أعلم أن الخواص من خلق الله تعالى ثلاثة : عالم وعارف وناسك . فأما العالم فهو الذي علم وأطلع على العلوم الظاهرة فعمل بها فورثة الله بعمله العلوم الباطنة : مثل علم المحبة وعلم الشوق والرضى وعلم القدر وعلم المكاشفة والمراقبة وعلم القبض والبسط . فهذه علوم الصوفية الصافية الصادقة الوافية : مثل الحسن وسفيان والفضيل بن عياض وأبي يزيد البسطامي وأبي الحسين النوري وحبيب العجمي ومعروف الكرخي وشقيق البلخيى ومحمد بن حفيف وبشر بن سعيد وأحمد الخوارزمي وأحمد الداراني وحارث المحاسبي وسرى السقطي وأبي الحسين بن المنصور الحلاج والجنيد والشبلي وأبي نعيم القاضي . فهذه الطائفة الإلهية الذين نبغ ذكرهم ليسوا كالطائفة المشغولة بالعلوم والشهوات وصرفوا همومهم إلى الزيدية والقرصين فأتتهم المعاملات : بيضوا الثياب وسودوا الكتاب : صقلوا الخرق ولا نقلوا عن الخرق وجعلوا المرقعات شركا على الشهوات فهؤلاء هم الزنابيل وأولئك هم القناديل وأولئك تمسكوا بالواحد الشاهد وهؤلاء انصبوا إلى محبة الشاهد . أولئك هجروا المناصب وهؤلاء دبوا إلى المناصب أكثر . كلامهم اذهبو المذهب حتى يذهب والخلاف عندهم كورق الخلاف . الأصول عندهم فضول . والنحو عندهم محو أكثر علومهم الرقص والشبابة لا يفرقون بين القرابة والصحابة فما أكثر عيوبهم لقد نسوا محبوبهم تشاغلوا بمأكل الدويرات . ونسوا مدارج الطاعات نصبوا السجادات لأجل الخلق ونسوا الله والحق فهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث : إن الله ينزع مرقعاتهم ويعلقها على أبواب الجنة ويكتب عليها مرقعات زور . تركوها مناصب للاكتساب وهبوها لكلب أهل الكهف واقتسموا جلده عليهم عوضا من مرقعاتهم ، فهؤلاء صوفية الدنيا وأولئك صوفية الأخرى . جمعوا بين العلم والعمل وسهروا حتى ظفروا . قالوا : فنالوا . صدقوا فحققوا . علموا ثم عملوا . فجمعوا بين المقال والحال . فهم أهل العلم والمغفرة . والنسك والزهادة فأحدثت لهم جميع هذه الحالات خاصية قوة الهيئة . فطاروا بأجنحة الاشتياق إلى رياض القدس وحظيرة الصمدية فاقتطفوا علوم الغيب . فقالوا هؤلاء فقراء الآخرة وصوفيتها الذين علموا أن النعمة هي من المنعم فتركوا الأسباب جوانب . وأما علماء الآخرة فمثل الحسن البصري وسفيان بن عيينة والثوري صاحب المذهب والطائي الطاهري وأبو سعيد الخدري وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ومالك بن أنس المدني ومحمد بن إدريس الشافعي المطلبي وأحمد بن حنبل الشيباني والمزني وابن شريح والحداد والقفال وأبو الطيب وأبو حامد وأستاذنا أمام الحرمين أبو المعالي والجويني والشيخ الإمام أبو إسحاق إبراهيم الفير وزابادي المعروف بالشيرازي . فقد جرى له مع شيخنا نوبة عند السلطان وكنت أحضرها فما رأيتهم طلبوا بالمناظرة غير إظهار الحق لا غلبة ولا صقل كلام ولا نقص في الخبر النبوي ولا تأويل باطل في متن آية ولا مزاعقة ولا مخاصمة بل هو على طريق الفائدة والمباحثة فأولئك من علماه الآخرة الذين شبهوا صحب رسول لله صلى الله عليه وسلم بترديد الفتاوى من واحد إلى واحد وقالوا أميركم أحق بالتقليد ونحن علماء السوء نشتغل بسواد الريقة وبرى القلم والتصدي والتحدي وذرب اللسان وسواد الطيلسان وقعقعة الثياب وطول الأردان وسعة أكمام والصيحة والدهشة وذكور إناث العجم : ولا ينبئنك مثل خبير . فأنظر القوق بين الطرائف والفرق : أليس في الحديث من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة . فنحن لا بيوت ولا تخوت ولا حور ولا سخوت : رأى الشافعي مناما وكان قد تكلم في مسألة مع أبي يوسف فرأى كأنه قد أدخل الجنة فرأى حورا وهي تشرق للعرصبة من نورها : قال لمن أنت فقالت لمن ترك المراء وهو محق ثم ولت وهي تقول : خلطوا الحق بالقبائح زورا . . . ثم مالوا إلى المراء نسورا ثم راموا من الإله بدورا . . . قد فجرتم من المقال قبورا أيا مالكم تنالون دورا . . . سوف تجزون في المعاد فجورا و طلبتم من الإله أجورا . . . سوف تلقون في الجحيم أجورا ثم قالت : يا شافعي ما تنال بالقال والقيل هذه الثياب والخلاخيل . إن كنت صادقا وتريد أن تكون للجنة مالكا فعليك بالعلم والعمل . مثل مالك فمن أراد الممالك يصبر على المهالك . ثم انتبهت فعلمت أن مراء هؤلاء لا يقود إلا إلى الهوى . والآخرة عند ربك للمتقين وفي الحديث إن العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا أرتحل . فهؤلاء علماء الدنيا وعلماء الآخرة وفقراء الدنيا وفقراء الآخرة وأنت مشغول بالكرم عن الكرامات . وبالقصور عن القصور العاليات . أنت مثل الذئب وهمك في التشكيك والتكذيب . سوف ترى إذا انجلى الغبار . . . أسابق تحتك أم حمار أما العلوم فكثيرة أقربها ما دل على الآخرة : مثل علم الشريعة وتفاسير الواحدي وأمتان الصحاح وقراءة القرآن ومحافظات الأوراد المذكورة في كتب الأحياء . وإن أردت حسن العقيدة على وجه الاختصار فعليك بلواقح الأدلة وهو لشيخنا إمام الحرمين . وإلا قواعد العقائد . وإن أردت سلوك طريق السلف الصالح فعليك بكتاب نجاة الأبرار . وهو آخر ما صنفناه في أصول الدين . وقد ذكرنا لك التصانيف في معرض هذا الكتاب فأقرا ما شئت وأعمل ما شئت فإن اللقاء قريب . وأعلم إن فصول السنة معروفة : مثل صيفها وخريفها وشتائها وربيعها . فمن الحمل إلى الجوزاء ربيع ومن السرطان إلى آخر السنبلة صيف ومن الميزان إلى آخر القوس خريف ومن الجدي إلى آخر الحوت شتاء : وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه هذا الهواء إذا أقبل فتلقوه وإذا أدبر فتوقوه فإنه يفعل بأبشاركم كما يفعل بأشجاركم : أوله مورق وآخره محزق . ففي العلوم ما يضر مثل العمل بالسحر والكهانة وصبغ الصفر فضة يضر في الآخرة إذا قلبها فضة بالصناعة وباعها وفي المكاسب مكاسب خسيسة تأباها النفوس : كالغسال والحفار والكناس . والحجام ، والصنائع من جملة العلوم المفهومة التي تعينك على طلب العلم الأخروي فكن عالما عاملا : تنال المقصد الأسنى في دار الله الحسنى هنالك تستقر نفسك من غير ضجر : في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
পৃষ্ঠা ৯৭