الشّيطان شيئًا أو يحاكيه فيما يبلّغه عن ربّه، والمنعم النّظر في كلام ابن حجر يعلم أنّه لا يخفى عليه ذلك، وأنّه إنّما ساق الرّوايات ليوهنها، وساق القصّة ليظهر عوارها! أمّا اختياره وترجيحه فقد قدّمنا أنّ العالم ليس معصومًا عن الزّلل ولا منزّهًا عن الخطل.
هذا وينبغي على من يقرأ الكتاب والسُّنَّة وسيرة السّلف الصّالح أن يجد ما يغرس في قلبه حسن الظنّ بالعلماء الأحياء منهم والأموات، فإذا رأت عينه عيبًا حمله على أكمل نيّة لهم، وأوَّلَهُ إلى أقرب معنى للخير، والتمس أحسن التّأويلات، وبرّر لهم واعتذر، إذ هم أَهْلٌ لذلك، والله تعالى أعلم بما في الصّدور! ﴿أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (١٠)﴾ [العنكبوت].
فقد أمرنا الله تعالى أن نقدّم حسن الظنّ دائمًا بإخواننا المؤمنين، قال تعالى: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ... (١٢)﴾ [النّور] فابن حجر لا يتعمّد مخالفة الرّسول ﷺ أو أن يكذبَ عليه متعمّدًا، وغزارة علمه وفضله يشهدان بذلك، لكنّه مجتهد، فإن أخطأ فقد عفا الله عن المخطئ في اجتهاد، بل أعدّ له أجرًا حسنًا، فلا يلام من أصاب أجرًا! والله نسأل أن يُؤْتيَ علماءنا أفضل ما آتاه مَنْ رجاه بخير نيّة!
فما أعظم أنْ يجلَّ العلماءُ بعضهم بعضًا! فالعلماء يتوادّون ويتراحمون كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ... (٩)﴾ [الحشر]، وكما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ... (١٠)﴾ [الحشر].
والعالم من عُدَّتْ هفواتُه، وأحصيت سقطاته، ويكفي العالم شرفًا وفخرًا أنْ تُعَدَّ معايبُهُ، كما قال يزيد المهلّبي:
ومن ذا الّذي تُرضى سجاياه كلّها ... كفى المرء نبلًا أن تُعَدّ معايبه
وابن حجر من جبال الحفظ الرّواسي الذي نذعن له بالفضل؛ فقد سَلَخَ من عمره قرابة الأربعين عامًا في الاشتغال بكتابه " الإصابة " وقد أشار إلى ذلك في نهاية الجزء