال والعواطف لم يقل لهم أنه معين لإدارة بلادهم من حكومة جلالة الملك والخديوي، ولكنه استهل منشوره بالعبارة الآتية:
فإن سمو الأمير خديوي مصر عباس باشا حلمي الثاني - حرسه الله - قد اختارني لأن أكون سردارا لجيشه وحاكما عاما للأقطار السودانية بعد اتفاقه مع دولة بريطانيا العظمى على ذلك إلخ.
وختم منشوره بقوله: «والله المسئول أن يكون لي عونا على تنفيذ إرادة سمو الخديوي المعظم.»
অজানা পৃষ্ঠা